الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دروس من تجربة الثورة الثرية : الجادرجي والزعيم (1-2):

عقيل الناصري

2015 / 9 / 24
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من المفارقات التاريخية (المؤلمة ذات العواقب الوخيمة) التي اعقبت نجاح التغيير الجذري في 14 تموز 1958 وأثرت سلباً على حراكها، وعدم استكمال مسيرتها التغييرية والهادفة على إحداث نقلة نوعية في الحياة الاجتصادية والسياسية، الثقافية والفكرية، هو عدم الإلتئام والإلتقاء الفكري والسياسي المنتظر، رغم ضرورته الموضوعية والذاتية، بين قيادة التغيير الجذري، وبالتحديد هنا قاسم، والقيادات السياسية للقوى الاجتماعية (أحزاب جبهة الاتحاد الوطني). وفي هذه الدراسة اعني بالتحديد كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي، والذي مَثَلَ، وبقية القوى العراقوية المُنطلق، جزء مهماً من القاعدة الاجتماعية للتغيير الجذري، والتي مثلت ماهياتها الغائية المستهدف من فعل التغيير ذاته.
وفي اعتقادي، إن هذا اللقاء المفترض، له أكثر من ضرورة لذات صيرورة التغيير وسيرورته اللاحقة ولمشروعه الوطني في امتداده العربي، ولذات القادة (السياسيين والعسكريين) وأحزابهم، والأكثر للقاعدة الاجتماعية المستهدفة، وفسح المجال نحو التحقيق الملوس للمساواتية والعدالة الاجتماعية (النسبيتين) لجميع المكونات الاجتماعية، وبالأخص للطبقات الفقيرة (مادة التاريخ الانساني) وذوي الدخل المحدود، ضمن إطار الهوية الوطنية العابرة للولاءات الدنيا (مناطقية ومذهبية وأثنية ورابطة الدم)، فتكون الجامع الموحد لهذه المكونات، مع احتفاظ كل مكون بخصوصيته الاثنية والثقافية.
يُلاحظ إن حراك ماهيات الحياة لا تخضع في صيرورة تحققها لذواتنا ورغائبنا.. بل على وفق منطوق قوانينها وسنن تطورها، ضمن صراع الظواهر وجدليتها والعلائق المترابطة بينها وأواليتها وحركة الواقع الموضوعي وترابطه النسبي مع الوعي الاجتماعي المتجلي في اشكاله: الفلسفية والحقوقية والسياسية والجمالية والدينية، ضمن اطر المصالح العامة والخاصة.
يوضح تاريخ الانتلجنسيا العراقية المعاصرة، بخاصة ما له علاقة بالحركة التقدمية واللبرالية الديمقراطية والمنحى اليساري، أنها عاشت منذ أن خطت سنوات فتوتها، في صراع مستديم مع:
واقعها ومحيطها الاجتماعي المتخلف بكل الابعاد ؛ ومع ذاتها الطامحة لبلوغ اهدافها، رغم طابعها ذات المنزع الاستعجالي والمقترن بالامنية التفاؤلية؛ تصميمها على تغيير ذلك الواقع بما يتلائم مع تطور القوى المنتجة وتعددية أنماطها الاقتصادية وبنائها الفوقي؛ مع قوى الاحتلال الأول (1914- 1932) والسلطة التابعة له والمنَصّبة من قبله وقاعدتها الاجتماعية ومشروعهما لمستقبل العراق؛ وأخيرا مع اشراك الفئات والطبقات الجديدة التي بدأت حراكها الجماهيري العفوي كالعمال والأجراء والطلبة.
لقد ترتب على هذا الصراع عواقب جمة صاغت من الكثير منهم ما يمكن أن نطلق عليهم (الانتلجينسيا Intelligentsia، مثقفيين عضويين، حسب مفهوم غرامشي) ربطوا بين مهماتهم الحياتية وغائية التغيير الاجتماعي التي نظروا إليها كصيرورة اجتماعية/سياسية وبالتالي وسموا الثقافة العامة بطابعها الاجتماعي بنزعته التقدمية التي تبلورت بكل ابعادها في تجليات الوعي الاجتماعي. هذا النزوع يمكن رصده في مختلف مراحل التطور التاريخي لسيرورة الظاهرة العراقية المعاصرة، رغم ما اصبها من نكوص مؤقت، حتى كانت تعاود السير بذات الاتجاه رغم نسبية العجالة. وتأسيسا على ذلك وهذا الكم النوعي المتعدد الأوجه.. توج ذاته في أطار مشروع رباعي الأبعاد، أغلب عناصره متكونة نسبياً من: وضعي- عقلاني- علماني - علمي. وضمن تفاعل الأهداف التنويرية المنطلقة من: الفرد- العقل- الطبيعة - العلم .
كما نتلمس وجودهم المعنوي، وبخاصة في زمن الجمهورية الأولى (14 تموز 1958- 8 شباط 1963)، حيث ساهموا في عملية استحداث تاريخ جديد للعراق تمثل في تهيأتهم لتربة التغيير، بل ان بعضهم ساهم في تمظهره. كما يُسترشد بهم وبمواقفهم العملية وبتأثيرهم على مجمل توجهات الحياة الاجتصادية والسياسية، الفكرية والثقافية، ونتحسس غائيتهم ببعدها الجمالي من افكارهم التي انصبت على العدالة الاجتماعية النسبية والهوية الوطنية التي ساهم البعض منهم في التأسيس المادي لها .
وبالعودة إلى المحور الأراس لهذه الدراسة.. فقد كان الجادرجي ينتمي إلى المدرسة العراقوية، كأغلب الاحزاب والحركات الاجتماسياسية. ولكنه كالزعيم قاسم وبقية القوى لم يتخندقوا في عراقيتهم بقدر ما اعتبروها إمتداداً طبيعيا إلى الانتماء العربي. واعتبروا الوحدة العربية كهدف سامي يسعون إليه من خلال حركة الشعوب العربية والتكامل الاقتصادي والترابط العضوي بين أجزائها.. وليس رغبة رومانسية أو ظاهرة صوتية هائمة.
بيئتان اجتماعيتان متناقضتان:
نلاحظ ان كل من قاسم والجادرجي تربيا في بيئتين مختلفتين، بل حتى متناقضتين طبقياً وبالتالي فكرياً وتلك المنظومة القيمية المعيارية المنبثقة من وضعهما الاجتماعي وكذلك من تخصصهما المهني. كذلك ما تبعها من مؤثرات نفسية وسياسية ضمن النشاط السياسي العام، مما بلور شخصيتيهما في كل من: جذرية الرؤية السياسية الاصلاحية ؛ الغائية الطبقية المستهدفة؛ سعة المنظور الفكري لواقع العراق ومستقبله ؛ الموقف من النظام الملكي وقاعدته الاجتماعية؛ في ماهية وملائمة عتلات التطور الاجتماعي كمؤسسة وطبقة؛ في سجاياهما الذاتية؛ سعة فهمهما للظواهر الاجتماتاريخية؛ ولتلك التي ألقاها التاريخ عليهما.
وبالرغم من تقاربهما في توجهه العام والمنطلق والسير نحو الارتقاء بالمكون العراقي الوليد عبر هويته المتميزية، إن لم نقل مدى تأثر قاسم بوجه نظر وتوجهات الجادرجي الفكرية وبمدرسة الأهالي، كنموذج سياسي فكري يتناغم وماهيتهما الاجتماعية وتوجهاتها.. حتى اعتبر نفسه( تلميذاً) للاهالي وللجادرجي، حيث لعبت جماعة الأهالي في البدء دورا مهما، منذ تأسيسها في مطلع الثلاثينيات ومن ثم إلتحاق الجادرجي بها، في نشر الفكر الديمقراطي اللبرالي ذو البعد الاجتماعي للمشاكل التي يعاني منها العراق، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
ولمعرفة بعض من هذه الجزئيات سنلقي الضوء في البدء على بعض من جوانب النشأة للجادرجي حيث ولد " في ذلك الوسط العثماني المرتفع بحيث لا يقبل ان يناديه أحد بأي كلمة سوي كامل بيك التركية. ثورة 58 كانت ضربة كبيرة لطبقة الأفندية مما جعل الجادرجي يشعر غريباً في الوسط الجديد الذي يميل الي كيان شعبي بعيد عن الوسط الذي يعيش فيه الجادرجي، ان معارضة الجادرجي للحكم الملكي لم تعني انسجامه مع الوسط الجديد الذي ساد العراق بعد الثورة أو تخليه عن الأصول الاستقراطية المستفيدة من الأصل الانكشاري الذي جعل في هؤلاء الأفندية ملاكين لأراضي زراعية شاسعة جعلت من الجادرجي يعيش حياة مكلفة ... وجعلت منه اقطاعياً شُملت أراضيه الزراعية بقانون الاصلاح الزراعي ويعيش بدون عمل" (2). بمعنى آخر كانت عائلته من الملاكين الكبار، لذا "... لم يعرف الجادرجي الحرمان أو عدم الاستقرار الاجتماعي وذلك بفضل الثروة التي ورثها عن آبائه والتي يسرت له عيشاً رغيداً، كما استخدم بعضها في دعم نشاطه السياسي" (3). وتعزيز مكانته الاجتماعية والسياسية حتى أنه"... عند تطبيق قانون الاصلاح الزراعي وشمولنا به قمت بإعداد الإقرارات اللازمة دون مراجعته، وهي اقرارات تتعلق بحوالي 250 قطعة من الأراضي وتمثل ثروة طائلة" (4). كما ان عائلته "... من عائلات بغداد القديمة، شغل رجالها مناصب هامة في الدولة، وكان لهم مجلس كبير من المجالس التي اعتاد وجهاء بغداد واعيانها اقامتها في دورهم ودواوينهم وقد برز منهم رفعت الجادرجي وولداه رؤوف بك وكامل الجادرجي...فهم عائلة ميسورة يمكن اعتبارها ارستقراطية ومن العوائل المعروفة، التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بالتقاليد الدينية والاجتماعية" (5).
وعلى النقيض من ذلك، وبصورة مكثفة، عاش عبد الكريم قاسم (6)، الذي تجلت حقيقته في نهايته حيث نرى حقيقة ما تراكم في مجرى صيرورته الفردية والتاريخية، في المحلة الشعبية، حيث إن اكثر الدلائل المادية المتوفرة، تشير إلى وضع العائلة الاقتصادي البائس، لكنه لم يحصل حد الادقاع، حيث ولد قاسم وعاش فترة شبابه في بيت لازمته الحاجة والعوز المادي لفترة طويلة نسبياً، كما تدلل القرائن على صعوبة حياته المقترنة بالمشاق وعدم الثبات المادي لأسرته إذ كان ابوه يعمل نجاراً (7)، ويستمد المعونة المادية من أخيه الاكبر الضابط علي محمد البكر. كما أن محل ولادته (محلة المهدية من رصافة بغداد) تشي بالوضع المادي السيء حيث سكنتها، ولا تزال، العوائل الفقيرة والكادحة وتجاورها محلات القادمين الجدد من البلدات القريبة من بغداد. هذه الوضعية الاجتماعية وواقع عمقها القاسي ستؤثر لاحقا في ماهيات منظومته الفكرية والعملية وتبنيه فكرة المساواة والعدالة الاجتماعية النسبية. وكان يعتز بالانتماء إلى هذه الفئة، و يقول عن نفسه " أني ابن الفقراء..أنني فقير.. شخص فقير وجدت وعشت في حي الفقراء وقاسيت زمناً طويلاً مرارة العيش، ولكننا نملك الغنى، غنى النفس وكنا نملك الغنى، غنى الأباء" (8). وفي الوقت نفسه كانت المحلات القريبة من مسكنه يعيش فيها أغلب ألوان الطيف الاجتماعي العراقي سواءً الأثني (كرد وعرب وتركمان) أو الديني (مسلم ومسيحي ويهودي) وحتى المذهبي (سنة وشيعة)، لهذا تأثر قاسم بهذا المحيط وما حمله له من تعدد وتنوع الأفكار الديمقراطية اللبرالية والوسطية وتبني المنطلق العراقوي في انتماءه الأرحب.
ومن القراءة التاريخية لسيرة قاسم، أرى أن كارزميته اعتمدت بالدرجة الاساسية على قوة شخصيته ومواهبه وعلى صلابة مواقفه الحياتية، وبالاخص في المؤسسة العسكرية، وليس على أرث العائلة الاجتماعي ولا المُلكية والثروة، كما انه لم يستمدها من رابطة الدم. إذ كان من عموم الناس، كذلك من التأييد الشعبي الذي ناله من جراء ما تحقق من منجز"...إذ يعترف غير قليل من أولئك الذين وقفوا ضده في تلك الساعة بأن عامة الشعب كانت تكن حباً مخلصاً يفوق حبها لأي حاكم آخر في تاريخ العراق الحديث" (9). وهذا ما ميزه مقارنة بأعضاء النخبة السياسية الحاكمة، سواءً الملكية أو الجمهورية.
وانطلاقاً من هذه الفكرة، فيكمن المصدر الأراس لزعامة قاسم في: دوره من تأسيس اللحظة التاريخية الخاصة بتطور العراق والسير به على طريق الحداثة؛ مما فرضته صيرورة الصراع الاجتماعي ليلعب دور الوسيط الحيوي بين الطبقات الاجتماعية؛ من المنجز المتحقق لصيرورات التقدم الاجتصادي بكل أبعاده ومضامينه؛ من الطبقات والفئات المستهدف الارتقاء بها واشباع الكثير من ضرورات حياتها؛ طبيعة وشكل الحكم؛ المضامين الاجتصادية والسياسية والفكرية لسلطة 14 تموز؛ أسس إدارته للسلطة وتوازاتها السياسية وإرساءها على قواعد جديدة؛ توسيعه لقاعددة الحكم المشاركة في القرارات المركزية للدولة؛ ربطه الجدلي بين النزعتين الوطنية (العراقوية) والقومية (العروبية)؛ من مهنيته العسكرية وترأسه لحركة الضباط الأحرار؛ من قدرته ونمط تفكيره المنتقل من حيز الأمكان إلى حيز العمل.
أما بالنسبة إلى كامل الجادرجي فيمكننا القول أن بعضا من سماته القيادية المقترنة بكاريزما تطورت مع مكانته السياسية والحزبية، التي عكست سيكولوجيا رغبة الجادرجي في أن"... يكون أبرز شخصية في الحزب الوطني الديمقراطي، والرئيس الأول والأخير له" (10). وينتمي، كما اعتقد، إلى فئة الانتلجنسيا العضوية المنطلقة من أولوية عراقية العراق.. حيث ربط مهامة الثقافية وحراكه السياسي في سيسيولوحية صيرورة التغيير الغائي المرغوب به، وهذه نقطة ايجابية كبيرة له.إذ ساهم بقوة ليس في تهيئة تربة التغيير حسب، بل كان مساهما مدركاً حسب الممكن والمتاح، في الدعوة إلى تبني فكرة التغيير من خلال البناء الديمقراطي الحقيقي واللبرالية السياسية وعتلتهما البرلمانية.. وبهذا كان مساهما في استحداث تاريخ جديد لذاته ولحراكيته السياسية وانتماءه، بالمفهوم الواسع، الطبقي ومن ثم الوطني، كمعبر أرأس عن مطامح ومصالح الطبقة الوسطى بفئاتها المتعددة بل والمتناقضة. كما أن منظموته الفكرية أخذت بالتطور والارتقاء واغنتها التجربة السياسية والصراع الاجتماعي، إذ أنه "... ترك صفوف حزب الاخاء الوطني، لأنه رأى برنامجه خالياً من المبادئ الاجتماعية وان عقيدته السياسية غير واضحة... فيما وجد في تفكير جماعة الأهالي السياسي شيئا جديدا يسد الفراغ الذي يحس به ويشبع القلق الذي يشعر به" (11).
وهب الجادرجي جل حياته، إلى القضية الوطنية العراقية وامتداداتها نحو الامة العربية بأفقها الديمقراطي اللبرالي ضمن تصوره الاجتماعي. كما ناضل منذ العشرينيات، بقدر ما تسمح له ظروفه والبلد من أجل تطبيق الدستور المتبني لمسألة التداول السلمي للسلطة بين القوى الاجتماعية، كوسيلة أراسية، ومن اجل العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل النسبي للثروة الوطنية وانتشال الفقراء من واقع حياتهم بالتوافق مع رؤاه الفكرية غير العميقة الجذور على الاقل من الناحية النظرية. كما كان الجادرجي يرصد الحراك الأول لفئة الأجراء وتنظيم انفسهم وكذلك المشاركة الواعية لفئة الطلبة بالساحة السياسية بتحفيز من قبل الرواد الأوائل للفكر التقدمي (جماعة حسين الرحال). كما كان يعد نفسه لتسلم المهام ببعدها البرلماني كوسيلة أراسية كي تخدم واقع المجتمع وتخدم ذاته الطامحة سواء:النفسية أو السياسية واستمرار مكانتها الاجتماعية.
لقد تمتع الجادرجي بكاريزما سياسية وسمته طوال حياته..أما مصدرها الأرأس فيكمن في: الارث الاجتماعي لعائلته باعتبارها ضمن النخبة السياسية ومن الارستقراطية التقليدية قبل تأسيس الدولة وبعدها؛ دعوته المتكررة للبرلمانية كوسيلة اساسية للتداول السلمي للسلطة حتى اصبح اسيرا لها؛ مبادرته السياسية لتزعم جماعة الأهالي ذات الخطاب الهادئ ذو الرنين الاصلاحي؛ عدم اغفاله للنواحي الاجتصادية للطبقات الفقيرة والكادحة والفئات الاضعف كالمرأة والفلاح؛ نظرته الاصلاحية الوسطية المنطلقة من عراقويته أمام القوى المتخلفة والمتحالفة مع بريطانيا؛ التحالفات السياسية مع قوى الوطنية المعارضة اليمينية(حزب الاستقلال) واليسارية (الحزب الشيوعي)؛ الموقف المبدئي من برنامج جماعة الاهالي ومن ثم الحزب الوطني الديمقراطي ومحاولة ترجمتها الى واقع مادي.
المعضلة:
إذن نحن أمام شخصيتين كل منهما يحمل كارزميته الخاصة وإعتداده بنفسه وذات المنشأ الاجتماعي المختلف عن الآخر. فقاسم كون مكانته الكارزمية من خلال تفجيره للحظة التاريخية للتغيير الجذري للانتلجنسيا العسكرية، في حين أن كامل قد بنى مكانته الاجتماسياسية من خلال نضاله الدؤوب من أجل مشاركة الأحزاب السياسية في الحكم والتداول السلمي عبر الانتخابية البرلمانية. كان الجادرجي يحرث الأرض الصلدة ويبذر في رحمها بذور التغيير بصبر وعزم دؤوبين، حتى ايعنت مذاقاً قادها الجناح العسكري لللانتلجنسيا العراقية.. لكنه أبى الاستمرار في رعايتها ودعمها، وإن كان يمنحها، في ايامها الأولى بصورة خاصة، لماً من دفئه المعنوي وتأييده السياسي. كما كان قاسم متواضعاً إزاء كامل وإعتداد الأخير بذاته لدرجة عالية.. حتى أنه أخذ في مجالسه الخاصة يتهكم على قاسم وبسخرية حادة ويطلق عليه صاحب (اننا) (12)، التي كان غالبا ما يذكرها قاسم في خطبه. بل وصل به الحد إلى أنه اطلق على قاسم صفة الجنون وحكومته (حكومة مجانين) ولذا رفض التعامل معه (13)، بل ورفض أن يعمل ابنه كأمين للعاصمة بغداد حيث اقترحه الزعيم.
لقد سبق لقاسم أن اشرك الجادرجي، والحزب الوطني الديمقراطي، وأعلمهما بالتغيير المرتقب، بل حدد له موعده غير المعلوم لأغلبية اعضاء اللجنة العليا للضباط الأحرار. واعتقد على وفق المعطيات المادية، أن الجادرجي بادر بدوره إلى الأنسجام وهذا الأمر الجديد واحتضنه بقوة معنوية كبيرة بعد أن اقتنع بإستحالة التداول السلمي للسلطة في العهد الملكي وعدم قدرة احزاب جبهة الاتحاد الوطني والانتفاضات الشعبية من التأثير على القرار المركزي للسلطة، بعد إغلاقها منافذ العمل السياسي المقترن باشتداد حدة القمع.
ومن نافلة القول أن قاسم طلب، عندما كان الجادرجي بالسجن، من الحزب الوطني الديمقراطي تأييد الحركة المزمع القيام بها وإلا سوف يؤجلها، عن هذا يقول محمد حديد: "... فذهبت، أنا وصديق شنشل فقط إلى غرفة الجادرجي في السجن صباح أحد الأيام، والجدير ذكره أن أحداً غيرنا لم يحضر هذا اللقاء. لقد أبلغنا الجادرجي المعلومات التي نقلها إليَّ رشيد مطلك وأوضحنا أنه ينبغي تعين الموقف النهائي من الحركة العسكرية إذا أردنا لها أن تنفذ. ومع أن الجادرجي كان منذ البداية مؤيداً لقيام الحركة فإنه كان متردداً بشأن اشتراك الحزب الوطني الديمقراطي فيها بتولي أي أحد من قيادتها منصباً مسؤولاً في الحكومة التي ستشكلها الحركة بعد نجاحها... وقد بيّن له كلانا أنا وصديق شنشل، أن الوضع القادم في العراق لا يمكن أن يتغيّر إلا بعمل عسكري. وبحسب ما علمته من رشيد مطلك فإن هذا العمل العسكري لن يتحقق إن لم يكن مدعوماً من جبهة الاتحاد الوطني...وبعد نقاش طويل وتمحيص الخيارات و الاحتمالات التي يمكن أن تقع، اتفقنا على دعم الحركة التي فوتحنا بشأنها، والاشتراك فيها إذا طلب إلينا ذلك. وبعد بضعة أيام زارني رشيد مطلك، فابلغته موافقة الحزب الوطني الديمقراطي على دعم الحركة وعلى اشتراكي في الوزارة التي ستتولى الحكم بعد نجاح الحركة" (14).
فالمرء هنا أمام معضلة أو (ظاهرة شكسبيرية بإمتياز)، تثير أكثر من تساؤل بل وحتى إستغراب، فيا ترى لماذا منح الجادرجي تأييده لفعل التغيّر الثوري والجذري وصيرورته واهدافه، لكنه حجبها عن الفاعل الأرأس، قاسم، ولم يشترك معه في إدارته وتحقيقه مادياً وهو الذي ناضل طيلة حياته من اجل ذلك؟ ولماذا كان سلبياً إزاء الواقع الجديد وتفاعلاته وصعود الطبقة الوسطى، التي هو من أبرز ممثليها، واعتكف في داره يستقبل من هب ودب من معارضي السلطة الجديدة وتوجهاتها؟.
الهوامش:
(1) هذه الدراسة تمثل جزء من دراسة أوسع، يقوم الكاتب بإعدادها وهي بالاساس تطويراً لدراسة سبق وان نشرت في جريدة الوفاق بالعددين 260و 261 في 10 و 17 نيسان 1997. لندن ، كما نشرت في العدد 374-375 من الثقافة الجديدة.
(2) د. فاضل الجلبي ، جريدة (الزمان) الدولية - العدد 3016 - التاريخ 9/6/2008. لندن. وقد تعرضت الدراسة لمناقشة د. كاظم حبيب نشرت في ذات العام في .www. ahewar.org
(3) د. مجيد خدوري، عرب معاصرون، ادوار القادة في السياسة، ص. 234، الدار المتحدة 1973.
(4) رفعت الجادرجي، صورة أب، ص. 180 ، مصدر سابق.
(5) د. محمد الدليمي، كامل الجادرجي، ص. 18-20، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت 1999،.
(6) لقد فصلت حياة الزعيم قاسم واستشهاده في جل اعمالي الدراسية التي تمحورت حول فعل 14 تموز وفاعله الأراس عبد الكريم قاسم من الناحية االبيوغرافيا ونشاطه ما قبل الثورة وما بعدها...
(7) كان والده يعمل في ورشة بمحلة قنبر علي بمعية الحاج علي مصطفى والد أول وزير للعدلية في حكومة 14 تموز.. وكانا أخوين بالرضاعة .راجع مخطوطة مذكرات مصطفى علي، حول 8 شباط.
(8) مستل من ليث الزبيدي، ثورة 14 تموز في العراق،ط.2،مكتبة اليقظة العربية، بغداد 1981.
(9) حنا بطاطو ، الطبقات الاجتماعية ج. 3 ، ص. 296 .
(10) د. عادل البلداوي، الحزب الوطني الديمقراطي في العراق 14 تموز58 - 8 شباط 1963، ص. 16، شركة الميناء للطباعة، بغداد 2000.
(11) المصدر السابق ، ص. 17.
(12) رفعت الجادرجي، صورة أب، ص.175، مصدر سابق.
(13) رفعت الجادرجي، صورة اب، ص. 161، مصدر سابق .
(14) محمد حديد، مذكراتي، ص. 310، مصدر سابق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التجسس.. هل يقوض العلاقات الألمانية الصينية؟ | المسائية


.. دارمانان يؤكد من الرباط تعزيز تعاون فرنسا والمغرب في مكافحة




.. الجيش الأمريكي يُجري أول قتال جوي مباشر بين ذكاء اصطناعي وطي


.. تايلاند -تغرق- بالنفايات البلاستيكية الأجنبية.. هل ستبقى -سل




.. -أزمة الجوع- مستمرة في غزة.. مساعدات شحيحة ولا أمل في الأفق