الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا بديل عن دور الدولة

السيد شبل

2015 / 8 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


لا أعتقد أن منصفًا، منحاز إلى مصالح وطنه، متحررًا من أسر الأيدولوجيات الليبرالية الحديثة، يمكن أن يجادل في أن للدولة دور لا يمكن استبداله مطلقًا، هذا الدور لا يقتصر على تقديم الخدمات الأساسية، وإنما لا بد له أن يمتد ليسيطر على السوق ويضبط إيقاعه في موازنة دقيقة تتحاشى طمس دور القطاع الخاص، وتتجنب في الآن ذاته ترك الساحة له منفردًا يعيث فيها كيفما يشاء دون وجود خطة اقتصادية تنموية شاملة يعمل في ظلها، محاطًا بالقطاع العام، منضويًا فيه.

انسحاب الدولة التدريجي الذي جرى في الأربعة عقود السابقة ليناير 2011، لم يكن ناجمًا فقط عن سوء تقدير واختلال في ضمير الحاكم، وإنما كان تنفيذًا حرفيًا لإملاءات أجنية جاءت عبر صندوق النقد والبنك الدوليين، حيث كانت الأوامر قد صدرت بتصفية القطاع العام، خطوة تتلو الأخرى، بداية من منتصف السبعينات، فتم التنفيذ. علمًا بأن القطاع العام في ذلك الوقت لعب المهمة الرئيسية في تمويل القوات المسلحة وتوفير نفقات حروب التحرير، وتلك معلومة تجعل الإلحاح الغربي على تفكيكه منطقيًا. ولولا أن المؤسسة العسكرية رصدت الخطر مبكرًا، والتفت حول قوانين الخصخصة وأمّنت لنفسها وللمجتمع من خلفها جدارًا صلبًا يتمثل في جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، لكان المجتمع المصري وبدون أية تهويلات يستند اليوم إلى الفراغ، ولصارت مصر سوق كبير يباع فيه كل شيء بداية من كرامة الجندي ومرورًا بشرف السياسي وحتى عقلية المثقف وانتهاءًا بما لا نهاية له.

وكان من البديهي، أن تتربص دوائر صنع القرار الغربية، بالمؤسسة العسكرية المصرية، كونها أفلتت ومن ثم جذبت معها الدولة ككل، بعيدًا (بالنسبة طبعًا) عن أسر الشركات الدولية عابرة القارات (إمبراطوريات العصر الحديث) التي صارت لها الكلمة العليا اليوم، فتحرض على الحروب.. وتمول نفقاتها.. وتعزل حكامًا.. وتعين آخرين وتفرض على ملايين بأكملها النزوح أو اللجوء دون أن يطرف لها جفن.. فالمهم هو المكسب لا أكثر ولا أقل.. شأنها شأن أي تاجر واسع النشاط لم يتدرب على كبح جماح شهواته.

عود على بدء، نلمس الآن أكثر من أي وقت مضى الآثار السلبية التي ترتبت على انسحاب الدولة في العقود الماضية من مسؤولياتها، وتخليها عن أدوارها في ضبط الإيقاع الاستهلاكي وتوجيه العملية الاقتصادية، لا تقتصر تلك الآثار على ارتفاع الأسعار وحدها وما يمثله ذلك من أعباء مضافة على أرباب الأسر، وإنما يمتد بشكل أو بآخر ليهدد تماسك المجتمع ووحدته، من خلال بروز الفوارق الطبقية بشكل يشبه ما كان عليه الحال قبل يوليو 52، مع توحش وإفراط ملموس في الاستهلاك وتوجه أغلبيته لسلع ترفيهية غير إنتاجية.. هناك، أيضًا الفراغ الذي خلقه انسحاب الدولة من مهامها، والذي أتاح لحركات التأسلم السياسي الفرصة الكاملة لشغله، ليس لوجه الله، كما يزعم قادتها، وإنما لحظ نفوسهم التي تطمع في الرياسة والهيمنة على الخلق.

إن ترك المسائل هكذا تجري بغير تخطيط، وبدون ضوابط أو قواعد تنبثق من حاجة الناس وواقعهم، لن يثمر فلاحًا على أي وجه، فلن تصحح التجربة أخطاء ممارسيها، فقط ما سيجري هو أن الدولة الوطنية ستتنحى عن موقعها كمخطط للاقتصاد وآلية توظيف الموارد وإلخ، ليشغله غيرها من القوى الدولية التي تتربص وتتحين الفرصة لتقفز على أي بلد من البلدان لتستولي على مقدراتها عبر آليات نهب ممنهجة تتخفى وراء شعارات الاقتصاد الحر والليبرالية الاقتصادية؛ إذن فالتخطيط للعملية الاقتصادية سيبقى.. فقط ما سيتغيب هو مصلحة الجماهير وحقها في خيرات بلادها.

لا شك أن الدولة قدمت خلال الفترة الماضية نموذجًا في قدرة القطاعات الحكومية، ممثلة في الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، على المنافسة. حيث أثبتت قدرتها على وكفاءتها في تنفيذ (بالإشراف والإدارة والمشاركة) مشروع القناة الموازية الجديدة بطول 72كم، وكان في هذا ثمة رسالة على القطاع الخاص أن يلتقطها ويستوعبها ويجهز نفسه للتعايش معها. كذلك فعلى الدولة أن تعززها وتطورها وتؤكد أن هذا مسارها الذي تنوي السير فيه، وإلا تتحول إلى خطوة على الرمال يزول أثرها مع أقل نسمة هواء.

ليست القضية قضية كلمات وشعارات تلوكها الألسن، كعادة لغوية، بين الحين والآخر، وإنما قضية شعب يريد أن يشعر بحضور دولته أكثر في مختلف النواحي، في مقدمتها الشأن الاقتصادي كون الآثار المترتبة عليه تنسحب على مختلف النواحي.

كذلك لا يمكن السماح لثقافة السوق أن تستمر وتنتشر أكثر من ذلك، وليس مقبولًا أن تستمر عملية الاستنزاف للمواطن المصري بالشكل الذي يجعل آدميته ذاتها مهددة وفي طريقها للاندثار. لا بد أن تُفسح له المساحة ليتنفس بعيدًا عن الخنق المادي. ولا بد للدولة أن ترعاه ثقافيًا وفنيًا ووجدانيًا، وأن تخلي له ما يؤهله لممارسة حياته الطبيعية كإنسان يؤثر ويتأثر ويتفاعل دون أن يكون عنقه في كل لحظة مهددًا بالبتر تحت ساطور التجار. صحيح أن صندوق التنمية الثقافية التابع لوزارة الثقافة، وعبر فعاليات عدة، يقوم بدور يستحق الإشادة في رعاية وتدريب مواهب شابة، وفي الإعداد لندوات تثقيفية، وفي تنظيم مهرجانات فنية وثقافية تحافظ على الهوية الوطنية بسلاسة وبدون تصنع، لكن مثل تلك الأمور الجليلة لا تعطي أثرها المطلوب في مناخ تحاصره الماديات من كل جانب، وتلوثه سلوكيات سوقية عديمة الذوق صارت تنتشر في الشارع، فتخصم من المعاني الإيجابية التي طالما جسدها الشارع والحارة والزقاق في مصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القادة الأوروبيون يبحثون في بروكسل الهجوم الإيراني على إسرائ


.. حراك تركي في ملف الوساطة الهادفة الى وقف اطلاق النار في غزة




.. رغم الحرب.. شاطئ بحر غزة يكتظ بالمواطنين الهاربين من الحر


.. شهادات نازحين استهدفهم الاحتلال شرق مدينة رفح




.. متظاهرون يتهمون بايدن بالإبادة الجماعية في بنسلفانيا