الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية - هيكل هبوط القمر (12)

حمودي زيارة

2015 / 8 / 31
الادب والفن


بعد السنة الثالثة لوصوله الى جبهات الجبل، أشتد القصف على مغاراتهم ومواقعهم لمدة يوم كامل، الهجوم كان عنيف ومحكم، لذا وجب أن يتركوا المكان ليلاً، ويدهنوا أنفسهم في سواد الليل، ولكن الطيران الكثيف أستمر يطاردهم بحصافة. بيمان أحس بحجم الخطر الكامن في حميم القذائف، فعليه أنفصل عن فصيله دون أن يعرف، أين أنصرف كلبه، بعد أن رمى بنفسه الى أسفل الصخرة التى ترقد على عمود الجبل، وأخذ طريقاً متوارياً بين الأشجار لوحده. أستمر في الهروب لساعات طويلة، سكب جلده الزنخ، دموع غزيرة من التعب الذي نخر قلبه، حتى وصل الى مشارف قرية ضمن الحدود التركية.
************

كان الليل يسابق لهاثه وخطواته الواهنة. رمى جسده خلف تلة واطئة، تظلل القرية الغارقة في طوفان الليل. أستلقى كالصمت في الهدوء، يتوسل أنفاسه أن تكف عن جلد صدره. وعن أوهام الخوف من اللحاق به، من دون أن يعرف ماذا نزل برفاقه. وقبل أن يدرك الليل أنوار الفجر. الليل الذي ألقى عليه ظلامه، وأنقذه من نواظير الطيران الليلي. تمكن سبات النوم بعنوة من أغراء جفونه. وإيقاع وعيه في بئر النعاس. وعلى ثغاء الأغنام وأجراسها، في تباشير صباح اليوم التالي، تنبه من نومه بأرتباك وقلق، وقد قبض الخوف على قلبه وكبل أعصابه. تحرى مكانه بنظرات حادة وفزعة. جال بصره على بدلته، تنفس الصعداء، بعد أن تأكد من عدم وجود بقعة دم في نسيج ثيابه. بندقيته مازالت ترقد في قبضته، رفع رأسه بحذر من خلف التلة، الى ناحية الثغاء. رأى قطيع من الأغنام تنتشر بحقل واسع وأخضر أسفل منه. وتمايل فتاة جميلة، تكسو أنثوة جسدها الأهيف، ثياب ريفية زاهية الألوان، على مبعدة، تطارد بقية القطيع بحنان مرهف. أخذ يراقبها لساعات، كأنه آدم لحظة تجلي حواء له. ناسياً متاعب ليلة الأمس. داهمت قلبه الخائف أوراق الأحلام، بدأ خياله يكتب بأنشراح ونشوة، على أوراق أحلامه، رسمها بثوب قشيب تزينه ثلاث خطوط، أطلق من حولها العصافير وضوء الملاك، ورتل عليها أحراز الهيكل، رمى بندقيته تحت قدميها، زارعاً خراطيشها ممرات حدائق فرسيليا لخطواتها الرقيقة، ركب معها سويوز لترى قريتها الراقدة في النسيان، من الفضاء. بنى لها مملكة في عالمه الذي يحلم به. قاتل غرمائه رغم جراحه، يرافقه سوزدار، يقتحم الحصون، ليعتقها. وعلى حين غرة، هز قلبه نبض خاطف، عندما ثقب سمعه، صوت شجي، بدد هيامه، ما أن راحت الفتاة تغني ما بين الأدغال وثغاء القطيع، عن حب تحلم به كل ليلة، تعقص له شعرها بنقيع الورد، يأتي مع سنابل القمح، يوشم صورتها على ذراعه، تشعر به مع قطرات الندى. يتماثل لها كضوء الشفق في نهاية الظلمة. نزت دمعة منه ، قذفها قلبه الحزين الى عينيه، وكأنها تغني عنه. لم يطاوعه قلبه بالأقتراب منها، عندما أغوته خوالجه، أمسك بهياجه الجامح في ذلك اليوم، لئلا يفتضح أمره. كان يخاف أن يُمسك هنا ضمن حدود تركيا، وُيسلم الى بلاده، وحتماً سوف يُقتل كما فعل بأبيه. وعلى كلمات شفيفة شرعت الفتاة ماشية نحو قريتها، تابعت الأغنام تطارد خطواتها. قلبه راح يتلظى من حرقة فراقها، دون أن تشعر به. حينئذ دفنت الشمس قرصها في قاع الليل. وجد نفسه وسط السهل، كأي عشبة لكنه دون جذور. مال الى الحزن، في خلوته، أنئذ أنتزع كسرة خبز من ثيابه، بعد أن قرصه الجوع، حاول أن يبحث عن شئ يأكله في الأحراش التي تزين المكان، وجد بعض النباتات أوراقها طرية، تذوقها بنهم. لم ينم ليلته، سهر يساجل قرارة نفسه، عن الأقتراب من الفتاة والحديث معها في اليوم التالي . تعثر الليل في سواده كثيراً ، بدأ قلبه يتطلع الى ضوء النهار كخطوات الدروب، لم يتذكر بأنه أنتظر طويلاً كليلته هذه. لاحت من بعيد قبيل أنتصاف النهار، تراقص قلبه على لهاث نبضاته. كَمَن في مكانه بهدوء يحاول أن يضبط مشاعره التي لم تطرق باب العشق من قبل. الدولة أستلبت كل شئ منه عقب مقتل أبيه، أبدلت حياته ببندقية وغضب.
************

أقبلت تتهادى كموجة لدنة، جلست في ذات المكان، أنكبت الأغنام تقضم الأعشاب. أصلح بيمان نفسه، ترك بندقيته، أفرد قوامه، أخذ يدنو بخطى مترددة، ألقى عليها التحية من مسافة فاصلة. أنتبهت، نهضت بفزع، حذفت نظرات قلقة نحوه. أخذ يتحدث بسرعة، وبصوت كسير، كيما يوحي لها، بأنه لا يضمر نية سيئة. أصغت له بقلق، بعد أن تسمرت في دهشة غريبة. أدعى بيمان:
- بأنه أضاع الطريق، حيث يسكن خلف الجبل (الذي أشار أليه بأصبعه) الشئ الذي يريده في الوقت الحاضر، بعض من الأكل.
قاسمته قوتها، عندما تناولت خبز وخضار من قطعة قماش ناعمة، ودفعته له، وقالت:
- وماذا سوف تعمل ، هل سترجع الى قريتكم( سألته بدماثة مفرحة).
رد بصوت خفيض:
- بأنه سيقضي الليل خلف تلك التلة.
تبسمت بهدوء. طارد بيمان الأغنام الشاردة عن القطيع، ليترك صورة وديعة في ذهنها. تركت معه خروف كث الصوف، ليساعده على الدفء، ربطه بجانبه، وفي الليل نام بجنبه. في اليوم التالي، أتت مبكرة، قبل أن يتبدد الضباب. ركض الخروف بأستغراب نحوها، ماأن حل وثاقه. نزل بيمان من مكمنه، يخطر في مسارب الأعشاب. تبسمت في وجهه، عندما ألقى عليها التحية. فرشت قطعة من القماش، دعته أن يتناول الفطور، تفاجأ، عندما سكبت له كوب من الشاي. ساوره شعور لطيف ، لهذا الأهتمام. لذا تجرأ أن يسألها عن إسمها، نسرين أجابت بعد أن وضعت رأسها الى الأسفل. تلاشت غلالة الشك، والتخوف بينهما. أفضى لها بكل شئ، عن حقيقته. أخذت نسرين تتأخر بعض الشئ، مما أثار أستغراب عائلتها وبالذات تناسل الأستغراب، عندما رأتها جارتهم مع بيمان. بيد أن نسرين جلبت له كل ما يحتاج من فراش، وبعض الأكل. لم تخرج الى البرية، أجتاح بيمان القلق والشوق. ظهرت من بعيد في اليوم الرابع، حاول أن يدركها، لكنه فضل أن ينتظرها، صاحت عليه، ركض كالطفل نحوها، بكت، عندما بدأت تتحدث عن أمتناع أهلها للخروج، لأنهم سمعوا من جارتهم المجنونة التي فقدت عقلها بعد أن ضربها زوجها على رأسها بوثاق الحصان الحديدي، لهذا أخذت بشكل دائم تطوف في ضواحي القرية والحقول والمراعي. تردد في الطرقات:
- رأيت نسرين مع رجل غريب.
قالت له نسرين:
- حجزني أبي في البيت، ليراقب مشاعري، في حالة الغضب أو التوتر.
أسر بيمان بفكرة الهروب معه. بكت من هول الفكرة، وقالت:
- لا أستطيع، فليس في بيتنا من يساعد أهلي.
رد شاكرا:
أذن سأبقى طول حياتي هنا خلف التلة أنتظر مجيئك كل صباح.
حزنت لجوابه. بعد أسبوع من التمنع، وافقت على الفكرة. رجع بيمان مع نسرين الى قريته. يخبأ نفسه في الظلال والليل والجدران، وكوخ طالب. بكت نسرين بمرارة عندما ألقت النظرة الأخيرة لقريتها، وأغنامها.
************








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع