الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد النقد رواية (سيرة ظل ) للروائية نضال القاضي تقديم / بشير حاجم نقد / مهند طالب الدراجي

مهند طالب الدراجي

2015 / 9 / 21
الادب والفن


نقد النقد
رواية (سيرة ظل ) للروائية نضال القاضي
تقديم / بشير حاجم
نقد / مهند طالب الدراجي
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
التقديم :
بشير حاجم
إنْ أُريدَ لرواية ما، أية رواية، أن تكون تحديثية، "بروستية"، يُفترض بكاتبها، مؤلفا روائيا، أن يشتغل لها، فيها، على (البنية/ التقنية/ الجمالية) معا.
البنية، أولا، استنادا إلى "رولان بارت"، حيث كتابه (التحليل البنيوي للسرد/ الرباط/ 1988)، إنما هي، تلك، التي توصف بأنها تجاوز ـ لا بد منه ـ للجزئيات بالعلائقيات "= للمضمون بالشكل".
ما يعني، من ثم، إنَّ على بنية النص الروائي، حصرا الآن، تجاوزا لـ"الثيميات" بـ"التقنيات". كلما تعاظم تجاوزها، هذا، تعاظمت، هي، باتجاه كونها إنجازا من الكاتب إلى القارئين الاعتيادي والاستثنائي كليهما. من هنا، ليس قبل ذلك، يمكن القول ـ عنها ـ إنها ((شديدة التميز والفذاذة)).
مما تقدم أخيرا، عما يعنيه وصفها، لا بنية إذن، لأي نص روائي، من دون تقنية.
هذه التقنية، ثانيا، كما عند جيرار جينيت، حيث كتابه (خطاب الحكاية/ القاهرة/ 1997)، أدائية "و ــ أو" أداتية، = نوعيا + تكوينيا، أي "بويطيقية" المبنى، لا "سيميائية" المعنى، تحديدا.
ما يتعلق بالنص الروائي وفقا لهذا "التفسير"، المحدد، ثمة دراسة مبناه، ليست دراسة معناه، باعتباره ذا تقنيات. الاعتبار هذا، للمبنى دونه للمعنى، يؤشر، مما يؤشره، أن من التقنيات ـ هذه ـ ما هي "فردية" "= مهيمنة" وما هي "جماعية" "= متشاركة". أبرز التقنيات الفردية، المهيمنة، هي: تغايرية السارد/ تعددية الصوت/ تركيزية الحوار. أما أبرز التقنيات الجماعية، المتشاركة، فهي تلك المنضوية تحت تهييئ السرد وتزمينه وتشغيله.
بيْد أن كلا هذين النوعين للتقنية، التي لا أساس للبنية من دونها، بأمسِّ الاحتياج للجمالية.
أي أن الجمالية، ثالثا، بالاقتراب من جان إيف تادييه، حيث كتابه (1978Paris, :Le récit poétique)، إنما إكمالية، ليست كمالية، للبنية، أولا، وللتقنية، ثانيا، في النص الروائي.
أنّى تكون في أحد نماذجه، أيّ نموذج منها، بنية إنجازية، تجاوزية / استثنائية، ثُم تقنية إدهاشية، أدائية / أداتية، ثمة إذن جمالية إمتاعية، شعرية / سردية، فيه، حتما، كما هي، هكذا، في نموذج نضال القاضي (سيرة ظل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت، ط1/ 2009).
للجمالية في هذا النموذج، الوحيد ـ حتى الآن ـ للكاتبة، فاعليتان: لغوية "لفظية" وأسلوبية "تركيبية". كلتا الفاعليتين، هاتين، تقيمان، أو تقام بهما، بين الشعر، من جانب أول، وبين السرد، من جانب ثان، علاقة تواصلية. هذه العلاقة التواصلية، بدورها، تستدعي بالأول وسائله، أو آلياته، وتستبقي للثاني غاياته، "دراميته" مثلا، في الوقت نفسه.
بمعنى، مما سلف توا، أن النموذج، هذا، يوالف، استدعاء واستبقاء، بين "الشخصيات + أحداثها"، مثلا سرديا، وبين "الانزياحات + دلالاتها"، مثلا شعريا، موالفة محسوبة. بحيث، من ثم، يبدو بهذه الموالفة المحسوبة ـ هنا ـ رواية شعرية (=/ و/ أو) قصيدة سردية. وما بدوّه هذا، إنْ مبنويا أمْ معنويا، سوى تحويله ظواهر "أدبية" من خصائص
"شعرية" إلى خصائص "سردية". أما هذا التحويل، للظواهر الأدبية، فإنه، أخيرا، إنما يتم له، فيه، معجميا وتركيبيا وتصويريا وإيقاعيا.
من حيث المعجم، أولا، ثمة الاتكاء على حقل الوجدان لتحقيق وظيفته الانفعالية عبر "التدويم" بطريقتين:
* طريقة "الترديد"، حيث إعادة موظفة بخصوصية لتأكيد المعنى وحصر الضوء فيه وتعميق الشعور به من خلال إحداث وقع في الكلام مطرب للنفس له مفعول الشعر، وتتم بصيغة صرفية واحدة:
كانت الشمس صخرة حمراء مشعة هائلة تتدحرج ببطء من نهايات السماء لتمس قشرة الأرض، تاركة وراءها صحراء شاسعة شكلتها غيوم رمادية مع ضربات خفيفة من الوردي والبنفسجي،/ ص53 ـ ص54 (أيضا، هنا، لاحظْ: هائلة/ تاركة/ شاسعة).
** طريقة "التكرار"، حيث تكثيف للكلمة محتفٍ باللفظ وكاسب للكتابة بعدا غنائيا لتحقيق الانفعال الشعري من خلاله، وتتم ببنية نحوية متماثلة:
وأنت تقشرين الهواء!، ويستدير المكان على ثلاثة أبعاد، ينفتح متأرجحا على بعده الرابع فتزيحين كومة رمل وحائطا، الخامسة صباحا، أمام مدرج البلدية، أسفل الساعة تماما،/ ص56
((بعد ستة سطور))
، أنت تقشرين الهواء وأنا ألم قشوره وأحصي استدارات الحيطان ومضاعفات بعدها الرابع، ما زلنا أمام مدرج البلدية، أسفل الساعة،/ ص56
ومن حيث التركيب، ثانيا، ثمة تجلي علاقة المفردات ببعضها البعض على مستويين:
* نحوي "انحراف عن قاعدة"/ كلمات في عبارة "ترتيب"/ تقديم وتأخير "تحول من حيادية بالنثر إلى انحيازية للشعر":
أكثر من نصف حياتي ((تقديم حال)) وأنا أجمع علامات. ((تأخير فعل))/ ص77
** بلاغي "انزياح عن واقعة"/ عبارات في فقرة "تركيب"/ قطع وانتقال "عدول عن اعتيادية النثر نحو استثنائية الشعر":
هي ذي البواخر غاطسة في الوحل والسقاؤون خلف أسوار المدن، يقطر الفرات من بين أصابعهم عطشا وتعبا، ((قطع لضمير)) وآب يتسلق الهجير اللافح، ((انتقال لآخر)) تدفع ركبتاه بشهور عامك العشرين وعامك المئة،/ ص41
ومن حيث التصوير، ثالثا، ثمة الإيحاء ـ مع الإخبار ـ بالاستعارة "مجاز المجازات":
عين ماء وضربة ريشة خاطفة، لطخة سوداء تمتد فوق رؤوسنا يسمونها الليل، / ص9
أما من حيث الإيقاع، رابعا، فثمة غير مشروطيته بالوزن ـ بتاتا ـ ومن ثم تولده عن صيغتين:
* صيغة التوازي التركيبي/ السواد فقط وحده :
لم تشعري بالظل وهو يقف من خلفك، رآك وأنت تمسحين بباطن كفك على الرمل، وسمعك وأنت تتمتمين/ ص46 ((هنا، أيضا، لاحظْ: بالظل/ الرمل ـ خلفك/ كفك)).
** صيغة السطح الطباعي/ البياض مقابل نقيضه :
تبقى المرأة قناعا أخيرا قيد التكوين دائما للذي سيأتي .. سيعود .. ربما .. ويموت./ ص14 ((حيث".."، هنا، إنما: وقائعية استمرار = دلالية انتظار)).
هي ذي الجمالية الإمتاعية في (سيرة ظل)، إذن، حيث استطاعت نضال القاضي، هنا، تحويل ظواهر "أدبية" من خصائص "شعرية" إلى خصائص "سردية". هذه الاستطاعة، التحويلية، ربما تعدُّ غير مفاجِئة، احتمالا فقط، إذا عُرف أن القاضي ذات تجربة شعرية تسعينية مجملة في ديوانها الأول (ودائع المعول عليه، مطبعة المدى ـ بغداد، 2001). لكنّ استطاعةً كهذه، رغم هذا الاحتمال، محسوبةٌ لوعيها السردي الماثل أساسا في مجموعتيها القصصيتين: مكان مألوف لدي، دار المسار ـ الشارقة، 1999/ عصفورة أدوم، دار الحرية ـ بغداد، 2001.
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
...............................................................................
""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
يقول بشير حاجم ((إنْ أُريدَ لرواية ما، أية رواية، أن تكون تحديثية، "بروستية"، يُفترض بكاتبها، مؤلفا روائيا، أن يشتغل لها، فيها، على (البنية/ التقنية/ الجمالية)-))
وصف الناقد بشير رواية الروائية نضال القاضي بانها بروستية نسبة الى مارسيل بروست الذي تتأثر رواياته بـ (تأثير الماضي على الحاضر) بينما رواية سيرة ظل بعيدة كل البعد عن هذا الأسلوب لانها رواية تتحدث عن زمكانية محددة لا ترتبط بالحاضر ؟ لا من قريب ولا من بعيد , وان قلنا ان الحاضر هو حاضر الرواية فقد صار لنا حاضران واقعان في زمنان متناقضان زمن الرواية وزمن الكاتبة ؟ فيكون حاضر الرواية ليس حاضراً طالما تصفه الساردة بالظرف الزماني ( الماضي ) ونلاحظ ذلك في بداية الرواية وحتى نهايتها ّففي بداية الرواية تتحدث الروائية
وبسردية نثرية مقطوعة تنتقل تلقائيا من النثر الى السرد لاحظ ((عين ماء وضربة ريشة خاطفة، لطخة سوداء تمتد فوق رؤوسنا يسمونها الليل،)) مقطوعة نثرية تقوم بوصلها بسرد روائي حيث تقول ((وقد بدأ طريق ترابي يظهر تتواصل فيه اعمال حفر وتجريف حيث بدت الكتل الترابية الجافة والهائلة المقتلعة من مكانها وكأنها تقلع عن طبقاتها المتراصة سنوات سنوات قريبة وبعيدة ))يقول بشير (ما يعني، من ثم، إنَّ على بنية النص الروائي، حصرا الآن، تجاوزا لـ"الثيميات" بـ"التقنيات)) وهذا غير وارد في هذا التشكيل الروائي ؟ فالرواية كلاسيكية بحتة وثيماتها تتماهى مع الميثولوجيات المحلية والعالمية مستفيدة من تجارب الرواية العالمية في الواقعية وتيار الوعي والسرديات الحديثة, ولو اردت المقارنة بين هذا الرواية مع روايات أُخر فلك أن تستعين بالروايات الكلاسيكية وروائييها أو روائيي السيّر الذاتية , في رواية سيرة ظل اعتمدت الروائية نضال القاضي على دمج الفضاءات الأدبية في آن واحد ؟ الفضاء النثري والشعري والسردي والسيرة الذاتية , وجعلت من الرواية قوة أدبية في تحويل المسارات العقلية، لخلق أفكار وأشكال وطرق تواصل جديدة بين للمتلقي في كافة مستوياته على حد سواء,يقول بشير حاجم (ثانيا ثانيا، كما عند جيرار جينيت، حيث كتابه (خطاب الحكاية/ القاهرة/ 1997)، أدائية "و ــ أو" أداتية، = نوعيا + تكوينيا، أي "بويطيقية " المبنى، لا "سيميائية" المعنى، تحديدا) فأقول لك : تعد الرواية جزءا من التخييل السردي ؛ لأنها تلتجئ إلى التمثيل وتوهيم الواقع أثناء تشخيص الذات والواقع وعالمها الروائي لذلك فأن سمة البويطيقية كما يدّعي بشير سمة لا تقترب نوعاً من هذا السرد ؟ كون الرواية تناولت الاحداث بأدق التفاصيل أرقاماً وزماناً ومكاناً وأحداثاً وبذلك تكون رواية كلاسيكية ذات اطر كالسيرة ذاتية لكن الروائية استطاعت باسلوبها الفني وتقنياتها السردية ان تحيل العمل الفني بواسطة اللغة ، والانزياح الشعري، والمفارقة اللغوية ، والمحاكاة الساخرة، والتهجين الابستمولوجي ، والأسلبة ذات البروليتاريا، والتناص، والحوارالمتأرشف ، والتعجيب الفانطاستيكي، وتجاوز الواقع وأطره الدراماتيكية ، ومحاورة الماضي بواقعه ، والتفاعل مع التراث نقدا وتناصا، وتمويه الأحداث والعودة لها والشخوص والفضاءات في صور روائية موحية ورمزية دالة، واستعمال خطاب سردي يتقاطع فيه الصدق والخيال والحقيقة والإدهاشية اما كونها (الرواية : لا سيميائية المعنى) كما يدّعي بشير حاجم ) فالسيميائية محصورة بالمفاهيم التالية:
_ العلامة. _ المحايثة. _ المعنى. _ الدلالة بينما "البويطيقية" عكس الكشف واستكشاف العلاقات الدلالية الغير مرئية من خلال التجلي المباشر للواقعة كما في "السيميولوجيا" *السيميائية*التقاط الضمني والمتواري والمتمنِّع ، لا مجرد الاكتفاء بتسمية المناطق أو التعبير عن مكنونات المتن ؟ اذن المقارنة خاطئة ايها الناقد والعكس هو الصحيح ("بويطيقية " المعنى لا "سيميائية" المبنى،) هذا المنطقي والاقرب للعقل من حيث اللغة وعلاقاتها مع المعنى , يقول بشير حاجم (* طريقة "الترديد"، حيث إعادة موظفة بخصوصية لتأكيد المعنى وحصر الضوء فيه وتعميق الشعور به من خلال إحداث وقع في الكلام مطرب للنفس له مفعول الشعر، وتتم بصيغة صرفية واحدة:) والرواية كانت ذات لغة مؤلمة فأي ألم هذا الذي يُطربك ؟ الاربعة عشر الف من الاتراك والعرب والارمن والاثوريين ؟ هل يطربك مقتل الرحيمي أم مأساة زينادين ؟ أم الطامورات التي يرضعن النساء فيها اطفالهن خوفا من بطش الاتراك ؟ لو كنت قارئا بارعاً لعرفت ان الرواية تحاكي فترة زمنية محددة حصل فيها الكثير من الألم والمعاناة على مستوى الفرد والجماعة وفق محورين النظام والشعب , الجنسية والتجنيس , وكل التداعيات تنصب في واقع مزري يعيشه شخصيات الرواية ؟ ان هكذا نقد ( "الشخصيات + أحداثها"، مثلا سرديا، وبين "الانزياحات + دلالاتها"، مثلا شعريا، موالفة محسوبة. بحيث، من ثم، يبدو بهذه الموالفة المحسوبة ـ هنا ـ رواية شعرية (=/ و/ أو) قصيدة سردية. وما بدوّه هذا، إنْ مبنويا أمْ معنويا) ................هل يفهم المتلقي معنى ( , ‏‎unsure‎‏ رمز تعبيري و/ أو ) ان علم التنقيط ايها الناقد له دلالات معرفية ومحددة ولا يمكن تسخيرها للناقد بأعتباره المالك الشرعي ليشوهها كما تشوهها انت بهكذا خزعبلات ما انزل الله بها من سلطان (,[-=-0<"-=_) .
""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
أخيراً وليس آخراً : اكتفي بما قدمه الناقد المبدع حسن سرمك في نقده وتحليله وتفكيكه لرواية سيرة ظل
نضال القاضي كما وصفها الناقد حسن سرمك (ملاحظة اعتراضية :
——————–
إذا وقعت بين يديك مستقبلا رواية غفل من إسم المؤلف ، وقرأتها ، ووجدت مفردة (وطيئة) و(وطيئا) تتكرر عشرات لمرات ، فتأكد أن هذه الرواية لنضال القاضي ، هذه لازمات لغوية ليست سردية حسب ، ولكن نفسية أيضا ، وهنا ليس مجال تناولها ، هي لازمات دفاعية تشبه ما وصفته “أنا فرويد” بـ “دروع الطبع الوقائية” .)
ورواية سيرة ظل كما تناول الاستاذ حسن سرمك تتنفس ابداعها بطريقة عصرية وحديثة تليق بها .
ورقة الاستاذ حسن سرمك النقدية (وجدتني أمشي بآلية باتجاه الممر والحفيف يشتد .. يستدعيني حتى ألفيتني فوق المخطوطة تماما ، أطلّ عليها من كامل ما فيّ من ألم وشعور بلا عدالة العالم .. تذكرت صديقا شاعرا قال لي مرة معلقا : تعبّرين عن الألم بطريقة مباشرة !! واندهشت .. ترى هل المطلوب أن نتألم عن طريق وسطاء ؟ )
(نضال القاضي)
رواية ( سيرة ظل)
فذلكة تمهيدية :
—————-
تسلمت رواية الروائية والشاعرة العراقية “نضال القاضي” في النصف الثاني من العام الماضي عن طريق السيدة “هناء إبراهيم” وهي من شخوص الرواية أيضا . وقد أخذتها إلى الشقة التي أسكن فيها وحيدا مع تلال من الكتب ، فاختفت الرواية بصورة عجيبة . وكلما حاولت البحث عنها ، غابت أكثر . وفي الأسبوع الماضي ، وفي يوم الأربعاء ، عدت إلى الشقة ، وبصورة غريبة اتجهت إلى كارتونة كتب ، وقلبت محتوياتها على الأرض ، فسقطت الرواية وتدحرجت أمامي . رفعتها وقرأت الإهداء : (الأخ العزيز د. حسين سرمك ، مع خالص الود والتقدير – المؤلفة ، 6/4/2010 ) . وكان يوم الأربعاء الذي وجدت فيه الرواية المفقودة هو : 6/4/2011!! أنا أؤمن أن قوى اللاشعور هي التي قادت حياتي في اغلب تحولاتها ورسمت مساراتها بصورة جبرية أحيانا . ومقتنع تماما أن عثوري على الرواية في نفس يوم إهدائها ليس ناجما عن مصادفة عشوائية أبدا .
يقول “أندريه بريتون” إنه كان معجبا بـ “بول إليوار” بدرجة كبيرة جدا. ولكن (في العرض الاول لمسرحية ابولينير (لون الزمن)، وحين كان اندريه بريتون في احدى المقصورات يتحدث الى “بيكاسو” وقت الاستراحة، دخل المقصورة شاب قطع عليهما الحديث ؛ ثم سارع الى الاعتذار .. قائلا انه حَسِب (بريتون) صديقاً له قُتل في الحرب !!
بُعيد ذلك ؛ بدأ بريتون يراسل بول أليوار الذي لم يكن قد تعرّف إليه بعد ؛ بوساطة صديق مشترك لهما ، ثم التقى به اخيراً اثناء اجازة عسكرية ؛ ليفاجأ بأن (أليوار) هو الشخص نفسه الذي تحدث اليه في المسرح ؛ وحسبه صديقه القتيل في الحرب !! ) .
وإنني عندما أستعيد هاتين الحادثتين ، وغيرهما ما لا يحصى من الوقائع التي تُصنف في خانة المصادفات ، وهي عبارة عن تقاطع ضرورات تفرضه قوى اللاشعور الخلاقة المستترة ، فلأن القارىء سوف يتلقى ، بل ويُصدم ، بالكثير من الوقائع والأفعال التي سوف يصنفها ضمن موجة تقليد تقنيات تيار الواقعية السحرية ، في حين أنها بعد أصيل وحقيقي من أبعاد الواقع الروائي في حكاية “نضال” وبضمنها موضوعة “الظل” الذي يشكل الشخصية الرئيسة في حياة العائلة التي تلاحق المسار التراجيدي لسلسلة أجيالها عبر قرنين من الزمان، والأقدام المطبوعة على الجدران والسقوف ، والحادثة اتي تجترها الراوية كثيرا يوم غرقت في نهر الحلة ولم يبادر سطيفان لإنقاذها ، وكان ينظر إليها وكل وجهه عيون ، هذا الحدث استعادته في أحد المواقف مع سطيفان نفسه ، فعبرت عنه ببلاغة عالية :
( ثم أمسك بكأس فيها بضع قطرات ، وكم كانت عيناه تبدوان مخيفتين من خلف العدسة وهو يحدّق في القطرة ، تساءلت :
-ألهذا كنت تحدّق في الترعة ؟
-لقد رأيتك من قبل ، ألا تصدّقين؟ أعتقد أنه مثلما بوسعنا تخيّل شكل الحياة القديمة ، من خلال الحفريات ، بوسعنا تصوّر المستقبل ونحن نرتب في أذهاننا تلك الحيوات البعيدة ، وصولا إلى صور الفكر ومقولات مختلفة عن الزمان والمكان – ص 137 و138 ) .
مخطوطة الخراب:
——————-
… وحياة هذه العائلة ومن خلالها عائلة كبيرة ممزقة دائما اسمها : العراق ، وطن الكاتبة ، تتابعها الأخيرة من خلال مخطوطة تعثر عليها الراوية – والرواية تسرد بضمير الأنا المتكلمة معبرا عن إلتحام واضح بين الكاتبة والراوية أعلنت الكاتبة عنه على الغلاف الأخير ، وأحيانا تسرد بضمير المخاطب عندما توجه الراوية إلى “كرامة” – في مكتبة في بيت السيد “سطيفان عهدي سعيد” . ومن الضروري جدا أن أشير إلى ظاهرة شديدة الحساسية في هذه الرواية وهي أن القاريء ، إذا كان مزاجه القرائي قلقا ، فإنه سيجابه صعوبة كبيرة جدا في المضي بيسر مع أحداث الرواية في الفصول الأولى حتى الصفحة (77) حيث القسم الثاني من (بستان هبوب) .. عليه أن يتحلى بصبر عظيم كي يكمل القراءة ، والسبب الرئيس هو هذا الإيغال في التعمية أولا ، وفي الاستدعاءات التصدّعية ثانيا ، وفي استخدام اللغة الشعرية ثالثا . وقد حذرت من هذا الإيغال كثيرا ، يجب أن تكون للقص لغته ، وللشعر لغته ، وحين نستخدم لغة الشعر في الحكي يجب أن تكون الجرعات محسوبة ، وإلا فإن المتلقي سيختنق ولن يحصل لا على شعر ولا على حكاية ، كما أن الجرعات المفرطة هذه قد تميت الرواية وتخنقها ؛ شخوصا ووقائع ، مثلما يمكن أن تربك استجابة المتلقي ثقافة الكاتب العالية التي قد يدفعه التحامه المخلص بأحداث روايته ، ونرجسيته الضاغطة ، إلى استعراضها على حساب مصداقية حيثيات السرد وتلقائيتها . خذ مثلا : تتحدث الراوية ومن ورائها ، بل معها ، الكاتبة طبعا ، عن مرورها بالزقاق الذي يقع فيه بيت التوأمين العانستين قيسه ونهاية ، وتستذكر كيف أن هذا الزقاق قد شهد معارك كثيرة قبل مائة عام وأكثر ، ولم يبق في المكان سوى بضعة أسماء صارت لعوائل أصبحت فيما بعد عريقة دون أن تُسأل عن بداياتها .. وتصف استجابتنا لهذه الخديعة بأننا لا نقول الأشياء نفسها وإذا قلناها فمؤكد ليس بأسلوب محدد بعينه أو في سياق معمول به ، وتعلّق على هذه السلوكيات بالقول :
( هذا بالضبط ما جعل سارتر وكامو مثلا يخرجان عن سياقات أيديولوجيات شكلت بدايتيهما كي يمسكا ويمسكا حصرا بتلك السبابة التي برزت من عباءة الصوف التي برزت من عباءة الصوف السوداء المتكوّرة حول جسد أدمن عتبة الباب – ص 71 و72) .
ولا أستطيع فهم العلاقة بين جان بول سارتر وألبير كامي وبين سبابة العانس (قيسة) العراقية الأمية التي لا تعرف أي معنى لمفاهيم الغثيان الوجودي والمصير الفردي والحرية والوجود والعدم . ومثل ذلك يُقال عن الإحالة إلى المفكر الفرنسي (كلود ليفي شتراوس) (ص 163) عندما ترمي الراوية العقيقتين اللتين اشترتهما من بائع الخرز والمسبحات قرب مبنى الإتصالات . صحيح أنها إحالة ذات معنى أنثروبولوجي بسبب المعلومة التي قدمها البائع لها عن العقيقتين (هذه فيها قطرة دم استحالت إلى خال أسود ، وهذه تحمل أثر قدم بشرية بطول ملليمترين ، ولكنها لجنّي عمره خمسمائة عام ..ذات الخال تحمي من القتل ، وتلك التي تحمل أثر القدم تفيد السفر والترحال ، فمن يقتنيها لا تكاد تحط قدمه على أرض حتى يقصد أخرى – ص 146 ) .
إن الرواية يجب أن تكتفي بحوادثها وأفعال شخوصها وإيحاءات مكوناتها وأبعاد رموزها ، ومن خلال شبكة علاقات كل هذه المكونات ، بلا إحالات خارجية لعلماء وأشخاص وكتاب لا صلة لهم بالأرض التي تتحرك عليها متغيرات الرواية . وهذا ينطبق على اقتباس مقاطع من كتب سياسية لمؤلفين أمثال (إيمانويل تود) في كتابه (ما بعد الإمبراطورية) (ص 161) . فالروائي لا يشرح ولا ينظّر .. إنه يرصد حيوات شخوصه ويتأملها ويغور في أعماقها ثم يسردها لنا ، ويستطيع كل منا الرجوع وقراءة مؤلفات سارتر وكامو وشتراوس وإيمانويل تود وسيجد أن لا علاقة لهم جميعا بموت الشمردل أو اختفاء سعيد أو خدعة الخرزات الثلاث أو السلوك الانتحاري لعهدي أو انهيارات سطيفان بما يشبه “متلازمة حرب الخليج – gulf war syndrome ” .
… أعود إلى (سطيفان عهدي سعيد) فأقول إن (سعيد) هذا، هو الجد الذي اختفى بصورة غريبة بعد أن مات صاحبه الشمردل / دليل شمر، بعد أن أمضى أربعة عشر عاما في السجن، متهما بخطف إبنة الخزندار الثالثة عشر، صغراهن وأحلاهن، انفجر بعدها (بعد أن ظل ينتفخ بالأسرار .. ينتفخ وينتفخ حتى انفجر ودوّى في الأرجاء ، فتجمعت أصناف الطيور بين نواح ونعيب على الخثارات المتبقية من الدم واللحم والأسرار ، وجعلت تلتقطها وهي تردد وتزيد في الترديد .. ربما إلى الآن .. دون أن يفهم أحد ما يمكن أن تكون قد قالته أو تقوله تلك الطيور – ص 24) .
… لقد اختفى سعيد الجدّ بطريقة غريبة أثارت التساؤلات الشائكة ، تاركا (كرامة) التي ستكون محور تشابكات شخوص الرواية والشاهد على مصائرها . كرامة تتعهد (عهدي) ابن سعيد من (زينادين) ويعيشان معا في بيت (قيسه) و (نهايه) التوأمين العانستين المعمرتين اللتين تتكفل برعايتهما كرامة أيضا إلى أن تتحولا إلى كتلتين رخوتين (نبتت لهما أسنان لبنية على مرأى من الموت – الغلاف الأخير).
… أما (عهدي) ، الأب ، الذي يترك عمله في شركة انتاج بسيطة ليمتهن الصحافة بعد أن انسحر بالكاميرا وبالتصوير الفوتوغرافي ، فهو من جيل أصفه كثيرا بـ “الأسطوري” ، هو جيل الستينات ، ليس كله طبعا ، نضع جانبا تلك المجموعات التي كانت تجتر غثيانها في زوايا المقاهي المظلمة . هناك مجموعة لا يمكن أن تصدق في سلوكها التعرضي والاقتحامي (إنتحاري في جانب منه وفق التحليل النفسي) . ما هي علاقة شاعر عراقي مثلا يذهب ليقاتل في “ظفار” .. ورسام ينتحر في بيروت .. ومصور يقاوم في أثيوبيا . والمشكلة أن أفراد هذا الجيل كلهم قصّروا في تسجيل وقائع تلك “الحكاية” العجيبة التي تجعل الولدان شيبا . ولعل جانبا من أهمية رواية نضال هو في تصوير أفراد مجموعة عهدي الذين كانوا يلتقون في الاستديو العائد له ، يتناقشون في كل شيء .. ويخشون أن يلتقط لهم صورة وجهية خوفا من أن تتسرب لرجال الأمن ، فيلتقطها لظهورهم . منهم من نعرفه بالأسم كشخصيات واقعية مثل شمران الشاب القروي القادم من الجنوب والذي سكن في محلة (الحيدرخانه) في بيت (ناهده) التي يسميها (ست إحترام) . وعهدي هو الشخص الذي وصل (أسمره) حيث تصف الروائية علاقته المجهضة ، أجهضها بنفسه ، مع (أوكازاي) الخلاسية الجميلة الذئبة . كان عهدي يختنق بالحزن والبكاء وهو في بغداد بين أهله وأصدقائه وذويه . وحتى بعد أن سافر إلى القاهرة ثم أسمره ، ظلت عالقة في ذاكرته صورة (ندى ) أو (ودّ) فتاة التجربة الاولى حبا وفنا ، والتي خسرها مختارا .. هو من هذا الجيل المثبت على الخسارات والذي لن تهدأ حياته بدونها .
.. ووفق هذه البنية السيكولوجية ، وكنتاج لوضع اجتماعي وسياسي شائك وطافح بالسادية ودوافع الموت والقهر ، فقد اختار عهدي ميتته بنفسه ، ولكنها ميتة مقسرة تأتي تتويجا لسلسلة من الحوادث التي لا يمكن أن تختم إلا وفق هذه الخاتمة الفاجعة . فبعد الخسارات المتطاولة والمدمرة ، عاد عهدي وهو يحمل على كتفيه كيسا هائلا من الخواء ، وهذا أخطر ما يحيق بوجود الإنسان ، الهش أصلا ، من نتائج ماحقة .. أن يعود بعد حياة عاصفة مزحومة بالتجارب الفريدة والمخاطر الباهرة بخفيّ الخواء . أدمن عهدي الوحدة والخمرة والتخيلات .. في مشهد حياته الختامي جلس – وهما – مع صديقه جبار في السوق يضحكان وهما يسترجعان الكيفية التي حاصرت بها ثلتهم (نسيم) إبن صباح إبن عصمت أفندي الذي كان يلوك المفردات الإنكليزية فعدوه متعاليا واضطر والده على أن يرسله إلى لندن فاستقر هناك إلى الأبد . و .. ( هناك وفي الدائرة الثانية من مدينة لندن ، حيث يسكن الأثرياء ، يظهر نسيم بعد عشرات السنين هرما يجلس في منزله يراقب من على شاشة التلفزيون بأم عينيه الغائرتين كيف تُضرب بغداد ، فيتمتم بروح حيادية تطل على ذكريات ابتعدت كثيرا ، وما بقي منها امتد في حياة لم يعشها ، ينبغي أن تتغيّر ، قال : سواء بالإحتلال أو بسواه – ص 103)
ويشاهد عهدي وجبار إبن محفوظ صاحب الحقيبة ودكّان المكان ، وقد حول المكان إلى (دكان الألحان) وخلف أستاره يبيع الأفلام الخلاعية والحشيشة .. وبألم يقفان عند نذالة بيت هبوب اللذين أخذوا بصمتي قيسة ونهاية المسكينتين ، وهما غائبتين عن الوعي بفعل الشيخوخة ، فانتزعوا منهما حصتيهما في البستان بعد أن رفضتا طويلا . يدعو عهدي جبار لجلسة في قبوه يوم الخميس ليشربا ويستعيدا ماضي الخراب .. ويشرب عهدي مع جبار بإفراط حتى الموت .. حيث تصف لنا الروائية ببراعة الهلوسة المأساوية التي أطاحت بوجود عهدي ، في مشهد فريد شاهده الأول كما هو الأمر على امتداد الرواية هو سرب الطيور :
( وكان سرب الطيور قد وصل إلى الزقاق ، ثم انحرف محوّما حول الشناشيل ، وأكمل انعطافته باتجاه بيت (الحجّي) متحشدا عند الباب ، وقد اندفع مخترقا الممر القصير إلى الباحة منتشرا فيها ، لم تره (كرامة) ولكنها أحسّت برفيفه قريبا ، فدفعت بمعصمها ألما في صدرها ، واندفعت إلى حجرة ابنها وهي تصيح وتلطم وجهها ، كان وحيدا إلا من كون هائل لا نهائي ، راحت تحلق فيه كبسولات السجناء والمضادات الحيوية ، آلة الكاميرا وزجاجات الويسكي الفارغة ، الكؤوس والفقاعات ، قرحته التي انتشرت كالغبار في مجرّته تلك . لم يكن فيها سواه ، فـ “جبار المعروف” قد توفي منذ ما يقرب العشرين عاما ، والطيور اتي قدمت وطيئة التحليق جعلت تخفق بقوة ؛ وقد ارتفع صوت الرفيف ، أصبح أنينا حين مدّت أجنحتها يدا بيضاء باتجاه وجهه ، وجه الإبن ، أسفل مجرى التنفس تماما ، لتتحنط في منتصف المسافة وتتهشم أشباحها البلورية ريشا راح يخفق مغطيا الثلاثة – ص 176 و177) .
ولأن الرواية علم والقصة القصيرة فن ، كما أحب أن أكرر دائما ، وأن على الروائي أن يتحلى بجلد عالم في مختبره ، وببصيرته وحكمته ، فإن من مهماته أن لا “ينسى” أي متغير على مسرح الرواية – والرواية بلا وصف مسرحية – مهما كان بسيطا ، فإن الكاتبة وفي الكثير من المواقف ، تعيد أذهاننا إلى ثيمات سابقة تحكم من خلالها وحدة حلقات روايتها العضوية . فباليد التي مدتها اجنحة الطيور إلى وجه الإبن أسفل مجرى التنفس ، لتتأكد من موته في تورية رائعة ، تعيدنا إلى الأم (زينادين) و(الجد) حيث قالت قبل مائة وأربعين صفحة : ( كبراهن كانت (زينادين) التي أخذت عن جدتها عادة وضع يدها أسفل أنفه، تحت مجرى النفس تماما وهو نائم ، وحين تشعر بنَفَسه يجري طبيعيا على راحتها ، تتأكد أنه مازال حيّا ، فتطمئن وتسحبها مثل طائر يحلق وطيئا – ص 37) .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا