الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المنهج الجينيالوجي عند فريدريك فلهلم نيتشه

المعانيد الشرقي
كاتب و باحث

2015 / 8 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


شكل الفكر النيتشوي على مر العصور طريقة فريدة في التفلسف على غرار بعض الفلاسفـة السابقين عليه كهيراقليدس على سبيل المثال، و قد صرح بذلك نيتشه بنفسه قائلا: " أنا لست إنسانا ، أنا عبوة ديناميت أتفلسف بضربات المطرقة". ثم أضاف " إني أكتب لفلسفة للمستقبل ، و ستخصص كراسي لتدريس الفكر النتشوي... أنا شيء و كتاباتي شيء آخر إني سابق لأواني ...". فهو عندما قال هذا الكلام ليس من باب الترف الفكري أو ما شابه ذلك، و إنما قال هذا، لأنه اكتشف بعض النواقص في تحليل قضايا الفكر الفلسفي السابق خصوصا مع أفلاطون بالتحديد، كما تمرد على أغلب الأنساق الفلسفية الماضية محطما أغلبها بمطرقته، بحيث لم يترك نفسه يبقى نكرة كما كان يردد. و لما كان كل عمل يقتضي من صاحبه طريقة أو منهج ، فكذلك عمل نيتشه كما هو معروف لدى دارسيه على وجه الخصـوص، و دارسي الفكر الفلسفي عموما ، فقد استهوته الكتابة الشذرية و التفكير الجدري فاتـخذ المنـهج الجينيالوجي طريقة له في الكتابة، أو بتعبير آخر النقد الجينيالوجي من خلال مجموعة من المسائـل و المفاهيم، مثل مسألة النفس و الجسـد و مسألة القراءة و مسألة الحقيقة و الميتافيزيقا و الأخلاق. فما المقصـود بالمنهج الجينيالوجي عند فريدريك فلهلم نيتـشه؟ و كيف اشتغل نيتشه بهذا المنهج؟ و مـا هي المفاهيــم المركزية التي كانت محط اشتغاله؟
الجينيالوجيا1 إذن قراءة تقوم على مفهوم التفكيك، تفكيك نموذج القول الذي قام عليه فعل التفلسف الذي يتميز بإجراءات إقامة التطابق بين المعنى والقيمة، و إجراء كبت الجسد وإقصاء البعد البلاغــي للخطاب الفلسفي. وكانت غاية تأسيس التفلسف على هذه الإجراءات حرمان الإنسان من البصــيرة الفعلية للإنسان. لقد تم إضعاف نور عين الإنسان، حيث حصل حرمانه من رؤية ما ينبغي رؤيته. بـل حدث"ضمور معمم لجميع الحواس". و إضعاف"مُمَنْهَج لكل عضو حسي". الجينيالوجيا تفكيك ناقــد لمنطق الهوية الناهض على ثنائيات متعارضة، الصدق/الكذب، الخير/الشر، ظاهر/باطن، داخل/ خارج، الأعلى/الأسفل، الحق/ الوهم، الجوهر/العرض، الدال/المدلول، الجسد/الروح، النموذج/النسخة. الأيقونة / السيمولاكر. و من جهة أخرى يتحدد معنى كلمة جينيالوجيا في كونها دراسة النشأة و التكوين لإثبات النسب و الوقوف عند الأصل، وليس المقصود بالأصل هنا أن الجينيالوجيا شجرة أنساب. هذا ما يؤكده نيتشه نفسه في كتابه (جينيالوجيا الأخلاق) " إن الأمر يتعلق هنا بتأملات حول أصل أحكامنا الأخلاقية المسبقة." و تبعا لذلك ستصبح الجينيالوجيا حسب المفكرعبد السلام بن عبد العالي2 في كتابه "أسس الفكر الفلسفي المعاصر" هي دراسة نشأة الميتافيزيقا، و القيام بعرض تاريخي للوقوف عند الأصل الذي صدرت عنه، هذا الأصل الذي يكون قد غذاها منذ البداية فطبعها بطابعه و وسمها بميسمه. يقول هيدجر في كتابه عن نيتشه: " لا يعني الأصل هنا السؤال: من أين صدرت الأشياء؟ بل أيضا كيف تكونت؟ . إنه يعني الكيفية التي تكون عليها. فلا يدل الأصل أبدا عن النشأة التاريخية التجريبية." فهذا ليس تمجيد للبدايات و الأصول، إذ أن ذلك سيغرقنا في الميتافيزيقا و التي تعتقد أن الأشياء كانت كاملة في بدايتها. و هذا ما أكده ميشال فوكو في كتابه ( نيتشه، الجينيالوجيا و التاريخ) " إن الأصل يوضع دوما قبل السقطة ، قبل العالم و قبل الزمن." فإذا لم يتق الجينيالوجي في الميتافيزيقا نفسها فإنه لا محالة سيدرك أن وراء الأشياء شيء آخر، قد يكون بدون ماهية أو قد يتكون شيئا فشيئا ، فما نجده في البدايات التاريخية للأشياء ليس بالضرورة هويتها الأصلية. فالجينيالوجيا بهذا المعنى تضع نفسها في مقابل الميتافيزيقا ، إنها تاريخ مضاد للتاريخ الميتافيزيقي بتعبير الأستاذ عبد السلام بن عبد العالي ، فهي لا تؤسس، بل على العكس من ذلك، إنها تقلق ما تعتقده الميتافيزيقا ساكنا و تفتت ما تظنه موحدا، و تظهر التنوع في ما يبدو منسجما. و في هذا الصدد يقول نيتشه: " الجينيالوجي طبيب و مشرع و فنان ، فما أن يســمع بالتفاضلــيات أو بالفضيلة و الخير حتى يستحضر استراتيجيات الهيمنة". أي أن هناك صراع للقوى و كل قوة تريد أن تسيطر على غيرها، و هو ما يسمى في فلسفته بإرادة القوة، أو لعبة إرادات. و ما ينصرف على مفهــوم الإرادة ينصرف على مفهوم الحقيقة، حيث يعتبرها نيتشه أوهام نسينا أنها كذلك... و يؤكد هذا الطرح مـن خلال قولته: " إن الحقيقة تقتل، بل أكتر من ذلك إنها تقتل نفسها عندما تكتشف أن أساسها هـــو الخطأ."
كما تنظر الجينيالوجيا إلى المنطق المؤسس للخطاب الميتافيزيقي ليس بوصفه نظرية في القـول السليم أو ليس بوصفه مجرد منهج، و إنما يتجاوز الأمر ذلك إلى اعتباره نظاما معرفيا ذي لغـة و مفاهيم مستلهمة من النموذج العلمي الصوري الهندسي أساسا، أو المنطق كرؤية فلسفية تضـفي على العالم التماسك و الانسجام ما يلبي طموح العقل. فإذا كان النقد الجينيالوجي مع نيتشه هو تفكيك لخطاب الميتافيزيقا ، فكيف يمكن فهم النقد مع فريدريك نيتشه؟
يشكل النقد حسب نيتشه فن اختراق الأقنعة و ذلك بالنظر إلى العلامة باعتبارها مادة سيميولوجية قابلة للتأويل، و اللغة كلها علامات و رموز تدل و تعني بتعبير من استعملها و كذلك تبعا للقوى التي أنتجتها ، هكذا فالنقد عند نيتشه هو نقد سيميولوجي يأخذ اللغة أداة له، و دليلنا على ذلك سيبدو واضحا من خلال سوق هذه المقولة الشهيرة لنفس الفيلسوف أعني ( نيتشه )" إن الدودة التي ندوسها بأقدامنا تنطوي على نفسها لتختزل إمكانيات أن ترى نفسها مداسة ثانية تلك ما يسمى في لغة الأخلاقيين تواضعا ." و لما كان النقد فن للتأويل، بحيث يعمل على إرجاع النموذج إلى الأصل الذي قام بتأسيسه داخل تراتبيات قيمية مضبوطة، و لأن الترتيب نفسه يخضع لصراع القوى من أجل تصنيف المعاني، فإن النقد النيتشوي يصبح بتعبير "ميشال فوكو" حفر و تشريح لما يؤسس لتاريخ المعـنى و الحقيقة أو حفريات المعرفة . يقول نيتشه في هذا الصدد:" ليست قيمنا إلا تأويلات أقحمناها في الأشياء . هل يمكن أن يكون هناك معنى في ذاته؟ أليس كل معنى نسبيا، أي منظورا؟ كل معنى هو إرادة قوة."
هكذا فالجينيالوجيا حسب فريدريك فلهلم نيتشه لا تنظر إلى الميتافيزيقا كمعرفة، فهمها ليس هو البحث عن الحقيقة و تاريخها و إنما همها في المقام الأول هو البحث عن إرادات الحقيقة، فالميتافيزيقا عندها أخلاق و لغة ولما كانت الأخلاق هي النظرية التي تخص التراتب بين البشر ، و بالتالي فإنها نظرية حول قيمة أفعال هؤلاء البشر أنفسهم وفق ذلك التراتب الذي يتدرجون داخله، وهذا ما نجد له صدى في كتابه "إرادة القوة" . فما دامت الميتافيزيقا أخلاق فإنها لا تنفلت من النقد الجينيالوجي الذي يعتبر أن إنتاج الحقيقة لا ينفصل عن مفهومي القيمة و القوة، فقيمة شيء ما في هذا الوجود متوقفة على المعنى الذي نعطيه إياه. و بالتالي فأصالة نيتشه تكمن في كونه لا يريد مجاوزة الميتافيزيقا بميتافيزيقا أخرى أو تفنيد هذه الأخيرة تحت دريعة رفض الحقيقة، فهو لا يرفضها إطلاقا ، وإنما يرفض فصل الحقيقة عن الخطأ فصلا وضعيا، إذا فالنقد الجينيالوجي حسب ما سلف هو خلخلة و تقويض و وسيلته في ذلك هي المطرقة و لكن أي مطرقة هذه؟ إنها مطرقة الطبيب، هكذا يمكن القول بأن نيتشه فيلسوف و طبيب للمجتمع في الآن نفسه. و يبدو هذا واضحا عندما كان مدرسا بأرقى الجامعات بسويسرا خلال القرن 19 م و بالتحديد جامعة بازل، و لما تم استجوابه عن السنوات التي قضاها مدرسا هنالك فأجابهم " أستطيع أن أروض كل دب و أجعل من الحمقى أناسا مؤدبين ، و من أكسل الكسلاء أناسا مجتهدين، فخلال السنوات التي قضيتها في بازل لم أعط عقوبة قط."

هوامش

1. الصديق محمد أندلسي، الفلسفة من منطق العقل إلى منطق الجسد.
2. دكتور مغربي متخصص في الفلسفة درس بجامعة محمد الخامس بالرباط له العديد من المؤلفات الفلسفية و الفكرية منها ( أسس الفكر الفلسفي المعاصر)









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أصفهان... موطن المنشآت النووية الإيرانية | الأخبار


.. الرئيس الإيراني يعتبر عملية الوعد الصادق ضد إسرائيل مصدر فخر




.. بعد سقوط آخر الخطوط الحمراءالأميركية .. ما حدود ومستقبل المو


.. هل انتهت الجولة الأولى من الضربات المباشرة بين إسرائيل وإيرا




.. قراءة عسكرية.. ما الاستراتيجية التي يحاول جيش الاحتلال أن يت