الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصل العائلة وإرادة الخلود2

محمد سرتي

2015 / 10 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الجزء الثاني
عندما أحاول رسم صورة تخيلية عن شكل الحياة في صدر الإسلام فقط من خلال أمهات المراجع التاريخية المعروفة أجد أن التنزه في شوارع مكة كان أكثر متعة من التنزه اليوم في الشانزليزيه. فالإماء اللاتي عوراتهن من السرة إلى الركبة، واللاتي تم جلبهن من كافة البلدان المفتوحة، ينتشرن في كل مكان، حيث لم تكن ربة المنزل (الحرة) تستطيع الخروج دون إذن زوجها، فكانت الإماء من يسعين –بكل حرية- في حاجات المنزل، يجلبن الأغراض من الأسواق، ويتنقلن بين البيوت لإيصال الحاجيات والرسائل، والقيام بكافة المهام التي تتطلب الاختلاط –وربما الخلوة- بالرجال الأجانب حيث لا تستطيع الحرة القيام بها. وحيث كان الأمر كذلك؛ لم تكن ممارسة العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج محرمة على الأمة تحريماً كاملاً (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) أي أن الزنى بالنسبة للأمة كان نصف حرام، أو ربما نصف حلال (في حال النظر إلى النصف الملآن من الكوب) وعليه فاستبراء الأمة حيضة واحدة، بمعنى أن ابنها هو نصف ابن أبيه!
لم يكن للإماء أو العبيد أسماء عائلية، حتى بعد عتقهم، فكان يلقب احدهم بعد العتق بـ "مولى فلان" مثل سالم مولى أبي حذيفة. ولكن المثير أن الولاء لا يتم اكتسابه إلا عن طريق الأم، والأم فقط. بمعنى أنه لو اعتبرنا الولاء نسباً، وهو كذلك فعلاً، فإن الأصل أن ينسب الولد لجهة أمّه وليس لجهة أبيه. أي أن أحكام الولاء تتطابق مع أحكام الرق في هذا الجانب، حيث أن أولاد الأمة من الحر عبيد، وأولاد الحرة من العبد أحرار. وهي تبعية شاملة لكافة متعلقات النسب، كالكفالة والنفقة والإرث، فالسيد مكلف بالنفقة على أبناء أمته أو مولاته حتى لو كان أبوهم حراً، والعبد أوالمولى لا يلزمه النفقة على أبنائه من الحرة....وهكذا.
ولكن لهذه الأحكام جميعها استثناء واحداً: هو أنها لا تسري على القبائل العربية، بمعنى أنه لو تزوجت الأمة ببدوي فإن أبناءها لا يستعبدون، وكذلك لو تزوجت المعتوقة أو المولاة ببدوي فإن أبناءها لا يصبحون موالي لسيدها السابق أو مولاها، بل يلحقون بأبيهم في النسب، وذلك لسبب أورده الكاساني في بدائع الصنائع نقلاً عن أبي حنيفة النعمان، هو أن الولاء غايته النصرة، وأن "من سوى العرب لا يتناصرون بالقبائل". فهل نفهم أن النسب قضية أمنية (النصرة) ولذلك سمي بالعصبة، أي الانضمام إلى عصابة بغرض الحماية؟!
إذاً كان هنالك نظامان لتسجيل المواليد: نظام أمومي يسري على أكثر من 90% من مواطني الامبراطورية الإسلامية (الموالي) ويتم من خلاله إلحاق الطفل بأمّه في النسب (الولاء)، ونظام أبوي يختص به فقط أقل من 10% من المواطنين (القبائل العربية) ويلتحق من خلاله الطفل بنسب أبيه. وبالتالي فنحن نتحدث عن مجتمعين إسلاميين، أو أمّتين إسلاميتين مختلفتين تمام الاختلاف: أمّة الشعوب (الموالي) وأمّة القبائل. ولكل أمّة تشريع جنسي خاص بها، وهذا التشريع الجنسي تحديداً ساهم في صياغة العقيدة الإسلامية على أساس من الفصل العنصري الذي أفرز في النهاية دينين إسلاميين مختلفين، بل ومتناقضين: إسلام القبائل وإسلام الشعوب. ولكن السؤال المصيري هو: أي الدينين يمثل الإسلام الصحيح؟ أيهما الأصل وأيهما الانحراف؟
بطبيعة الحال لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بالاعتماد فقط على النصوص التاريخية الإسلامية، ولا حتى على الأحكام الفقهية المدونة، كونها جميعاً من إفرازات موجات الارتزاق الثقافي في عهود السلطات القبائلية للحكومتين الأموية والعباسية. ما يجبرنا –في حال طلب الحياد- لاعتماد نظرة شمولية واسعة تمتد ليس فقط لحقبة ما قبل التدوين بل ما قبل ظهور الإسلام بقليل، ولا تقتصر جغرافياً على نقطة انطلاق الإسلام بل تشمل كافة البلدان التي شكّل أهلها لاحقاً مجتمع الموالي. فالانطباع الأول لهكذا نظرة يشدنا لذلك التقارب النوعي بين الدعوة المحمدية والثورة المزدكية، إن من ناحية المضمون والأسلوب والطريقة والوسط الثوري، وإن من ناحية التراتبية الزمنية والانسياب الجغرافي. حيث في ثلاثينيات القرن السادس الذي شهد ولادة نبي الإسلام؛ تم إعدام النبي مزدك مع أعداد هائلة من أتباعه على يد الملك خسرو أنوشروان في إحدى أضخم وأبشع المذابح الجماعية في التاريخ، ولكن رغم التعمية التاريخية التي مورست حول مصير الدعوة المزدكية من بعده إلا أن القرائن تدل على أن الادعاء بانقراضها ينقصه الكثير من الدقة.
نشأت المزدكية من رحم الزرادشتية Zoroastrianism، أول ديانة عرفانية في التاريخ، بل ربما أول ديانة مكتملة الأركان على الإطلاق، والتي منها (الزرادشتية) انبثقت كافة الأديان والمذاهب الغنوصية الأخرى التي رغم اختلافاتها في الطقوس الدوغمائية من جهة وفي التفسيرات الميتافيزيقية لنشوء الكون ومصير الإنسان من جهة أخرى؛ إلا إنها جميعاً تتمحور حول مرتكز عقائدي واحد: هو مبدأ الجدلية الهيجلية، على الأقل في مسألة النشوء والتكوين، ثم يحدث الاختلاف بعد ذلك حول قضية المصير والمآل، أي حول الحتمية التاريخية. ورغم كون الزرادشتية ديانة إيجابية التوجه في تعاطيها مع المصير الحتمي للتاريخ، وبالتالي في نظرتها التفاؤلية نحو الحياة؛ نجد غالبية ما انبثق منها من مذاهب/ديانات غنوصية قد سلكت مسلكاً تشاؤمياً وسلبياً في هذا الجانب، ولعل المانوية أبرز الأمثلة على ذلك. ما يشير لكون العرفان مسلكاً عقلياً فلسفياً في الأساس، نشأ غالباً من محاولات بشرية لتفسير الوجود منطقياً، ثم اتخذ لنفسه بعد ذلك -لأسباب تربوية- رداءً دينياً دوغمائياً، إن على مستوى الطقوس أو الأساطير، ربما لتقديم الفكرة كعرض تراجيدي تمثيلي لمن لا يملكون القدرة على إدراك أبعادها الفلسفية.
أسست العرفانية لمبدأ الصيرورة الهيجلية من خلال عقيدة التناسخ، التي هي في الحقيقة شكل من تأليه الذات بإكسابها طابعاً خالداً. ولكن المانوية (وحلفائها) فصلت بشكل صارم بين اللاهوت والناسوت، لتجرد الناسوت تماماً من صفة الخلود، ما تمخض عنه تلك النظرة الدونية –بل والعدمية- تجاه الجسد ووصمه بصفة النجاسة، وهو ما جسدته أسطورة السقوط التوراتية بقدر من الدقة. فالثمرة المحرمة –حسب الأسطورة- أخذت من شجرة المعرفة، معرفة الخير من الشر، وهو تناقض مقصود –ربما- بغرض إحداث صدمة لدى القاريء تضعه بين خيارين: إما المعرفة وإما الجنة. فيعبث السياق باللاوعي الإنساني الذي سيختار حتماً المعرفة كدافع فطري نحو حب الاستطلاع، مهما كان الثمن مكلفاً، ليجد القاريء نفسه –لاشعورياً- يتعاطف مع آدم. في المقابل ينحو به السياق نحو التسليم بشيطنة الجسد باعتباره شر مطلق، حيث بمجرد اكتساب الإنسان القدرة على التفريق بين الخير والشر سارع تلقائياً، وبصورة لاإرادية، إلى تغطية عورته تعبيراً عن خجله منها، فالجسد إذاً هو الجانب المخجل، المخزي، والمعيب من شخصيته.
في الحقيقة؛ عبرت الأسطورة عن حالة من التناقض اللاواعي يعيشها البشر دون استثناء، مصدرها شعور داخلي قوي بخلود الذات، ولكنه على الدوام يصطدم بفناء الجسد، فيضطر الإنسان مجبراً تحت وطأة شعور الخلود التبروء من الجسد. وهكذا انتهت الأسطورة بتقديم ظاهرة اللباس كرمزية أنطولوجية لحالة الإنكار هذه. ولكن السؤال هو: هل جاءت أسطورة السقوط في سياق التأصيل الفينومينولوجي لنسق سلوكي قائم (شيطنة الجسد)، أم جاءت كمحاولة ماكرة لقولبة هذا النسق أبستمولوجياً بغرض منحه بعداً أخلاقياً مزيفاً كونه نسقاً شاذاً ومنحرفاً؟ فلعل إصرار الأسطورة على الربط بين المعرفة كغريزة مقدسة وبين شيطنة الجسد واحتقاره بهذه الطريقة أمر يبرر طرح تساؤل من هذا النوع، خصوصاً وشيطنة الإنسان لجسده من أصعب الأمور على نفسه، لذلك –ربما- لجأت الأسطورة لشيء من المخادعة الأبستمولوجية كي تجعل من الأمر أكثر سهولة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد