الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب اعترافات قاتل اقتصادي

سميح مسعود

2015 / 10 / 8
الادب والفن


صدر هذا الكتاب باللغة الإنجليزية عام 2006 ، للاقتصادي الأمريكي جون بيركينز على هيئة مذكرات شخصية ، وقد لقي حال صدوره اهتماماً كبيراً منقطع النظير في الاوساط العالمية، على مستوى أجهزة الإعلام والرأي العام والتيارات السياسية والفكرية المختلفة ، لما فيه من معلومات غير مسبوقة عن ظاهرة " القتل الاقتصادي " المعقدة التي ابتدعتها الرأسمالية الأمريكية كأداة للسيطرة على اقتصادات الدول النامية ، تتقوى بها وتوسع نطاق نفوذها ، عبر استعمال وسائل الضغط الاقتصادي والسياسي ، بكل ما تحمله من تحديات وتغيرات متلاحقة ومعقدة لصالح الهيمنة الأمريكية .

ولأهمية موضوع الكتاب دخل قائمة أكثر الكتب مبيعاً ، وترجم إلى ثلاثين لغة أجنبية ، وعم انتشاره في العالم أجمع ، وقد تعرف على هذا الكتاب مبكراً الدكتور بسام شفيق أبو غزالة المعروف في الأوساط الثقافية العربية كمترجم متميز ، فقام بترجمته إلى اللغة العربية في عام 2012 ، وأصدره عن دار ورد في عمّان ، وتمكن بفضل قدراته الكتابية واللغوية ان يشحن النص العربي بمفردات وتراكيب منسجمة ومتناغمة ، أكسبته جمالية فائقة وقيمة بنائية متميزة ، شعرت بتأثيرها عندما انتهيت من قراءة الكتاب ، وبدون مجاملة أو مداهنة وجدتني أرى الكتاب باللغة العربية يتسع لكثيرمن الجماليات السردية ، التي لم أجدها بنصه الأصلي بالإنجليزية ، وهكذا أحالت لغتنا الجميلة موضوعاً بالغ التعقيد إلى عتبات نصية بالغة المتعة .

يستهل الكاتب الصفحة التمهيدية الأولى من مؤلفه بتعريف مفاده " القتلة الاقنصاديون رجال محترفون يتقاضون اجراً عالياً لخداع دول العالم بابتزاز ترليونات الدولارات ، وهم بهذا يحوِلون الأموال من البنك الدولي ، ومن الوكالة الأمريكية للتنمية العالمية ، ومن منظمات " مساعدات " أجنبية اخرى لتصبَ أخيراً في خزائن الشركات الأمريكية الضخمة وجيوب قلةٍ من الأسر الغنية التي تتحكم بموارد الأرض الطبيعية ، وسبيلهم إلى ذلك تقاريرُ مالية محتالة ، وانتخاباتٌ مزورة ، ورشاوى ، وابتزاز ، وغواية جنس ، وجرائم قتل . إنهم يمارسون لعبةٌ قديمة قدم الإمبرطوريات ، ولكنها لعبة اتخذت في هذا الزمن العولمي أبعاداً جديدة رهيبة "

وفي سياق هذا التعريف العام يعرف جون بيركنز نفسه كقاتل اقتصادي متمرس ، بدأ عمله هذا عام 1972 في شركة " مين " وهي شركة خاصة مساهمة مقرها مدينة بوسطن ، مختصة بالإستشارات الهندسية ، واصل عمله فيها حتى عام 1980 ، وتلخصت مهامه العملية باعداد تنبؤات اقتصادية " مفبركة " لمشاريع هندسية كبرى ، مُدعمة بأرقام احصائية متخيلة ، تتشابك مع معادلات نماذج رياضية ونظرية " الإحتمالية " بصورة ديكورية لا أكثر ، تبين في مجملها جدوى استثمار مليارات الدولارات في مشاريع ضخمة في الدول النامية ، قادرة على تحقيق نمو اقتصادي كافٍ لتبريرتقديم القروض من وكالات الاقراض الدولية .

نجح جون بيركنز في مجال عمله وترقى ، والتقى بزعماء وقادة ورؤساء وأمراء ، شجعهم " بالرشوة والابتزازعلى قبول أخذ القروض تحت ذريعة تطوير البنى التحتية في بلادهم ، مقابل منح الشركات الامريكية كافة الإمتيازات في جميع المناقصات والعقود ، والإذعان لكل ماتطلبه منهم الحكومة الامريكية .

استطرد في توضيح القروض المالية الضخمة التي يختلقها القاتل الإقتصادي ، بين أنها تقدم من بنوك امريكية والبنك الدولي ، إلى الشركات الأمريكية المنفذة للمشاريع ، وعلى البلد المدين أن يسددها بالكامل ، الأصل والفوائد في الأوقات المتفق عليها ، وعند تخلف دولة ما عن سداد الدفعات الواجبة عليها ، يضيق الخناق عليها ويطبق ضدها " جزاءات وعقوبات صارمة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ، منها السيطرة على تصويتها في الأمم المتحدة ، أو إقامة قواعد عسكرية في أراضيها ، أو السيطرة على مصادرها الطبيعية الثمينة كالنفط أو قناة بنما ، مع البقاء المدين مديناً بالمال المقترض " .

وأياً كان الأمر ، فإن اعترافات جون بيركينز ، لها خصوصيتها الشديدة ، ولها عموميتها الرحبة المتسعة الضامة لتجارب دولية كثيرة ، اعترافات تفعل فعلها في بلورة صورة جديدة عن توحش الرأسمالية المعاصرة لا سابق لها حتى الآن ، تتجسد تجلياتها على أرض الواقع ، بربط دول العالم مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية ، لصالح عدد من شركاتها ومصارفها .

لقد تناول المؤلف موضوع كتابه بنظرة واقعية شاملة ، وأكد أن المعلومات المتوفرة في مسالك النص مستمدة من تجارب عملية وأحداث تاريخية بأفاق واسعة شارك في أحداث بعضها ، مدعمة بوثائق وسجلات ومذكرات شخصية له ولغيره ، ومراجع كثيرة ثبتها في نهاية كتابه يمكن للقراء المهتمين الرجوع إليها من أجل زيادة المعرفة ، بكل ماتنطوي عليه من جموح وطموح وغرور وقسوة ورغبة في تشييد المجد الامبرطوري الأمريكي .

وفي هذا الإطار يقدم المؤلف مخزون وافر من الأسماء المعنية بكتابه بأسمائها الحقيقية ؛ سواء أكانت الأسماء لشخصيات سياسية واقتصادية معروفة ، أم كانت لشركات عابرة للقارات ومصارف ودول زارها وأوقعها بفخه من الدول النامية ، مثال ذلك أسماء شخصيات سياسية أمريكية شهيرة ، مثل : روبرت مكنمارا ، جورج شُولتز ، كاسبرواينبرغر ، جورج بوش ، ديك تشيني وغيرهم ، وأسماء شركات هندسية وإنشائية وشركات نفط وطاقة أمريكية عالمية ذات نفوذ سياسي ، منها : بكتل ، هاليبيرتُن ، ستون ووبستر، براون وروت ، أىشلاند للنفط ، إنرون ، أموكو ، تكساكو وغيرها .

كما يقدم المؤلف تجارب عملية حقيقية ، زاخرة بذكريات عاشها في دول يذكرها بأسمائها الحقيقية ، كما يذكر أسماء رؤسائها وبعض المتنفذين فيها الذين التقى بهم منهم : شاه إيران ، عمر توريجُس رئيس بنما الأسبق ، وهذه الدول هي : إندونيسيا ، بنما ، ايران ، السعودية ، الكويت ، الإكوادر ، فنزويلا ، كولومبيا ، ايران ، غواتيمالا ، الإكوادور .

زار كل هذه الدول ، وبين للمسؤولين فيها بان شركته تسدي خيراً لهم لمساعدتهم في الحصول على القروض اللازمة لإقامة البنى الأساسية اللازمة لدفع النمو الاقتصادي ، وكانت أندونيسيا أول دولة يزورها ، أقام فيها ثلاثة شهور كانت كافية للتعرف على كل مدنها الرئيسية ، أعد مع زملاء له الدراسات اللازمة لمشاريع كهربائية ضخمة ، وقد برع في اللعب بالاحصاءات ، ورقي في عمله ونال لقب " كبير اقتصاديين " ، ومن ثم طلب منه زيارة بنما واللقاء برئيسها عمر توريجُس ، وقد نجح في توقيع عقود في مجال الزراعة وقطاعات البنية التحتية ، ورقي بعدها ثانية ، وحمل لقب مدير اقتصاد وتخطيط اقليمي ، واشتهر كمحاضر يقدم محاضراته في أهم الجامعات الامريكية بما فيها هارفرد ، وأخذت الجرائد المشهورة تطلب منه كتابة مقالات على صفحاتها حول الأحداث المهمة .

تحدث المؤلف مطولاُ عن بنما ، عن نجاح عمر توريجُس عام 1977 في توقيع معاهدة جديدة مع كارتر انتقلت بموجبها منطقة القناة والقناة ذاتها إلى السيادة البنمية ، كما تحدث عن نهايته المأساوية ، ونهاية خلفه مانويل نوريغا في السجون الامريكية .

وفي نفس السياق تحدث عن سقوط شاه ايران ، وذكر حكايات صاخبة عن معارك رئيس الاكوادر جيم رُلدُس مع شركات النفط الامريكية ، وعن نهايته الماساوية باحتراق طائرته وتحطمها ، وزيادة نفوذ شركة تكساكو وغيرها من شركات النفط من بعده .

استعرض المؤلف شريط اعترافاته كقاتل اقتصادي في دول اخرى ، استطرد في ذكر تفاصيل حكايا كثيرة شريرة ، ورغم نجاحاته الباهرة ، اعترف على مدى فصل كامل في كتابه ، بفشل القتلة الاقتصاديين في العراق ، وفي الوقت نفسه بين نجاحة المتميز في السعودية ، وأنه بفضل دراساته وُقعت عقود مهمة ، ساهمت في زيادة تشابك الاقتصاد السعودي باالاقتصاد الامريكي ، والطريف في الأمر أنه دفع ثمن هذا النجاح غالياً ، فقد كان عليه القيام بأعمال غير لائقة لبعض اللاعبين المهمين .

رغم قذارة الاعمال التي قام بها مؤلف الكتاب ، إلا أنني لاحظت في سياق سرده لقطات تبين صحو ضميره وعدم قناعته بما يفعل ضد الدول النامية ، بل حتى عدم رضائه عن تحولات حياته الذاتية ، وخضوعه بين الحين والحين لنوبات من الشعور بالذنب لما يقوم به كقاتل اقتصادي ، وقد لفت نظري على سبيل المثال في جانب تحليلي موجز ، بأنه أدرك مبكراً بأن ما تقوم به بلاده لايساعد المرضى والجياع في العالم ، وأن غايتها من وراء ما تقوم به غاية إمبريالية ، وأنها تدعي كذباً بأنها تحمي الدول النامية من تغلغل الشيوعية ، لأنها في حقيقة الأمر تنتج أنظمة ترعى العبودية .

ولفت نظري كقارئ أيضا ، عدم إخفائه احترامه لرئيس بنما عمر توريجُس ، واحترامه لرئيس تشيلي المنتخب ديموقراطيا سلفادرو اللندي ، وتقديره الزائد لجيم رُلُدس رئيس الإكوادر المنتخب ديموقراطياً ، الذي عرض عليه أن يقدم له خدماته الاستشارية مجاتاً متى شاء ، ولفت نظري قناعاته التي عبرعنها بأن أجهزة خاصة من بلده عملت على تصفية هؤلاء الرؤساء ، وغيرهم ممن رفضوا الإذعان للحكومة الأمريكية .

هذه مجرد دلالات تحمل في ثناياها مواقف تتعارض مع عمله كقاتل اقتصادي ، ولا عجب ، والحال هذه ، أن يجد طريقه نحو الخلاص والخروج من صفوف القتلة الإقتصاديين ، وقد أرجع الفضل في ذلك لامرأة كولومبية ، أقنعته بضرورة الغوص في أعماق نفسه ، وتوجيه مصباحه الكشاف نحو أعماله وأفكاره وتأملاته ... انفرد في لحظة صفو بفتح آفاق واسعة على تجاربه الذاتية ، اتسعت عناصر الشك في داخله في حركة لا نهائية لا فكاك منها بكل أعماله ، و اتخذ قراراً نهائيا بعدم مواصلة مسيرته كقاتل اقتصادي، وتغيير مسار حياته ... استقال من عمله ، وكتب اعترافاته بين دفتي كتابه ، وأنهى كتابه بكلمات مفادها " ... كان الإعتراف، بالنسبة إلي ، جزءاً جوهريا ً من يقظتي ، وككل اعترافٍ إنه الخطوة الأولى إلى الانعتاق ... وكتابة الكتاب كانت عاطفية جدا ، فتحت نفسي على شعورٍ بالارتياح لم أخبره من قبل قط ، شعورٍ أستطيع وصفه بأنه انتشاء ."

بهذا تلمس بعد صدور كتابه آفاق دعوة مستنيرة ، يقوم بها في الوقت الراهن كناشط من أجل خير الإنسانية على الأرض ، يكتب ويحاضر ويحاور من أجل السلام وضد استبداد امبرطورية بلده التي تفرض العبودية والبؤس ضد ملايين البشر .
ويمكن للقارئ ان يتعرف على نشاطه الراهن من موقعه على شبكة الانترنت :

www.johnperkins.org








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة