الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحوال ملوك التتار المغول

علي المدن

2015 / 10 / 11
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قبل عدة أيام كنتُ برفقة أحد الأصدقاء حين التقينا بمحض الصدفة بالأخ الباحث الفاضل الشيخ رسول جعفريان، فتحدث معنا عن كتابه الجديد الذي صدر حديثا في الأسواق، ثم تفضّل بإهدائي (والصديق أيضا) نسخة منه، ونسخة ثالثة خصّ بها صديقي، قائلا له: اختر أنت من تهديها له.
الكتاب هو: "أحوال ملوك التتار المغول"، للحسين بن علي البطيطي، ويعود تاريخ تأليفه لعام (658 ه)، أي بعد عامين على سقوط بغداد. وكما هو معروف، وقد أشار الشيخ جعفريان في مقدمته باللغة الفارسية لذلك، فإن هذا الكتاب عبارة عن ملحقٍ وضعه البطيطي خاتمة لتعريبه "تبصرة العوام في مقولات الأنام" (كتاب "التبصرة" مكوّن بحسب النسخة الخطية من (26) باباً، وكتاب "أحوال الملوك التتار" هو الباب (27) الذي أضافه البطيطي. وهناك اختلاف في تحديد مؤلف "التبصرة" بين محمد بن الحسين الآبي، وأبي الفتوح الخزاعي، والمرتضى بن الداعي العلوي، وكلهم رازيّون، إلا أن الشيخ جعفريان يوافق "صاحب الذريعة" في نسبته للأول اعتمادا على ما ورد في النسخ الخطية للأصل الفارسي، والتي تؤرخ تأليفه أيضا بعام 630 هـ). أما الملحق البطيطي، فإن أقدم نسخة خطية له تعود لعام (898)، ولا يوجد ما يؤكد نسبتها للبطيطي ووثاقتها إلا ما ذكره الناسخ.
لا شك أن هذه المعطيات تثير شكوكا جدية حول مدى أصالة هذه النسخة وتاريخها ووثاقة نسبتها، ناهيك عن المعلومات الواردة فيها ومصدرها. وفي ظل الالتباسات المذهبية التي تفسد على الباحثين مقاربة الحقيقة التاريخية لأوضاع ذلك العصر فإن أي مصدر يراد له أن يتحدث عن تلك المرحلة يجب أن يقابل بحذر كبير وصرامة علمية عالية.
كتاب - أو بالأحرى: رسالة - "أحوال التتار" لا تحتوي على معلومات جديدة ذات قيمة كبيرة، ففيما يخص أصل القبائل التترية نحن اليوم أكثر دراية بها مما ذكره المؤلف، ولا تفيدنا المعلومات التي يسردها إلا في فهم تصوراته هو، وبعض ما هو سائد في عصره. أما المعلومات الأخرى حول المجتمع الإسلامي، والأصح: الحكم السياسي الإسلامي، فإن المؤلف ينطلق من خلفيات مذهبية في تحليل الأحداث وتقييمها. فهو مثلا يرفض المذهب الإسماعيلي، وهو يذكر نصير الدين الطوسي - (نحرير الدهور ونادرة العصور) كما يصفه - فيقول إنه كان محبوسا في قلاعهم (ألموت)، وإنه (كما قيل) - هكذا يعبّر - كان (مائلا لإفساد أمرهم، ونكث شرورهم)، ثم يذكر أن الطوسي هو من أقنع القائم بأمر الله الإسماعيلي بالاستسلام للتتر، وأن الوزير ابن العلقمي (والمؤلف لا يصرّح باسمه) كان يتلقّى الإساءات من الخليفة "المستعصم بالله" مما دفعه للانتقام منه بمكاتبة التتر سراً وتحريضهم على غزو بغداد، وأن الخليفة كان يسيء معاملة أهل الكرخ الشيعة ويأمّر عليهم الظلمة الجائرين، وأن ما ناله على يد التتر إنما كان نتيجة لأعماله تلك، وما فعله هو وأباؤه بالعلويين والشيعة و"أهل البيت النبوي"، مستشهدا بالآيات القرآنية: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا). هذا مع ازدراء كبير للخليفة العباسي، والحديث عنه بلغة فيها الكثير من التحقير، على العكس مما يذكره عن "جنكيزخان" و"هولاكو" وغيرهما من قادة المغول من صفات الهيبة والقوة والحكمة والذكاء والحزم والسخاء ومحبة العلم .. إلخ. وهو ينسب كلاما لهولاكو مع المستعصم يظهر هولاكو فيه وكأنه قاض مسلم متمرس في الفقه الإسلامي. ومع ما يبدو في لغة المؤلف من تشفٍ، أو على الأقل عدم تعاطف، مع الإسماعيلين أو العباسيين، نجده في قصيدته التي ختم بها رسالته في غاية التوجع والحزن والأسى على ما حل ببغداد من دمار وخراب ومآسٍ.
من الواضح أن وجهة نظر المؤلف هذه تمثل قناعات شريحة من الناس في المجتمع الإسلامي آنذاك، ومهما اختلفنا في حجمها الحقيقي في الأوساط الشيعية، فإن ذلك لا يؤثر على وجودها التاريخي. ومع اختلاف أو اتفاق المصادر الأكثر أهمية مع بعض ما ورد في هذه الرسالة (كتلك المعلومات التي مصدرها رشيد الدين فضل الله الهمداني وعلاء الدين عطا الملك والجويني وابن الفوطي وابن الطقطقي وابن كثير والذهبي والصفدي وابن شاكر الكتبي .. إلخ)، فإن بعض المعلومات المتعلقة بالطوسي (وليس ابن العلقمي) تكاد تكون ذات مسحة شيعية خالصة، كالقول بأن الطوسي كان محبوسا في "ألموت" (مع أن إقامته فيها تربو في بعض التقادير على العشرين عاماً، كان في مقدار معتد به منها وزيراً!)، أو أنه كان يخطط لإفساد الأمر على الحاكم الإسماعيلي (وهو ما يتنافى مع شخصية الطوسي الواقعية ذات النزعة العملية) .. وأمثال ذلك. وهذه قضايا كان من الجيد لو توقف الأستاذ جعفريان عند دراستها وتحليلها، كما فعل مع الوزير ابن العلقمي حين قلل من أهمية الرواية الشفهية التي يستند إليها المؤلف والتي تغذيها على الأرجح أجواء التنافس والاحتقان بين الوزير ابن العلقمي والدواتدار والتي نقلها بعض أهم مؤرخين ذاك العصر نظير رشيد الدين فضل الله الهمداني وغيره.
لقد تجنبت حتى الآن الحديث عن شخصية مؤلف الرسالة البطيطي، ولذا فإنني سأختم هذه السطور ببعض التعليقات الموجزة على ما ورد في كلام الأستاذ جعفريان:
1. جزم الباحث بنسبة الرسالة إلى البطيطي استنادا إلى ما ورد في النسخة الخطية، وأنا أرى أن هذا الجزم غير مبرر، وهو بحاجة إلى قرائن أكثر وضوحا، إلا أنني لا أفرط في التريث حدا ينفي تلك النسبة. ولكن مع هذا فإن التمادي في القول بكون البطيطي "إماميا" و"ذا حس إيراني" كما فعل السيد جعفريان يصعب إلى حد بعيد إثباته إذا ما بقينا أوفياء لهذه الرسالة على أقل تقدير.
2. ذهب الباحث إلى أن أحدا لم يترجم للبطيطي، وهو صحيح، ولكن أغلب الظن أن من ذكره ابن حجر في "نزهة الألباب" تحت عنوان من لقبه "بطيط" هو نفس الشخص الذي تنسب له هذه الرسالة؛ ولا سيّما أن ابن حجر قال عنه: (متأخر بعد الستمئة)، وهذا يوافق عصر حياة "البطيطي" الذي لم يعرف فيه من حمل هذا اللقب غيره. وما ذكره ابن حجر قبل هذا من أن اسمه: (الحسين بن أحمد بن علي العلوي)، أمره سهل؛ ونظائره كثيرة، عند ابن حجر وغيره. هذا، ولعل في معرفة كون البطيطي "علوياً" ما يسهم أكثر في فهم تعاطفه مع "العلوية" فيما نقل أنه جرى معهم، كما ويساعد على تفهم تفسيراته لأسباب الأحداث.
3. كلمة "بطيط" تعني في اللغة "الأمر العجيب" أو "الكذب" وغير ذلك، ثم استخدمها أهل العراق وصفا لنوعٍ من أنواع "النعل"، وبمرور الأيام تحولت الكلمة إلى اسم لهذا النوع. وقد اضطرب الفقهاء في تفسير شكله عند ذكرهم لما رواه الطوسي في "الغيبة"، والطبرسي في "الاحتجاج"، عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، أنه كتب يسأل الإمام المهدي: هل يجوز للرجل أن يصلي وفي رجليه بطيط لا يغطى الكعبين أم لا يجوز؟ فخرج الجواب: "جائز". وكتب اللغة أوضحت شكله بأنه: (خُفٌ مقطوع، قدم بغير ساق)، فهو يشبه ما هو متعارف لبسه اليوم في المعاهد الدينية الشيعية.
وما أريد قوله إن لقب "البطيطي"، سواء فسّرناه بالأصل اللغوي للكلمة أو بما درج أهل العراق آنذاك على اصطلاحه، فإنه يلقي الضوء على صلة البطيطي بأجواء بغداد والعراق، من جانب، كما يثير احتمال كونه عراقيا "مقيما في إسترآباد" من جانب آخر. ومهما يكن، فإن بقاء حاله مجهولا مع كونه ينتمي للقرن السابع الهجري مدعاة للاستغراب حقا! إذ يعد هذا القرن ذروة ازدهار المدرسة الحلية، وفيه نبغ أعلامها وانتشرت مصنفاتهم، لاسيّما في حقل تراجم أعلام الطائفة وضبط أسمائهم وألقابهم، فهل كان البطيطي مجرد مترجم مغمور أو أنه فعلا "حافظ" "محقق" أُهمل عن غير سوء نية؟ أو أن هناك أسباباً أخرى تقف وراء خمول ذكره؟
سؤال يحتاج إلى فرصة أوسع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيتزا المنسف-.. صيحة أردنية جديدة


.. تفاصيل حزمة المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل وأوكرانيا




.. سيلين ديون عن مرضها -لم أنتصر عليه بعد


.. معلومات عن الأسلحة التي ستقدمها واشنطن لكييف




.. غزة- إسرائيل: هل بات اجتياح رفح قريباً؟ • فرانس 24 / FRANCE