الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإيقاع وروح الشعر

أبو الحسن سلام

2015 / 9 / 22
الادب والفن


الإيقاع وروح الشعر

- مداخلة مع الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي -

د. أبو الحسن سلام
الشاعر الكبير أحمد حجازي
حركت كتاباتكم النقدية حول مفهوم الإيقاع وافتقاده في قصيدة النثر . ذاكرتي المعرفية والنقدية حول قضية افتقاد ( روح الشعر ) التي أثارها عامر بحيري في مقدمة ترجمته لمكبث شكسبير بالشعر العمودي على (طريقة شوقي وعزيز أباظة ) - حسب زعمه - وسفه فيها كل من نظم شعراً أو ترجمة لشعر بغير تلك الطريقة التي رأى أن توظيفها في المسرح الشعري وفق ما التزم به شوقي وأباظة له ( الدور الكبير المنتظر من المسرح الشعري في ظل ثورة يوليو وتحت أعلام الوحدة العربية( - حسب تعبيره الدعائي الذي صدر به طبعة ترجمته لمكبث في إصدار الدار القومية للطباعة والنشر عام 1969م -
ولأني فهمت من ردك على الأستاذ العالم أنك ترى في الإيقاع ( روح الشعر ) وأن قصيدة النثر - موضوع الاختلاف - تفتقد روح الشعر لافتقادها للإيقاع الشعري
ومن المؤكد أنه لا وجه بين ما رأيت وما رأى عامر بحيري - لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون - فالمنابع والتوجهات مختلفة كل الاختلاف.
غير أنني أرى - مع علمي بأنني سأجد منك أذناً صاغية - لما تعودنا منك دائماً من قبول للصوت الآخر - أرى وليس ذلك دفاعاً عن قصيدة النثر - أن ( روح الشعر ) ليست هي أوزانه وتفعيلاته وقوافيه ومشتملات موسيقاه الخارجية ، وإنما تكمن روح الشعر في صوره وأخيلته وموسيقاه الداخلية . وما الأوزان والتفاعيل سوى أدواته ومظاهره الخارجية - على أهميتها - خاصة أن روح الشيء لا تظهر ظهوراً مادياً في كل ما تدب فيه روح . لذلك أدعوك أن تنظر معي هل انتفت روح الشعر من المترجمة النثرية لموقف مكبث المأساوي بعد سماعه لنبأ انتحار الليدي مكبث فيما ترجم لويس عوض ؟ وهل روح الشعر حاضرة في ترجمة عامر بحيري العمودية المقفاة للموقف نفسه ، وفي ترجمة ثالثة للموقف نفسه بقلم محمد فريد أبو حديد :
ابحث معي أيها الشاعر الناقد الكبير في :
ترجمة بحيرى بالشعر العمودي المقفى للمشهد عن روح الشعر و مجرى إيقاعاته :
" سيتون : إن الملكة يا مولاي قد هلكت
مكبث : في ساعة الضيق تنهال الفجاءات
وكان أولى بها لو أنها انتظرت حتى تلـم لهـذا الخطـب أشتات
غــد يمر ، وفي آثـاره أبدا غــد ، تدب به للدهـر خطوات
هو السجل كتبنا فـي صحائفـه لكـل مبتـدئ فيــه نهايــات
والناس حمقى مشى الماضي يضيء لهم
حتى احتوتهم قبــور مدلهمـات
ممثلـون تلـهّوا فوق مسرحـها ثم انقضوا ، وتلاشت فيه أصوات
كأنها قصـة خرقـاء يسردهـا أحيمـقٌ ، قـد أكدته الشروحات "
ثم أمعن النظر ..
2- في ترجمة لويس عوض النثرية للموقف نفسه كشفاً للروح الشعرية ولروح الإيقاع :
" سيتون: الملكة ماتت يا مولاي
مكبث : ليتها ماتت بعد هذا الأوان
إذاً لوجدنا الوقت لمثل هذه الكلمة
غداً ، ثم غداً ، ثم غداً
هكذا نزحف من يوم ليوم في خطو بطيء
حتى نبلغ آخر مقطع في سجل الزمان
وكل ما مضى من أمس قبله أمس
أيام تركت فأضاءت طريق الحمقى إلى تراب القبور
انطفيء ! أيتها الشمعة الصغيرة ! ما الحياة إلاّ ظل عابر .
هي ممثل تافه يمشي الخيلاء ، ويملأ المسرح ساعة بضجيجه
ثم لا يسمع له صوت بعد ذلك ..
هي قصة يرويها أبله ، كلها صخب وهدير
ولكنها خالية من كل مغزى .. " ( المنظر الخامس من الفصل الخامس )
الأهرام 5 /6/ 1964م
3- النموذج الشعري المرسل من ترجمة محمد فريد أبو حديد للموقف نفسه :
(روحه وإيقاعاته ) :
" سيتون : مولاي ماتت ملكتي !
مكبث : ليتها قضت بعد حين
علّ فيما يكون بعد من الوقت
أواناً لمثل هذا الحديث
بل غد ، بعده غد ، وغد آخر
تحبو بتلك الخطى القصار دبيباً
تتوالى يوماً فيوما
إلى آخر حرف مسجل في الزمان
كل أمس لنا أضاء لحمقى
في طريق يفضي لموت التراب
أيتها الشمعة الضئيلة ، بعداً لك ، بعد اً
فإنما العيش في ظل
كخيال يمشي ، وكاللاعب المسكين
في مسرح يضج ويزهى
ساعة قدرت له ، ثم يمضي
ثم لا يسمع من بعدها مدى الأيام
إنها قصة يرددها الأبله
صوت وهيجة .. دون معنى "
( م5 ، ف 5 . مجلة الثقافة الجديدة 16/6/1964م )

ألا تدب الحياة في ألفاظ الترجمة النثرية وتسري سريان الدم في العروق ؟ إن النص الأدبي جسد حي سواء كان من جنس الشعر أو من جنس النثر وروح الشعر . إن طلبت في القصيدة فإن صوت الشاعر في الصور المنظومة هو دليل وجودها لكن التماسها في المسرحية لا يصح عند الشاعر بل عند الشخصيات لأن لسان الحال في العمل المسرحي مؤلفاً كان أم مترجماً ، شعراً كان أم نثراً هو الشخصيات وليس المؤلف ، إذ يتحتم أن تتخفى روح الشاعر تمام التخفي وتتوزع على أرواح الشخصيات فلا ترى مطلقاً . وظهور الروح عند كل شخصية له أطواره المتدرجة وصوره المتعددة والمتنوعة وفق حالتها وتفاعلاتها الدرامية في الحدث المسرحي نفسه ، ولا شك أن الإيقاع يعد المظهر المسموع والمرئي الأكثر وضوحاً للدلالة على روح الشعر سواء في القصيدة أو في النثرية الأدبية ( الحوارية ) غير أن صوت الإيقاع يصبح أكثر ضجيجاً في الشعر المقفى عنه في الشعر المرسل وفي شعر التفعيلة ويقل ضجيجه في المسامع النثرية عنه في المسامع المقفاة والمسامع الشعرية غير المقفاة ، كما تبدو حركة الصور المرئية بعين الذهن في الإيقاعات عند المصور أقل وهجاً في ميزانها الإيقاعي عنها في الصورة الشعرية المرسلة وعنها في الصورة الشعرية المقفاة على النحو الذي تكشف عنه النماذج السابقة لمشهد مكبث بعد تلقيه نبأ انتحار الليدي مكبث .
ومع أن الإيقاع يشكل العمود الفقري أو العقل المنظم لحركة الصورة وتواليها في المشهد سواء في ترجمته الشعرية العمودية أو المرسلة أو النثرية ، إلاّ أن روح الشعر تبدو لي أكثر حضوراً في ترجمة لويس عوض النثرية عنها في ترجمة فريد أبو حديد الشعرية المرسلة ، بينما تضج روح الشعر في ترجمة عامر بحيري للمشهد نفسه من اصطكاكات الإيقاع وفجاجاته التي تخلو من الانسيابية اللازمة للأداء المسرحي .
في ترجمة لويس عوض تعكس الصورة في قول مكبث حالة من حالات روحه ، حالة الاستسلام للقضاء والقدر ، تعكس إدراكه لعمومية هذه الحالة ، لأن البشر كلهم يزحفون وليس هو الزاحف الوحيد نحو آخر مقطع خطه القدر في عمر الإنسان . وهذه الحالة قد سيطرت على روحه من قبل أن ينعى إليه نبأ موت الليدي مكبث . فالزحف نحو النهاية مستمر قبل علمه بالنبأ ، وما موتها سوى انتهاء خطواتها لأنها بلغت المقطع الأخير في سجل حياتها .
إن كل الذي كان يتمناه مع حالة الاستسلام للقضاء والقدر ، هو فحسب بعض الوقت ، حتى يمارس معها لعبة انتظار النهاية المحتومة . وهذا ما يعكسه لفظه بعد علمه بنبأ موتها وقبل أن يعلق على النبأ يظهر روح استسلامه ويعلنها بعد سماعه للخبر :
" ليتها ماتت بعد هذا الأوان
إذا لوجدنا الوقت لمثل هذه الكلمة !
غداً ، ثم غداً ، ثم غداً "
إن روح الشعر تظهر في تمني مكبث أن يمتد عدد خطوات زوجته شيئاً ما ليمارسا معاً لعبة انتظار النهاية وتلك لعمري روح كل ابن حواء . تلك كانت الترجمة النثرية للموقف عبر عنها لويس عوض ليصور روح مكبث التي اندمجت فيها روح شكسبير بل روح الإنسان في كل مكان وزمان قرب شعوره باقتراب أجله . فما هو مدى وفاء ترجمة أبي حديد الشعرية لروح الشعر وروح الإنسان التي زعم بحيري وفاء الشعر العمودي بها دون غيره :
" ليتها قضت بعد حين
عل فيما يكون بعد من الوقت
أواناً لمثل هذا الحديث
بل غد ، بعده غد ، وغد آخر "
إن ظهور روح الشعر يكون خلال المعنى من وراء هذا الظهور والجمل الملتبسة التي تنبني عليها الصورة الشعرية لا تفي المعنى حقه من الوضوح أو من البلاغة ، ففصاحة المظهر اللفظي هي الفاعل الرئيسي في بلاغة المعنى ، فلا بلاغة في المعنى الملتبس والأسلوب الذي يلفه الغموض لفاً يلبس معناه على مستقبله . فلفظتي ( ليت) و(علّ ) عند أبي حديد تفيدان التمني ، بينما تعبر ( ليت ) في ترجمة لويس عوض النثرية عن التمني وتعبر ( إذا ) عن تبرير التمني ، وبذلك فإن توظيف لويس عوض للفظتين مختلفتين تعطيان معنيين مختلفين الأول ( طلبي ) والثاني ( سببي ) وذلك أفصح من توظيف أبي حديد للفظتين هما أداة لمعنى واحد - من ناحية - ومن ناحية ثانية تعطينا لفظتي لويس عوض إيقاعين صوتيين مختلفين . وبذلك تكون فصاحة اللفظ في الترجمة النثرية عند لويس عوض أنفع لبلوغ المعنى على المستويين الدرامي والشعري وأكثر تحقيقاً لجماليات التنويع الإيقاعي ، حيث تؤدي المفردة إلى تخليق مفردة أخرى ، تنبني الثانية على تحقق الأولى ، وهكذا الحال ، إلى نماء يؤدي إلى ذروة الفعل فنتيجته المنفرجة ، ذلك النماء الذي يكشف عن الروح الإنساني الذي تشكل إيقاعات الحركة والدوافع سبل ظهورها المتنامي .
ولفظة " تحبو " في السطر الشعري لترجمة أبي حديد ليست تفيد حالة خطوه نحو النهاية ، ولكنها تعكس حالة البداية لأن الحبو صفة تطابق حركة السير الطفولية ، هي صفة لبداية حياتية وليست تطابق حركة خطو في نهاية رحلة حياة إنسانية .
لذلك كان اختيار لويس عوض للفظة " نزحف " ألصق بالحالة التي تستنشق رائحة الموت ، وألصق بالإنسانية في عمومها ، فالزحف فعل جمعي يخص الماضين والحاضرين والقادمين ، الجميع زاحف نحو مصيره ، والزحف مراحل " من يوم ليوم " في حين أن " الحبو " متوال عند أبي حديد . ولئن كان الحبو نوعاً من الزحف ، إلاّ أنه زحف الطاقة المتفتحة النشطة المتوالية ، في حين أن زحف المستقبل لنهايته المحتومة يكون على مراحل لأنه يقاومه من داخله ، فهو رافض له ، في حين أن زحف ( الحابي ) طفلاً هو زحف الراغب الفرح بزحفه ، هو زحف غير مدرك ، ولكنه زحف غريزي والفرق كبير بين الزحف المدرك المستبصر الخبير والزحف الغريزي !! وبين المظهر الإيقاعي لكلا الزحفين .ولننظر أخيراً إلى طبيعة الصورة في ترجمة لويس النثرية وإلى طبيعتها في ترجمة كل من أبي حديد وعامر بحيري الشعريتين ؛ لنر أي الصور الثلاث المترجمات أقرب إلى روح الشعر وقيمه الجمالية وأي إيقاع منها أقرب إلى الموقف المأساوي لمكبث :
لويس عوض : " أيام احترقت فأضاءت طريق الحمقى إلى تراب القبور "
أبو حديد : كل أمس لنا أضاء الحمقى
في طريق يفضي لموت التراب
بحيري : " والناس حمقى مشى الماضي يضيء لهم
حتى احتوتهم قبور مدلهّمات "
أبو حديد قصر الحمق على بعض الناس ، وجعلنا نعتقد أن هناك لوناً من الموت لا يفضي إلى التراب فخالف الحديث أما ترجمة بحيري فتخص الجميع بالحمق وتخص الماضي وحده بالإضاءة من الميلاد حتى الممات . فالماضي هو ما ينير للناس وهم حمقى سبيل الحياة ولا شيء غيره ! وهو يعكس روح التعصب للماضي ويدعو إليه وحده قدوة للحاضر وللمستقبل - وذلك يناسب إيقاع فكره - وذلك يتعارض مع روح الشعر التي هي الإبداع والقدرة الفذة على الخلق التصويري على غير مثال ، ويتناقض مع " الدور الكبير المنتظر " من المسرح الشعري " في ظلال الثورة وتحت أعلام الوحدة العربية " - التي هلل لها مع المهللين وقتذاك - والثورة تكتسب مسماها من تخطيها للماضي وللحاضر استشفافاً للمستقبل وتلمساً لضيائه والاستضاءة الاجتماعية به .في ترجمة أبي حديد تعميم والتباس وبعد عما قصده شكسبير في صورة وصفه للحياة البشرية التي هي أشبه بحياة شخصية يؤديها ممثل فاشل في حلبة المسرح :
" فإنما العيش ظل
كخيال يمشي ، وكاللاعب المسكين
في مسرح يضج ويزهي
ساعة قدرت له ثم يمضي "
لقد أضرّت الترجمة هنا بالمعنى الذي قصده شكسبير " فاللاعب المسرحي " لا تخص الممثل بل تخص الراقص والمغني ولاعب السيرك أيضاً :
أما ترجمة بحيري لتلك الصورة ففيها تعميم يبتعد عن المعنى الذي أراده شكسبير :
" ممثلون تلهوا فوق مسرحها ثم انقضوا ، وتلاشت فيه أصوات "
إن الممثل لا يتلهى فوق خشبة المسرح ، وإنما التلهي يكون للجمهور في نوع من أنواع الدراما في ( الملهاة ) والأصوات ليست هي فحسب التي تتلاشى بالموت ولكن الحركة والفعل أيضاً .
وفي الألفاظ بترجمة بحيري تثاقل لا يتناسب مع الانسيابية التي تتطلبها لغة الأداء التمثيلي : " قد أكدته - أحيمق - الشروحات - مدلهمّات الفجاءات " وفي قوله:
" قد كان أولى بها لو أنها انتظرت حتى تلم لهذا الخطب أشتات "
إذاً لم يبن الفعل " تلم " للمجهول . فيه إكفاء .

وخلاصة الأمر أولاً : أن روح الشعر لا تتحقق - فيما رأينا - في ترجمة بحيري الملتزمة بعمود الشعر على طريقة (شوقي وأباظة ) كما أوضح - ولم تتحقق دقة المعنى الذي أراده شكسبير على لسان الشخصية بما يناسب إرادتها عنده وعند أبي حديد

وثانياً : اختلف الإيقاع في المشهد الواحد وعلى لسان شخصية واحدة هي مكبث لاختلاف المترجم " ثقافة وإدراكاً ومعايشة وموهبة وخبرة وروحاً شعرية " تدرك أن الإيقاع يشكل عنصر القبول أو النفور عند الذوق المتلقي لفكرة من الأفكار ، متوافقاً مع إيقاع الأسلوب أو الشكل الذي يكون بدوره نظاماً زمنياً متدفقاً ، وفق خطة بنائية جمالية محكمة في الزمان ( فنون السمع ) أو في المكان ( فنون الرؤية ) أو فيهما معاً في حالة من الحضور إرسالاً واستقبالاً في آن وزمان ( فن المسرح ) .

ولك تحياتي ،،، د. أبو الحسن سلام











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا