الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدين والدين السياسى: قراءة فى تحولات المقاصد

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2015 / 10 / 19
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


مدخل:
الدين هو مجموعة الشرائع التى أرسلها الخالق عز وجل للناس أجمعين؛ آمن بها من آمن وأعرض عنها من أعرض. والدين فى مجمله ينقسم إلى ثلاثة فروع: اعتقادات وعبادات ومعاملات، أما المذاهب فهى اجتهادات دينية يجتهد فيها بعض أتباع الدين لكى ييسروا على عامة الناس، فى بعض التفاصيل التى لم تحددها الشريعة السماوية بشكل قاطع.. ولكن الأصل فى الدين هو القواعد الرئيسية المنزلة من عند الله سبحانه وتعالى، وما سكتت عنه فهو تيسير للناس ورحمة، فيه تتباين الآراء، ومن حق كل مؤمن بالدين أن يجتهد فيها برأيه وقلبه، ويتحمل تبعة اختياره المذهبى أو اجتهاده الفردى.
فالدين ثابت ومستقر عليه، أما الأنماط الدينية والمذاهب والتيارات فهى متغيره وبشرية، وإن كانت تخضع فى قواعد استنباطها للأصول التى جاءت فى متن الشريعة بفروعها الثلاثة؛ ولكنها تظل اختيارية وقابلة للخلاف والتعدد والتباين والإضافة، على عكس الأصل الدينى الثابت والمتفق عليه.

فرق الدين السياسى والفرق الدينية:
وهناك من بين الفرق والمذاهب الدينية من يرفع اجتهاده ووجهة نظره إلى مصاف الأصل الدينى الثابت والمقدس، أو يعتقد أنه الممثل والناطق الوحيد باسم الشريعة والاجتهاد الدينى، ويربط ذلك الاجتهاد بوصوله للحكم والولاية على باقى أهل الدين، منفصلا عن عامة المؤمنين بهذا الدين وعن المجتمع الذى يجمعه بهم؛ ويتراوح موقفه من أهل الدين والمجتمع الذى ينفصل عنهم، مدعيا لنفسه ما لا يدعيه لهم، ما بين: التأثيم والتكفير.. ولكن الأساس هو الانفصال عن المجتمع، وتحويل الاجتهاد المتغير إلى مقدس ثابت؛ دونه عموم الناس على ضلال وإثم، وصولا للكفر والإخراج من الملة فى نهاية المطاف.

كيف تنشأ الفرقة أو التيار الدينى أو الفكرى:
ربما يكون المذهب فى مجمله أقرب لكونه اختيارات فقهية، أما الفرقة فهى اختيارات فكرية ومواقف تاريخية. المذهب هو اختيار من متعدد؛ يعنى الوقوف على مشهد يحمل عدة أوجه واختيار أحد هذه الأوجه دون غيره، فهو يمثل اختيارات بعينها إزاء التفاصيل التى سكتت عنها الشريعة. ولكن الأهم فى الفرق الدينية هو الاجتزاء والتخصيص من الكل! الأنبياء عليهم السلام هم أقرب النماذج البشرية لفكرة الكمال، أو التحقق الكلى لفكرة الخير والمثالية، أما الناس فهم على نقص وابتلاء، ولا يطيقون الاتباع الكامل الحق لمجمل الأوامر والنواهى فى فروع الشريعة الثلاثة.. من هنا تظهر الفرق الدينية التى تختار كل منها جزء من كل، وتعتقد فى قدرته على تجميع الناس ومحاولة تقريبهم أكثر من "النموذج الكامل" أو "نموذج النبى" صلى الله عليه وسلم، فهناك فرقة ستعتقد أن العبادات هى السبيل لذلك، وأخرى ستعتقد أن الاعتقادات هى ذلك السبيل المنشود، وثالثة ستعتقد فى الطريق الذى يقوم على المعاملات، ورابعة قد تجرى بعض التباديل والتوافيق فى اختياراتها! وإن كان الأصل الصحيح فى الدين هو الجمع بين فروعه، ومحاولة اتباعها كاملة بإخلاص على قدر واستطاعة كل إنسان.
ويكون أحد أهم معايير الحكم على التيارات عموما؛ هو مدى مواكبتها للسياق والظرفية التاريخية التى نشأت فيها، وقدرة الاختيارات الجزئية التى قامت عليها فى مواجهة واقعها وظروفها.. حيث تقف الاختيارات فى مواجهة تحدى الواقع المتغير وظروفه!

الدين السياسى تاريخيا:
قديما كان هناك نمطا تاريخيا شائعا أيضا فى ارتباط الدين بالسياسة! بل ويمكن القول حقيقة انه كان الأساس والأصل فى انتشار الدين وزيادة عدد أتباعه؛ كان الدين جزء لا يتجزأ من الهوية السياسية للدولة أو الوحدة السياسية أيا كان حجمها، وكان يعتبر أحد الممتلكات أو الرموز الكبرى التى تعبر عنها.. بحيث كان يمكنك معرفة الحدود السياسية لدولة ما بقدر امتداد العبادة لإله ما. وكان الانتصار السياسى لجماعة على جماعة أخرى يعنى فى كثير من الأحيان تحول الجماعة المنهزمة لإله وعقيدة الجماعة المنتصرة وتخريب معابدها ورموزها الدينية، وهو ما تكرر كثيرا فى صراع المدن فى بلاد الرافدين وآلهتها قديما على سبيل المثال، وكذلك كان الدين السياسى يتحقق باتباع الرأس السياسى للدولة أو الوحدة السياسية لدين جديد، كما حدث مع "يهود الخزر" مثلا.. كما نذكر التداخل الدينى وتبادل رموز الآلهة بين مصر واليونان والرومان؛ كأثر للتداخل السياسى وبسط النفوذ فيما بينهم.

جهاد الفتح وجهاد الدعوة:
وفى الدين الإسلامى يجب التفرقة بين نوعين من الجهاد؛ قديما فى عهد النبى (ص) وعهد الفتوحات الدعوية، كان الدين يعد أحد الرموز السياسية للوحدات السياسية البشرية، ويرتبط ارتباطا شديدا بهذه الوحدات بحيث يجعلها ترفض قبول تغييره! ونذكر مقاومة أهل مكة للدين الجديد وتصديهم لمن ينضم له؛ هنا كانت القوة ضرورية لفرض حرية الاختيار ولكن ليس لفرض الاختيار! وليس ذنب النبى (ص) أن النمط التاريخى حينها كان يقول باتباع الأغلبية للسائد والمنتصر، وهو ما حدث مع بداية المسيحية عندما آمن بها الإمبراطور الرومانى "قسطنطين" فى الواقعة الشهيرة! ولكن الآن الحجة والسياق التاريخى لفكرة جهاد الدعوة عن طريق القوة لفرض حرية الاختيار؛ أصبحت غير ذات صفة بعد توفر كل سبل الدعوة لكافة الأديان وحرية اختيار البشر فيما بينهم..

وهم القاعدة المطلقة بين السياسة والدين:
إذا حاول البعض القياس على سلوك النبى (ص)؛ فسيجد أن الرسول الكريم (ص) كان أول من اتبع منهج السياق والظرفية التاريخية! أحيانا فى حالات الضعف وغياب أسباب القوة كان يخضع لشروط الآخر السياسية، وحينا فى وقت التمكين كان يفرض الشروط، ومن أراد اتباعه لابد سيعتمد على نفس منهج الظرفية؛ والظرفية فى العمل السياسى ستختلف فى قراءتها من طرف إلى طرف، لنعود لمربط الفرس: أن حسم الصراع السياسى استنادا لمحاولة ربط اجتهاد فريق بالمطلق الدينى المقدس؛ هو أمر فيه كل المفسدة والفتنة والادعاء، والتمكين لأهل الهوى غير القادرين على إقامة الحجة والدفاع عن موقفهم، وتصحيحه بالحذف والإضافة والرجوع إلى الحق، ورأى الناس والتحرك بهم ومعهم.

تأويل الفعل الواحد مرة بالخير ومرة بالشر:
والمشكلة تكون جد خطيرة فى ممارسات فرق الدين السياسى على أرض الواقع؛ فهى تحاول أن تقدم لرأيها السياسى سندا شرعيا مفترضة فيها الصحة دون غيره، وما سواه باطل أو آثم أو كافر! فهم إذا أرادوا القعود عن جهاد عدو محتل لأرض الوطن، أو لأرض السيادة السياسية لأحد البلاد ذات الأغلبية المسلمة.. قدموا لذلك أسانيد وآيات الجنوح للسلم! وإذا أرادوا العكس والخروج للحرب؛ قدموا أسانيد الجهاد وآيات حث المؤمنين على القتال! أذكر فى أحداث الثورة المصرية أن أحد المنتمين لفرق الدين السياسى كان يأول نفس الفعل مرة بالخير ومرة بالشر! إذا خرج الثوار غير المنظمين وغير المنتمين لفرق الدين السياسى للشارع محتجين على واقعة ما أو معبرين عن مطلب ما، قال يطبق عليهم "حد الحرابة" وقطع الطريق، أما إذا خرج هو وفصائل الدين السياسى لنفس الهدف؛ اعتبر أن ذلك أعلى درجات الجهاد وقول الحق فى وجه حاكم ظالم!

فرية المسلم والإسلامى:
واخترعت هذه الفرق مصطلحا سياسيا من عندياتها ؛ لتفرق من خلاله بين المسلمين أتباع الدين الواحد، اخترعت وصفا من عندها لأتباع فرق الدين السياسى وأسمته: الإسلامى! لتميزه عن عموم المسلمين الذين تعتبرهم تلك الفرق؛ فى حالة تقصير وجهالة وإثم وضلال أو كفر! والحقيقة أن ذلك افتئات شرعى وتصنيف ما أنزل الله به من سلطان، لم نسمع فى أى من القرآن والسنة عن تصنيف المسلم والإسلامى! ولكن تلك صنعتهم فى التعالى على العباد وادعاء التفوق وتمثيل صحيح الدين.

فرق الدين السياسى فى الأديان السماوية:
(الصليبية – الصهيونية - الإسلامية)
ومن يعتقد أن بدعة "الدين السياسى" وفرقه ارتبطت بالإسلام كدين سماوى فقط لم يقرأ التاريخ جيدا، فلقد ظهرت تلك البدعة عند أهل الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية- والمسيحية – والإسلام؛ وكانت أقوى تمثلات ادعاء الحق المقدس المطلق والمرتبة الأعلى على البشر فى اليهودية، وآخر تمثلاتها كانت ظاهرة الصهيونية التى نشأت فى أواخر القرن التاسع عشر، معتبرة أن قيام إسرائيل هو أمر دينى يرتكب باسمه القتل والاغتصاب والاحتلال! وتأثرت المسيحية كذلك بتلك البدعة ودشنت الكنيسة فى أوربا الحركة الصليبية كحملات عسكرية تهدف لبسط النفوذ السياسى باسم الصليب والمسيح، وباسمها ارتكبت المذابح! ومع سقوط الحكم السياسى الذى ارتبط بالإسلام مع الدولة العثمانية حديثا؛ ظهرت تلك البدعة فى بلاد المسلمين مع "جماعة الإخوان"؛ التى أعطت للدين الإسلامى تفسيرا يربطه باستعادة الحكم السياسى (الخلافة) وجعلت من هذه النقطة المحور فى بناء فكرها المذهبى؛ واستغلت عجز بلاد المسلمين عن إنتاج نمط حياة معاصر قادر على تقديم البديل فى مواجهة المشروع الغربى؛ لتذكى بين الناس فكرة الانفصال عن المجتمع وتجهيله ( بدرجات ذلك التجهيل ومذاهبه من: التأثيم إلى التكفير).. وإن كان محاولة الانتصار السياسى والوصول للسلطة باسم الدين فى الإسلام، يعود لبدايات مبكرة يربطها البعض بواقعة "الفتنة الكبرى".

النمط التاريخى لتدين المصريين:
إذا نظرنا للتاريخ المصرى وبحثنا فى مشكلاته الكلية والكبرى عبر تاريخه القديم والوسيط والحديث، فسنجد أن النمط الدينى الذى يتعبه المصريون على اختلاف العصور كان أقرب لنمط إيمان "الطقوس والمظاهر"، بسبب القهر المستمر وتوالى طبقات الاحتلال على المصريين، وتغير معتقداتهم الدينية وتداخلها المستمر مع معتقدات المحتل الوافد.. كان القمع هو أول أسلحة المحتل لفرض معتقده الدينى على المصريين، من هنا طور المصريون نمطا دينيا قائما على الطقوس والمظاهر، ولم يرتبط سوى مرات قليلة بالنمط المبدئى المقاوم، تعرض فى تلك المرات لأقصى درجات العقاب، التى رسخت ذلك النمط الظاهرى للدين! فلم تقدم فرق الدين السياسى اختيارات جديدة للمصريين ليطورا نمطهم التاريخى، اعتمدوا على فكرة التقية والعمل الباطنى فى انفصالهم عن المجتمع ولم تواجهه مباشرة، ولم تدفع المصريين فى اتجاه مذهب دينى أو نمط دينى يعالج مشكلتهم التاريخية فى مواجهة الاستبداد والاحتلال والظلم والقهر.

أسباب الحضارة والفقه والعلوم الدنيوية:
وهجرت تلك الفرق الأخذ بأسباب الحضارة، وصنعت قطيعة مع الدراسات الإنسانية الفكرية والعلوم الدنيوية! وأعطت تعريفا للعلم يربطه بالاجتهاد والفتوى الفقهية فقط، وأعلنت قطيعة مع الاجتهاد البشرى فى أمور الدنيا والدراسات الإنسانية، وكانت فى ذلك رد فعل لحالة فرق الدين السياسى فى أوربا المسيحية، عندما أنتجت لحظة العلمانية مع نهايات العصور الوسطى، وما عرف بعصر النهضة الأوربى! فلم تهتم تلك الفرق بدراسة أسباب قوة وضعف الحضارة الإسلامية فى فتراتها المختلفة، ولم تدرس أسباب بزوغ الحضارة الإسلامية عند علماء الأندلس وبلاد ما وراء النهرين وخراسان وبخارى، وأسباب عدم حدوث نفس النسق من الحضارة والعلم فى مصر والبلاد العربية! لم تربط الاستبداد القديم بأثره على نمط الحياة المستمر عند المصريين.. لم تفهم خصوصية كل شعب وأرادت أن تتعامل مع الجميع ككتلة واحدة صماء، مما أعجزها عن تقديم نمط حياة معاصر قائم على الحضارة والمدنية الحديثة، وحين عجزت عن ذلك ارتدت لشكل الحضارة القديم فى عصر بداية الدعوة الإسلامية! من مأكل ومشرب وملبس وعلاج،الخ.. لعجزها عن إنتاج نمط حياة معاصر يرتبط ببلاد المسلمين وحضارتهم، لم تجد بدا من الارتداد لشكل الحضارة القديم بظرفيته والوقوف عنده.

تمثل الصراع الكلى بين الخير والشر:
ويقوم الادعاء الأساسى لفرق الدين السياسى على فكرة "النموذج الكامل" و"المجتمع المثالى"؛ الذى لابد – فى تصورهم – سيتحقق من تلقاء ذاته عندما يرفعون الشعارات الدينية فى الولاية السياسية على الناس، وعندما يعلنون أنهم يمثلون حكم الله فى الأرض، وباسم ذلك يتسلطون على الناس والمخالف لهم خارج على الدين وآثم أو كافر! ولكى يهربوا من الأخذ بأسباب الحضارة يلجئون لفقه "نهاية العالم" وأحداث الصراع الكلى بين جانب الحق وجانب الباطل! وكأن الناس يجب أن تتوقف عن الحياة والأخذ بالأسباب وسنن الحياة، انتظارا لمعركة نهاية العالم وأحداث الصراع الكلى بين الخير والشر!

السنن الإلهية: الصراع والتدافع والتعدد والتجاور
سنة الله فى أرضه هى التعدد والتنوع بين البشر؛ ومن ثم التدافع بين هذه المشارب والملل والنحل.. سنة الله فى أرضه هى تعدد الرسالات والمذاهب! ولو أراد الله لجعل الناس على ملة واحدة، أو لجعل هناك ناموسا أو كتابا واحدا مقدسا يرسل كل فترة من يذكر به! لكنه سبحانه أراد لها التعدد والتدافع والأهم أراد لها التجاور، سنة الحياة هى التعدد بين الأديان السماوية فى الإسلام والمسيحية واليهودية، وفى المذاهب داخل كل ديانة منهم، وسنة الله أيضا أن هناك من سيعرض عن الإيمان به ويكفر بما أنزل.. ولا توجد سوى الحجة والبلاغ على المسلمين للناس أجمعين (مع التسليم بالحق السياسى للآخر فى دعوة الناس لما يعتقده)، ليس علينا سوى الدعوة والبلاغ، وحرية الاختيار تكون هى القاعدة، لأن تلك هى سنة الله فى أرضه، ومن يعتقد انه يمثل السماء ويحمل توكيلا من الخالق عز وجل، ويبشر بفقه نهاية العالم والصراع الكلى بين فسطاط الحق وفسطاط الباطل؛ فهو يزايد ويتاجر باسم الله الغنى عن الناس أجمعين.. لأن أمره نافذ بهم وبدونهم.

التوظيف السياسى لفرق الدين السياسى:
حتى الآن اتسمت الممارسة السياسية لفرق الدين السياسى بالغباء والانتهازية – ولا تختلف فى ذلك عن العديد من الأحزاب المصرية سوى فى نوعية الغباء ودرجة الانتهازية - ، ولم تقدم الجديد فى مواجهة منظومة الاستبداد التاريخية فى مصر، وحاولت الالتفاف حولها على أمل الانتصار عليها فى يوم من الأيام! لكن نلاحظ أن الإخوان كانوا أداة فى يد السلطة القمعية خاصة فى السبعينيات عندما وظفهم "السادات" لمحاولة احتواء قوة الفصائل السياسية الأخرى، وهو ما حدث بشكل أكثر مأساوية فى الثورة المصرية؛ عندما أغوى النظام القديم ممثلا فى المجلس العسكرى الإخوان؛ ووقفوا أمام المد الثورى، واعتقدوا أن الظروف ستمكنهم من الانتصار عليهم وابتلاعه سياسيا، لكنه كان أقوى وأذكى منهم بطبيعة الحال وانتصر عليهم.

الخديعة وحاجة الاستبداد القديم لـ "فزاعة":
كان المفترض أن تتلاشى بدعة "الدين السياسى" فى الإسلام وتختفى من تلقاء نفسها، بعد وصول الإخوان إلى السلطة وعجزهم عن مواجهة المعضلة السياسية التى وضعهم فيها النظام القديم.. فلم يجدوا أمامهم سوى آليات المزايدة السياسية! ولأن اليساريين يرفعون الصوت باسم العمال والفقراء، ويرفعه القوميون الناصريون باسم العروبة والاشتراكية، ويرفعه الليبراليون باسم الاستثمار وفرص العمل، ويرفعه العسكر باسم الوطنية والأمن القومى، ويرفعه الثوار باسم الحرية والعدالة والكرامة، لم تجد فرق الدين السياسى سوى الإسلام للمزايدة ورفع الصوت به، لأنها تربط دعوتها به! فوقعت فى فخ التأثيم والتجهيل والتكفير على منصات "رابعة".. وكان النظام القديم فى حاجة لعدو! وكانت فرق الدين السياسى المخرج من انهياره! كانت الدماء فى "رابعة" هى الوقود للنظام والتنظيم على حد سواء. أيقن النظام القديم أن هناك جيل من شباب الإخوان وفرق الدين السياسى أدرك خطأ البدعة، ويريد ممارسة العمل العام بمقاربات أخرى.. لكنه لم يكن ليسمح للنبت الجديد بالظهور، أراد الحفاظ على المعادلة كما هى، كانت "رابعة" هى وسيلة النظام القديم للحفاظ على وجود تنظيم الإخوان من الانهيار، لأنه فى حاجة لعدو كى يبرر عودته مرة أخرى للمشهد السياسى.

تجديد الخطاب واللحظة التاريخية:
المشهد السياسى الحالى هو لحظة تاريخية فاصلة فى حياة مصر والشعوب العربية؛ النظام القديم لا يريد نهاية حقيقية لفرق الدين السياسى، لأنها ومعها باقى الفصائل والأحزاب السياسية القديمة تمثل حائط الصد لمنع ظهور تيارات سياسية أو مذاهب دينية وفكرية جديدة، تقف على لحظتها التاريخية وتعى ذاتها وتنطلق منها لمستقبل، لا يريد من يدرك أهمية الفرز الثورى بين الناس، لا الفرز على أساس التنظيم السياسى، أو القبلية العرقية أو العائلية أو العشائرية، أو الفرز استنادا على طول وقصر اللحية أو الجلباب! نحن فى لحظة فرز تعتمد على القدرة على كسر النمط والتصدى للاستبداد، ومن امتلك تلك النظرة استطاع إنتاج فقه مغاير وإنتاج خطاب دينى مواكب.. لكنهم يريدون للبلاد الجمود والتخلف.. فرق الدين السياسى هى إحدى آليات سيطرة الاستبداد على الحركة الثورية المصرية والعربية، لا تختلف فى ذلك عن العديد من تيارات المشهد السياسى يمينا ويسارا.

الأزهر والدور الغائب:
ويقف الأزهر بخطابه عند مساحة الجزئى والملفات المنفصلة؛ لم يتم توجيهه نحو استراتيجية بناء نمط حياة؛ بمعنى خطاب تأسيسى يصلح كقاعدة للانطلاق الحضارى والإنسانى، وهو الذى عرف قديما برجالاته وثواره! أصبح مؤخرا دعامة لـ"العلوم السلطانية" واهتم بالهامش والتفاصيل.. وسكت عن قول كلمة الحق فى وجه السلطان الجائر، يقف الاستبداد ضد الإصلاح الدينى الحقيقى وضد ظهور مذاهب وتيارات دينية وفكرية، تواجه ظرفها وسياقها التاريخى لتثويره والانطلاق منه للمستقبل.

الختام:
وإذا أردنا وصفة كى تتجاوز مصر المرحلة التاريخية التى ارتبطت بفرق الدين السياسى؛ فيجب علينا مراعاة أسباب تمكن بدعة الدين السياسى وفرقه من المجتمع المصرى، ؛ تقوم تلك الفرق على فكرة مركزية: الانفصال عن المجتمع، فإذا حقق المجتمع المصرى حالة التوحد مع مواطنيه، واستطاع التعبير عنهم، أولا: معنويا وروحيا عن طريق التواصل مع مستودع وتاريخ الهوية المصرية بمختلف طبقاته، وثانيا: ماديا عن طريق احترام آدمية المصرى وإعادته لوعاء الوطن عن طريق الحق فى المسكن والمأكل والعمل والعلاج وقضاء الحاجات اليومية..؛ لما استطاع تنظيم ما أن يشكل تيارا فكريا يقوم على الانفصال عن المجتمع أو الخروج عليه!
ويجب فتح الطريق أمام تجديد الخطاب الدينى وظهور تيارات فكرية تتواصل أكثر مع ظرفيتها التاريخية وتفهم متطلباتها، وتعبر عن صحيح دين الله ترى نفسها فيه جزء من كل، لا الكل الواحد وما سواه هو الباطل والضلال والكفر. لقد شوه هؤلاء مفهوم الجهاد والدفاع عن الأرض والعرض والنفس وربطوه بالإرهاب وترويع الآمنين، وشوهوا الاجتهاد الفقهى وأغلقوا بابه وحولوه لمنصة احتكارية لمحاكمة الناس وتكفيرهم باسم الشريعة وهى منهم براء، وشوهوا السعى البشرى فى الأرض وارتدوا لأنماط الحضارة الأولى لجمودهم وعجزهم عن تقديم البديل..!
إن الحرية والتدافع الذاتى بين الناس وأفكارهم، واختبار هذه البدائل التى ستنتج عن ذلك التدافع وتلك الأفكار؛ لهو السبيل الوحيد لبناء "المجتمع الفعال" القادر على قهر منظومة الاستبداد وقيم التكيف و"التنميط" التاريخية فى مصر: حتى تتحول مصر إلى النموذج الثورى المنشود الرائد/القاطرة فى القرن الحادى والعشرين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Israeli Weapons - To Your Left: Palestine | السلاح الإسرائيل


.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا




.. إيران و إسرائيل -كانت هناك اجتماعات بين مخابرات البلدين لموا


.. تصريح عمر باعزيز و تقديم ربيعة مرباح عضوي المكتب السياسي لحز




.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز