الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنسنة الأشياء في قصة - الليل في غرفة الآنسة - م - لجمعة اللامي بين التخييل الغرائبي والرمز الإبداعي ..

خضير اللامي

2015 / 10 / 18
الادب والفن




" اذا امتلأت كأس الملك جمشيد بالشراب ظهر فيها كل ما يحدث في العالم .." أساطير شرقية .

هذه قصة كابوسية عبثية ضاغطة بامتياز، تجري أحداثها في غرفة أطلق عليها السارد" الليل في غرفة الآنسة " م " . كتبها جمعة اللامي ضمن مجموعته القصصية " مَنْ قتل حكمة الشامي ؟ " التي كادت أنْ تودي به الى الصعود على خشبة الموت ، في زمن النظام الدكتاتوري ، وصدرت في ستينيات القرن الماضي ، وبالتمام في حزيران سنة 1967 ، في سجن الحلة المركزي كما هو مثبت في ذيل القصة ، ولازال مناخها ساريا حتى الآن ؛ وربما بعد حين من الزمان، ومَنْ يقرأها الآن يرَ كأّنّها كُتبت في الألفية الثالثة ، وأهمّ ما تنماز به هو غرائبيتها الشديدة وسنأتي على ذلك. كُتبت هذه القصة تحت اوضاع نفسية حادة ، وشعور بالغثيان وتوهان نفسي، وهي بعد ذلك ، باعثة على نوع مِنْ سايكولوجيا تفاعلات ذهنية للامعقولية الأشياء وعبثيتها مرّ بها المؤلف في حياته ، وخاصة في سنوات السجن ، حيث إنّ السجين يعاني إحساسا أنّه مطارد ؛ وهو داخل قضبان سجنه ، خاصة وأنّ سجن نقرة السلمان الصحراوي؛ هو قلعة نفي أبدي ينوء تحت طائلته مَنْ كان نزيلا فيه ، ومجرَّد ذكراسمه يبعث على الرعب والرهبة داخل الإنسان . ولم اسمع أنّ سجنا مثيلا له في أيّ نظام دكتاتوري أو جلاّد أو فاشي في العالم ابدا .
وهنا ، على كل حال ، أنّ القصة هي تناصُّ مع بعض أجواء شخصية غريغور سامسا بطل رواية التحوّل أو المسخ القصيرة، لكاتبها الروائي التشيكي فرانز كافكا حين استيقظ ذات صباح فوجد نفسه صرصارا أو خنفسة تكنسه خادمة المنزل مع النفايات الأخر، والتي تجري احداثها في غرفتين وليس في غرفة واحدة كماهو الحال في قصة " الليل في غرفة الآ نسة "م " لجمعة اللامي .
ورغم إنّ رواية " المسخ " وقصة " الليل في غرفة الآنسة " م " كلاهما، يتماثلان في لا معقولية الأشياء وعبثيتها وغربة الإنسان في مجتمعه ؛ بيد أنّهما يتباينان في كلتا بيئتيهما ، إذ نرى أنّ صرصار كافكا يمثّل مسخ الإنسان في المجتمع الرأسمالي الى حد يتحوّل فيه الى حشرة كبيرة نهايتها المزبلة كما ذكرنا ؛ وهذا هوالعالم الكافكوي الغرائبي والكابوسي كما هو معروف لدينا تماما ، بينما يدين جمعة اللامي في قصته هذه العالم الذي مِنْ حوله ، ويحوّله الى كائنات لا آدمية يتقن صنعها، حيث يؤنسْن الأشياء من حيوانات وحشرات مثل ، ليل وعنكبوت ونمر وطائر ليلي ، وغيرها ، ويضخ في أنساغها دماءً بشرية ، وهي صور تتحرك وتمارس اعمالها البشرية بانسيابية عالية ، تبقى عالقة في ذهن القاريء، وفعلا استطاع أنْ يفعل ذلك اللامي ؛ وكأنه قال لها كوني فكانت كما أراد أنْ يصوّرها بمهارة فائقة. وهنا لا اريد أنْ أقدّم مقارنة بين فرانز كافكا وجمعة اللامي في ذينك العملين ، ومَنْ هو الأسبق منهما في عمله هذا أولا ؛ بقدر ما أريد أنْ اذكر أنّ كلاهما قدّما لنا إنموذجا للإنهيار والإنحطاط الأخلاقي والقيمي والثقافي في عالم سفلي. وإنّ كل شيء قد تحّول الى عالم لا معقول . وثمة امثلة كثيرة لكتّاب آخرين مارسوا هذا النوع من الإدانة لمجتمعاتهم في اعمالهم الإبداعية ، مثل البير كامو في رواية الطاعون ، وخوزيه ساراماغو في روايته العمى الخ .. وتنفرد قصة " الليل في غرفة الآنسة " م " عن هذه الأعمال بوصفها قصة قصيرة ، وليست رواية ؛ بمعنى ما استطاع اليه هؤلاء الروائيون أنْ يخلقوا عوالمهم من خلال الرواية كل على انفراد ؛ استطاع جمعة اللامي أنْ يختزل عالمه من خلال قصة قصيرة لم تتجاوز ثمان صفحات من القطع المتوسط ، وهذا يحسب له .
وصنع اللامي مخلوقاته ، من حيوانات وحشرات وليل وانسان برأس كلب، تمارس دور الإنسان المنحط في قصته، فضلا عن ذلك ، تشّوه الإنسان ، والمفروض أن يكون الحيوان الأرقى والأسمى على الأرض ، الذي ربما مسخته وخلقته ثقافة فاسدة ومنحرفة . وفي الوقت الذي تكون فيه الآنسة " م " منشغلة في هواياتها الجنسية مع اللوحة الجدارية ، ينسحب الفجر ليدخل عليها الليل ليقوم بدور المتفرج : " عنكبوت يمارس الجنس مع فتاة اللوحة الجدارية المنطرحة على وجهها ، وعنكبوت آخر كبير الحجم يقعي على ظهرها ويمد احد خراطيمه في ثديها الأيسر . لحظات قليلة مرت إرتجفت بعدها الآنسة "م " واطلقت زفرة عميقة ثم انقلبت على وجهها ، واخذت تتنفس ببطء ، تحت العنكبوت الذي كانت عيناه في هذه اللحظة تنظران الى عجيزتها بانبهار . كما نرى ايضا،" نمرا صغيرا ينزو على أمّه ، وإنسانا برأس كلب ، يحتضن دمية كبيرة على هيئة فتاة ، مرسومة على جدار الغرفة ، وعنكبوتا كبير الحجم يقعي على ظهر الآنسة "م "، العنكبوت ينظر الى عجيزة الآنسة" م" ويمارس عملية جماعية مع أمّه التي بقيت مشدودة اليه وهي تتكلم مع الليل بصوت خافت . " من قتل حكمة الشامي ؟" ص 26.
كما إنّ القاص يلْمْح لنا الى الليل ، الذي دخل غرفة الآنسة "م " الذي سيضحك كثيرا على عقول الكتّاب والمثقفين والقراء الذين صاغتهم الكتب صياغة قذرة . كما إنّ السارد وعلى لسان الليل ، يصف لنا عالما من البشر يموتون مجانا بالملايين وتفشي الجرائم في كل مكان ووصل الأمر الى حد أنًّ احدهم يقتل شقيقه بضربة فأس على رأسه ويرميه في فرن يملكه ..
ويختزل اللامي من خلال هذه الرموز والتأويلات والإيحاءات وانثيالاتها في ثماني صفحات من القطع المتوسط عالمنا المنحطّ ، الفاقد لقيمه الإنسانية والأخلاقية، وحوّله الى مجموعة من رموز نمور صغيرة وعناكب وانسان برأس كلب ، وقتلة بشر يروح ضحيتهم الملايين من الناس . كما ويشير المؤلف اشارات كبيرة الى رموز كتّاب معروفين في شخصيات القصة ، وهي ما توحي لنا أنّ ثقافتنا تلوثت وتدهورت في هذا العصر ووصلت الى مستوى الحضيض فيها . نتيجة الاغتراب والإستلاب والعبثية كي ينسج لنا عالما عبثيا من تلك الرموز .
بعد هذا كله ، تبقى القصة ؛ قصة " الليل في غرفة الآنسة " م " هي واحدة من أعمال التجريب التي يمارسها جمعة اللامي في العملية الابداعية . وتبقى ايضا شخصيات تخييلية ، لا آدمية ، موحية بإشارات رمزية ودلالات لضرورة إبداعية . لا تدل على الحدث بقدر ما تدل على الفن او التجريب ،أو بعبارة اخرى الشكل ، وهنا يؤكد مارك شورر Mark Schorer، في مقالته : التقنية بوصفها اكتشافا " التي يقول فيها : لقد اظهر لنا النقد الحديث إنّْ الحديث عن المحتوى في حد ذاته ليس حديثا عن الفن أبدا ، ولكن حديثا عن التجربة ، وأننا لا نتحدث بوصفنا نقادا إلاّ حين نتحدث عن المحتوى المنجز ، أي الشكل ، العمل الفني بوصفه عملا فنيا . والفرق بين المحتوى ، او التجربة ، والمحتوى المنجز هو التقنية ، اذا ، فحين نتحدث عن التقنية فإننا نتحدث عن كل شيء تقريبا ..... والاس مارتن ، نظريات السرد الحديثة . ترجمة : حياة جاسم محمد ص 16. "
وختاما ، فإنَّ معالجة خلق هذه الرموز" الشخصيات " وموتيفاتها الصغيرة في " الليل في غرفة الآنسة "م " لم تكن على اساس الحدث المنجز" المضمون " - كما يقول شورر - في القصة بالرغم من قصرها ، بقدر ما يكون الاعتناء بالشكل الذي بالتالي هو الهمّ الأخلاقي الذي يضفيه مسار شكل القصة على شخصياتها الرمزية ؛ أي بمعنى آخر ، أنَّ ما يعاني منه جمعة اللامي في عملياته الإبداعية في هذه القصة القصيرة او في جميع اعماله الإبداعية ، رواية ، قصة ، نص..هواشكالية فنية او همّ اخلاقي وهذا بحاجة الى دراسة خاصة ومستفيضة لتحديد الخطوط البيانية العريضة للهّم الاخلاقي الذي يدفعه الى خلق شخصيات هي الأخرى مهمومة اخلاقيا ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة