الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(اليسار السوداني روائيا) قراءة نقدية في رواية (بيني وأم ريتا) للروائي والقاص عثمان عبد الله

طارق علي حامد

2015 / 9 / 28
الادب والفن


(اليسار السوداني روائيا)..
قراءة نقدية في رواية (بيني وأم ريتا) للروائي والقاص عثمان عبدالله
طارق علي
اليسار السوداني , وفي القلب منه (اليسار الماركسي) تتم عملية لتشريحه وسبر أغواره البعيدة علي مستويات بحثية وأكاديمية عدة تناولت بأدوات (المؤرخ) عملية تشريح مسيرة هذا اليسار السوداني منذ ميلاد حلقاته الماركسية الأولي في الأربعينيات , فظهرت مجموعة أبحاث (أكاديمية) وكتب في ما يتعلق بمعالجة هذه الجبهة ـ تاريخيا ـ أي من جهة التوثيق والتمحيص التاريخي , وماذالت الأبحاث تتري من هذه الزاوية , ولكن ماذا عن عملية تشريح وسبر أغوار (يسارنا الماركسي السوداني) بأدوات (الروائي)..؟؟ شخصيا لا أملك (ببلوغرافيا) محددة توضح عدد الروايات التي تناولت مسيرة هذا اليسار السوداني , ولكن في الفترة الأخيرة توفرت علي قرأءة روايتين لكاتبين سودانيين , الأولي بعنوان (باب الحياة) للكاتب محمد بدوي حجازي الصادرة من مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي بأمدرمان , والفائزة بجائزة الطيب صالح لعام للرواية 2007م , والرواية الثانية ـ وهي موضوع هذا المقال ـ للكاتب والقاص عثمان عبد الله فارس حملت عنوان (بيني وأم ريتا) , وصدرت في طبعة شعبية وتم توزيعها علي نطاق ضيق للغاية , وهذا ـ في تقديري ـ ساهم في (استعصام) الرواية في منطقة (المناخات الباردة) من حياتنا الأدبية والنقدية بعيدة من أعين النقاد , وحرم الكثيرين من محبي قرأءة الروايات ـ مثل العبد لله ـ من قرأءة هذه الرواية المهمة , هاتين الروايتين حاولتا جهدهما التوثيق لمسيرة اليسار السوداني (روائيا) , رواية (بيني وأم ريتا) تجربة روائية جديدة ـ قديمة للكاتب الروائي والقاص عثمان عبد الله بعد مجموعته القصصية الرائعة "عفوا سادتي ..لا تغلقوا الزجاجة" التي صدرت عن دار عزة للنشر والتوزيع في عام 2002م , الرواية جديدة في اسلوبها ولغتها التي نأت من طبعية السرديات الوصفية المطولة الي جمل (أغتضابية) قصيرة , وقديمة في موضوعها , حيث لم تكن هي الرواية الأولي التي تناولت (اليسار) كـ(ثيمة) أساسية لها علي مستوي تاريخ السرديات في السودان والبلاد الاخري , وعثمان عبد الله ـ كما يعرفه قراء (الميدان) ـ هو كاتب روائي وقاص وناقد بالاضافة الي عمله كصحفي مهموم بالشأن الثقافي , ولد بقرية (فارس الكتاب) بولاية الجزيرة ومن مؤسسئ رابطة الجزيرة للآداب والفنون أصدر عدد من الكتب توزعت بين كتابة الرواية والقصة القصيرة والدراسات النقدية , منها (عفوا سادتي لا تغلقوا الزجاجة) , و (رحيق وعلقم الأوراق المنسية) وهو كتاب حاول ان يحاور من خلاله الأستاذ الراحل محمد ابراهيم نقد السكرتير السياسي السابق للحزب الشيوعي السوداني حول مؤلفه (علاقات الرق في المجتمع السوداني) , (وبيني وأم ريتا) وكتاب صدر مؤخرا عن دار مدارك للنشر حول الشاعر الراحل محمد الحسن سالم حميد. العتبة الاولي التي يدلف منها القارئ لعوالم رواية "بيني وأم ريتا" وهي رواية قصيرة لا يتجاوز عدد صفحاتها الـ(52) صفحة , هو هذا الأهداء القصير الذي وجههه الكاتب ـ في مخاطبته للذات القارئة ـ "الي كل من راودته الهجرة الخلاسية عن نفسها ..فأعتصم وقال اني أحب الوطن العظيم" , أهداء محتشد في الوعي التاريخي بكل ما تستدعيه الذاكرة من دهاليز التاريخ المعتمة عن قصة يوسف الصديق مع (أمرأه العزيز) , ملك مصر , التي حاولت مراودة صبيها (يوسف الصديق) وفضل السجن بدلا من أطاعتها , كما يستدعي الاهداء في مقدمة الرواية الي واقعنا الحاضر كل تجليات الرفض لمقادره وطن أرهقته الحروب , وأغرقته الدماء , وقسمته مصالح الدول الامبريالية الكبري المتماهية مع مصالح الدكتاتوريات الحاكمة في السودان , وبالأخص الدكاتوريات المتدثرة بغطاء (الاسلام السياسي) فيتحول فعل (الرفض) لمقادره الوطن موازيا لفعل (الامتناع) في قصة يوسف , في ذات الوقت الذي يتحول فيه (الخضوع) لمراودة الهجرة الخلاسية وبالتالي الهروب الي اصقاع العالم من أجل النجاة و البحث عن فكرة (الخلاص الفردي) هو أشبه بما جاء في قصة نوح علية السلام مع ابنه والتي يمكن قرأتها في ذات السياق المؤدي في مضمونه لرفض فكرة (الخلاص الفردي).والتي عبر عنها الشاعر المصري الراحل امل دنقل في قصيدته البديعة الموسومة بـ "مقالبة خاصة مع ابن نوح"حيث تقول بعض كلماتها :
نأبي الفرار..
نأبي النزوح
كان قلبي الذي نسجته الجروح
كان قلبي الذي لعنته الشروح
يرقد ـ الآن ـ فوق بقايا المدينة
وردة من عطن
هادئا...
بعد ان قال : لا للسفينة
...وأحب الوطن
في متن الرواية محاكمة لعصر بكامله , عصر موت الانسان في زمن رمادي , حيث تتواري الحقائق وتتلون بلون كل من (يدعي) امتلاكها المطلق , عصر أصبح فيه الوطن بحجم الزنزانة ومن هنا كانت (بيني وأم ريتا) بمثابة ضوء كاشف لسوءات مثل هكذا عصر .
((حل الخريف ميقاتا أواخر يونيو او بداية النقعة حسب تقويم قدماء المزارعين , ووفقا لحساباتهم المتوارثة ان الأمطار من المفترض ان تهطل قبل (عينتين) ولكن ـ وحتي الآن ماجادت سماء المدينة لأرضها بمثقال (دمعة نملة) تروي الظمأ وتطفئ لهيب الأسفلت , وتهدئ الغبار والأعصاب , ومقابل هذا الشح والتمنع قذفت ارض المدينة لسمائها بأطنان من الدخان وزفرات الغبن الانساني)) , بهذا المدخل يقودنا الراوي الي داخل عوالم الرواية ولغة الرواية التي مزجت في نسيجها الحكائي بين السرد والشعر , ففي بنية النص الروائي تقرأ قصائد لمحمد الحسن سالم حميد , ومحجوب شريف , وعلي عبد القيوم , وعبد القادر الكتيابي ومحمود درويش , وشعراء آخرين بحيث تشكل هذه الئنائية ـ الشعرية السردية ـ لحمة وسدي المتن الروائي . ويلحظ القارئ لنص عثمان عبدالله علي صعيد البناء الفني للسرد ان هناك صوتا أساسيا واحدا في الرواية هو صوت الراوي المثقف والكادر اليساري الذي يحاول ان يتمثل في طقسه اليومي مبادئ المناضلين والمضحين في سبيل الأشتراكية والتقدم , والبحث عن (خلاص اشتراكي) للبشرية , متحملا من أجل الوصول لهذا (الخلاص الشتراكي) المنشود رطوبة المعتقلات والصمود امام آلات التعذيب الجهنمية , وظهور ما يعرف بـ(بيوت الأشباح) في عهد الجبهة القومية الاسلامية التي تحكم البلاد حاليا , وذلك كله دون الأنزلاق الاعمي واللهث وراء التجارب الاشتراكية التي تهيأت لها ظروف موضوعية في بلدان أخر تختلف عن ظروف السودان , وبالتالي بالضرورة (أستصعاب) عملية استنساخها ـ وقع الحافر علي الحافر ـ في بيئتنا السودانية . وهنا يحتفظ الراواي ـ البطل ـ لنفسه بحق النقد لتلك التجربة , فنجده أحيانا يصف تلك التجارب الاشتراكية بأنها (أوهام بلشفية , أو تهويلات بلشفية من صنع دار التقدم) في أشارة لتضخم الآلة الاعلامية السوفيتية , وتقاضي هذه (الآلة الاعلامية) عن الأخطاء والانتهاكات التي أرتكبت بأسم الأشتراكية في الاتحاد السوفيتي السابق . وبالرغم من أن الأدب والفن عموما لا بعبران عن الواقع بلغة الواقع الذي يصدران عنه وانما بلغة الأدب و الفن وبالتالي فهما في الحقيقة ـ الأدب والفن ـ ابداع أو اعادة رؤية للواقع في جوهره لا في مظهرة , بل اعادة اكتشاف جمالي لهذا الواقع , أي ابداع جديد مستلهم من الخبرة الحية للواقع القائم بعبارات المفكر والناقد الماركسي محمود أمين العالم , الا ان الروائي عثمان عبد الله استطاع ان يؤسس وهو يقوم بعملية البناء الفني لشخصيات الرواية لواقع شبه ملموس ومعاش نسبيا في مجتمعنا السوداني وخصوصا ذاك (الواقع) والطقس الخاص المرتبط بالحياة داخل الجامعات السودانية وبالتالي بكل ما يستدعيه ذاك الواقع الطلابي الي الذاكرة من أنشطة سياسة وثقافية في (مقاهي النشاط) المنتشرة داخل الجامعات السودانية , وانحسار هذه الانشطة ـ الساسية والثقافية ـ تدريجيا تحت ظل آلة القمع ومصادرة حرية التعبير عن الرأي في ظل سلطة قابضة تحسب وتعد أنفاس المعارضين لها , ليتحول مقهي النشاط الي مجرد مكان يلتقي في الطالب الجامعي بحبيبته .
كما أستطاع عثمان عبد الله ان يوظف (موضوعة) بيت العزابة روائيا بحرفية عالية بحيث يصبح بيت العزابة القابع في الديم بالخرطوم مثل بؤرة الضؤ في ماكينة السينما التي يمر من أمامها الشريط السينمائي وبالتالي تحول البيت من مجرد منزل عزابة عادي الي مرآة لكل فئات المجتمع السوداني وطبقاته المصطرعة تمظهرت في (بيت العذابة) معبرة عن وحدة جدلية لاتنفي حقيقة الصراع الطبقي الدائر في المجتمع السوداني . كما لا تغفل الرواية في قالبها الحكائي سبرها لأغوار التاريخ الخاص بتجارة الرقيق في السودان ومارسخته هذه التجارة (اللانسانية) من استعلاء (زائف) لانسان الشمال تجاه الاثنيات السودانية الاخري وبالتالي نفي (الآخر) المختلف بصورة مستمرة في الخطاب غير المعلن للدولة , وكل ذلك دون ان يخل بشروط العملية الابداعية وما تتطلبة من قدرة عالية علي أضفاء المتخيل علي تراجيديا الواقع . في تقديري انه بالرغم من ان الرواية مليئة بالشخصيات الاخري الا انها شخصيات ـ من وجهة نظري ـ تم بناءها من أجل تسليط الضؤعلي بطل الرواية الأساسي (الراوي) .
كتب الناقد جابر حسين في تقديمه للرواية : "انني دائما ما أقول انه لم يعد هناك تعريف محدد وقاطع للشكل الروائي , وليس هناك وصفة جاهزة ونهائية تحدد لنا (ابداعية) الرواية بل انني أري ان الرواية قادرة بأستمرار ان تخلق أشكالها , فتنمو وتتجدد وتتنوع وتتسع في مجالات التجارب والدلالات وفقا لنموءها الذاتي وتجديدها لنفسها من خلال الرؤيا , ويوضح جابر حسين بان هذا النوع من الكتابات هي كتابات معلولة لواقع تاريخي محدد ومعلوم , ولكنها أيضا هي ثمرة هذا الواقع , وتعد هي ذاتها تعبيرا عنه . وحتي نستطيع ان نفهم أبعادها فهما عميقا لابد لنا من استحضار ذلك الواقع , والكتابة اذ تفعل بنا ذلك فانها ـ في ذات الوقت ـ تنأي بنفسها ان تكون استنساخا لهذا الواقع , في تصورة ولكن بشكل فني مبتكر" .
أخيرا , ان الكاتب عثمان عبد الله فارس أستطاع ان يؤسس بروايتة (بيني وأم ريتا) لأفاق وفتوحات جديدة في مسيرة السرد الروائي السوداني , وان يحجز لنفسه مكانا بارزا في خارطة الرواية السودانية كروائي متمكن من أدواته ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبدالعزيز يجبر بخاطر شاب ذوى الهمم صاحب واقعة ال


.. غيرته الفكرية عرضته لعقوبات صارمة




.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة