الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية حب عراقية من زمن الحرب

رزكار نوري شاويس
كاتب

(Rizgar Nuri Shawais)

2015 / 11 / 8
الادب والفن



كأنّ كائن وحشي مدّ مجساته في أعماقه ليمتص آخر قطرة من بهجة هجرت روحه ، هكذا كان حزنه في طور تحوله البطيء لكآبة ثقيلة تسحقه بتراكمات زمن ظالم ..
تعابير وجهه هي نفسها على وجوه الاخرين ، إحساس عميق بالغربة ، بالوحدة و الضياع في متاهات الحنين لأشياء كثيرة كانت اوهام حلم عاشوه في زمن لم يكن و لن يكون ..!
وجوه تتشابه في تفاصيل خطوطها و تجاعيدها و ظلالها ، كأنهم توائم تقولبوا في رحم أم واحدة ..
وجوه معجونة بخوف مُثْلِجْ و توجس شرس من قادم غامض ، هي سمة المجند المساق لحرب لايعرف لها سببا و لايملك فيها حجة يصوب بها بندقيته نحو مجند في الجبهة المضادة ..
هي حرب تأججت نيرانها و تدفق نزفها كنزوة من النزوات الطائشة لدكتاتور أحمق ، أعلنها و رمى شعبا بأكمله في لجتها لأشباع غروره النرجسي ..
* * *
كان ضمن فصيل في عربة من عربات نقل المواشي في القطار النازل صوب البصرة .. حاويات صدئة ، مقفلة ، حشرت فيها وجبات طازجة من الجنود ، يساقون على عجل لجبهة الحرب لأشباع شهيتها الشيطانية النهمة .. تلتهم بنهم وحشي الطوابير تلو الطوابير شبابا حولوا بيادقا على رقعة ممسوحة المعالم ، هي مساحة بلد تحول مسلخا يعم ارجائه فوضى الذبح ، فمن لا يقتل في الحرب ، ينتظره الموت في أقبية التعذيب و السجون السرية ..
* * *
تثائب المساء ، و أقبل الليل ثوب حداد تطرزها الأنجم دموعا تومض بحزن .. و توغل القطار أكثر في جرح الجنوب النازف ..
إيقاع العجلات الحديدية و هي تدور على القضبان الفولاذية ، كان كترنيمة أم أنهكها التعب و تحرض على إشهار الحزن ..
ارتفع صوت أحدهم .. ليغني ببحّة شجية و حزن روح مضطهدة ، (أبوذية ) جنوبية ..
زمجر البعثي ذو البدلة الزيتونية مستنكرا و رافضا الأغنية ، حاول قمع المغني بالتشويش على (ابوذينه ) ، فأدار مسجلا ليرتفع منه ضجيج أنشودة سمجة ساذجة من أناشيد القادسية الملعونة ..
تضامن الجنود مع زميلهم ، بإيقاعات تتناغم مع أغنيته ، و أستمر يغني ..
هو أيضا ( الكوردي ) الحزين كان يدندن و يشاركهم الغناء ..
اطفأ ذو البدلة الزيتونية الة التسجيل مرغما و هو يهدد و يلعن ..
واسنمر المغني و أستمر الأيقاع ، و غاص الكوردستاني أكثر فأكثر في عمق همومه .
الجميع يرفض .. يرفضون حربا ستكون في يوم ما نهايتها كبدايتها ، غامضة مبهمة ..!
يرفضون بصمت .. يَقتلون و يُقتلون بصمت ، إنغمسوا برغم ارادتهم في مراسيمها ، صاروا وقودا لمحارقها و انفاسا للهيبها ..
الجندي في الحرب ، اينما كان سجين محكوم بالموت ، يترقب التنفيذ في كل لحظة ، منهم من ينتظر بيأس من لاحول و لا خيار آخر له ، و منهم من يستعجل الأمر تحررا وخلاصا نهائيا من كل شرور الحرب و آثامها ..
هم أسرى أينما تواجدوا ، رهائن مكبلة ، محاصرة ، مراقبة ..
اضاح جاهزة للذبح ، فموائد الحرب يجب أن تكون عامرة ..!!
* * *
في الأجازات الدورية النادرة ، اذا حظيوا بها .. في تلك السويعات الاثنتان و السبعين التي كانت تتسرب بسرعة لا مبالية من عمره المرصود من ناظور قناص مجهول ؛ كان عليه تأكيد تواجده من لحظه بدئها و لحين التحاقه بوحدته مجددا .
زمن ثمين لا يعوض من عمره المحاصر بالموت ، يضطر قسرا الى هدره في صالة استعلامات مبنى الأمن في بلدته بأنتظار المكلف بمراقبته و إستجوابه و تأشير أسباب تواجده في مدينته بعيدا عن الجبهة ..
دائما ، و فور وصوله و لحظة فرحة الأهل البائسة بلقائه مجددا ، كان الهاتف يرن ..!! ليرحب به رقيب الأمن المكلف بمراقبته بذلك الأسلوب الارهابي الفج الذي لايتقنه الا الفاشست و لا يفهمه الا كل محاصر بتلك الممارسات السلطوية المقيتة .. فيستدعى لتأكيد تواجده ، و هناك رغم كل الغثيان الذي كان يملأه كان مجبرا على استنشاق كل روائح المجاملات العفنة و المستهلكة ..
كان حالة ضمن حالة عامة ، مسيّر رغم ارادته ، هو الثمن المطلوب نقدا أو بالتقسيط و الأهل رهائن لحين تسديد الثمن كاملا .
أحيانا كان يواجه ذاته الانانية ، يتصارعان بعنف ليتغلب أحدهما على الآخر و كانت الغلبة له دائما هو الضحية ..! ضحية تفدي أسرة جل افرادها نسوة و اطفال ، اسرة لا معيل و لا حام لها ، مسجلة في قوائم المشبوهين السوداء لدى اجهزة قمع الدكتاتور ..
و كان ذلك أضعف الأيمان .
* * *
دوت صفارة القطار حادة كئيبة ، و بدأت أضواء المحطة الخافتة تتراقص بين أشباح النخيل و عيدان القصب الكثيفة ..
و لأول مرة منذ بدء رحلة الألتحاق بوحدته ، توهج نبض ابتسامة في عينيه ..
( وردة ) ..
إذن سيلتقيها مرة أخرى ـ انها هناك في انتظار الحزانى القانطون ، قادمون و مدبرون .. في الحرب الكل يسافر للمجهول ، الكل منهك ، ضجر و مهموم ..
الكل يبحث عن شيء مفقود ، ربما كان الأمان ..
لكل منهم حكاية ، و هناك في زمن الحرب ، في تلك المحطات البائسة ، تلتقي الحكايات لتنسج فصول رواية كبرى .. الكل فيها أبطال ، لكن ليس من ذلك الصنف السوبرماني الذي يقهر المستحيل .. هم صنف من تلك الاصناف الشائعة من اجناس البشر .. أبطال هم بهمومهم ، بألامهم الكبيرة و أمالهم البسيطة ، بخوفهم و جبنهم و ضآلة وجودهم أمام الموت .. ابطال بغريزة تعلقهم بالحياة ، بخدعهم الساذجة و نفاقهم الطيب .. بصراعهم من أجل البقاء حتى و إن خرجوا من العاصفة أجسادا معوقة و ممزقة ، هم كل شيء و لا شيء ، مجرد أرقام و حروف مسجلة في سجلات سميكة مهترئة من كثرة الحك و الشطب بمداد أحمر .. خطوط دموية تحصي بصمت جهنمي حجم الكارثة ..
في هكذا ملاحم و معمعات لا يحق لأي كان ان يكون بطلا سوبرمانيا سوى الدكتاتور ، فله وحده المجد و الأناشيد و أكاليل الغار ..
* * *
توقف القطار ..
و تعالى ضجيج بدأ همهمة ليصير صخبا يوقظ المحطة الصغيرة من نعاسها .. عليهم الأنتظار الان لحين ورود أوامر جديدة .
لمحها من نافذة القطار ، كانت حيث التقاها أول مرة .. واقفة في حانوتها الصغير المبني من الصفيح و الواح صناديق العتاد الحربي الخشبية تبيع ( خبز العروق ) و شايا اسودا يتصاعد منه البخار ..
وردة .. هذه الحلوة الجنوبية ، الحنطاوية أم الجدائل السود و العيون السومرية .. هجرت الهور لتستقر هناك في تلك المحطة النائية لتعيل إخوتها الصغار بعد أن فقدوا الآب و الأم في حملة فاشستية على الأهوار ، دمر فيها الحرس الجمهوري قريتهم بأكواخها و مضيفها الرحب و مشاحيفها و أحالوها اكواما من رماد .. أبادوا كل شيء بالسم و البارود و حقد مريض .

تعرف اليها يوم سيق مخفورا هو وآخرون من الهاربين و المتخلفين عن الخدمة العسكرية الاجبارية مباشرة الى وحدة مرابطة على خط التماس شرق البصرة ..
كانت هناك في حانوتها الغريب المتهالك ، تلبي الطلبات . كان الأخير في الطابور و لمان حان دوره كان الخبز قد نفذ ، لكنها هرعت راكضة الي حيث تأوي و عادت على عجل لتقدم له مع ابتسامة ود عذبة بدل الرغيف أربعة . أراد أن يؤكد لها اكتفائه برغيف واحد ، لكنها أصرت .. و لما اراد ان يدفع لها ، رفضت بحنان أم صغيرة ..
- هَذَّنّي موش بفلوس ..
- استسلم لأصرارها و عنادها الكريم ..

فيما بعد و بعد ان تعرف عليها أكثر ، أدرك كم هي شهمة هذه البنت الجنوبية و سخية الطباع .. و نسج إحساس عميق رباط الألفة بينهما ، كانت تنظره في ذهابه و أيابه ، و كانت على باله اينما كان ..
غطت ابتسامة فرح وجهها المجهد لما لمحته يلوح لها ببيريته من نافذة القطار ، و شعر هو ايضا بنسمة سعادة تخفف من كآبته ..

- الله يساعدچ وردة .. اشلونچ ؟
- الله يسلمك ، چا انت اشلونك ، و الأهل اشلونهم ، انشاء الله طيبين و سالمين ؟
-
غاص في سحر عينيها ، فتوردت خدودها و أطرقت برأسها حياء و خجلا ..
- وردة ..؟
- عيون وردة ؟
- جبتلچ حنة ، خوش حنة .. تعاي دحجي وصلة القماش هاي حيل تلوگلچ ..
- چا لی-;-ش هالزحمە-;- ؟ مستورە-;- و الحمد لله ..

تناول أرغفة العروق الطازجة ، كانت شهية بمنظرها و رائحتها الزكية .. قضم من إحداها لقمة و هو يصغي لدوي و هدير متواصل لأنفجارات بعيدة ..كان الأفق حيث خط الجبهة الأمامي يلتهب بضراوة ..
التفت اليها ، هزت رأسها خائفة ، قرأ في عينيها قلقا و حرصا شديدين عليه .. ما كان بيده أية حيلة فالقطار بدأ يستعد للتحرك ..
- لا تخافي .. كلها چم يوم و نتشاوف .. اشوفچ بخير وردة ..
- الله وی-;-اك .. ( تمتمت بشيء كأنها تقر أرقية أو دعاء ) الله وياك ، ترّد سالم بعزّته و جاه رسوله ..
دوت صفارة القطار و تحرك متثاقلا حذرا ككائن خرافي يخشى التقدم نحو خطر كامن .. تقدم خائفا مترددا ثم تسارعت ايقاعات حركته ، و ابتلع ظلام الليل العربة الاخيرة ..
* * *
مجازر شرق البصرة و بحيرة الأسماك بزت سابقاتها من المجازر .. الكارثة بكل معانيها كانت ترتعد امام فضائعها ..
و انتظرت ( وردة ) عودة القطار ، ذبلت عيونها السود انتظارا و ترقبا و خبى بريقهما ..
ذات مساء و الصمت وشاح حزن يغطي الارجاء .. انتفضت ، صفارة القطار فجرت كل مكامن القلق في كينونتها ، كان كئيبا غامضا ، حقودا حادا يغوص في الجسد ببلاهة نصل من جليد حارق ، فيقطعه شرائحا و يحيل دفء الآمال رمادا يتجمد في كفّ صقيع مشؤوم يسبق مواسمه ..
مر القطار بكسل من انهكه التعب و هموم لا تطاق ، تجاهل المحطة ، لم يتوقف ، فالموتى لا يتسكعون في المحطات .. هم على عجل ، لا وقت لديهم يقضونه في انتظار .
كانت تحدق بذهول في نوافذ القطار..
لا ، فالجنود القتلى لا يلوحون بقبعاتهم من نوافذ القطارات ..
هناك في واحدة منها كانت العتمة أشد و الصمت أعمق ، تشع بحزن أسود معلنة نهاية بداية لن تتكرر..
هكذا شعرت ( وردة ) , و تحول احساسها ليقين .. تأكدت هذه المفجوعة بمصائب حرب لم و لن تفهمها أبدا ، انها فقدت عزيزا اخرا ..
صرخت بيأس يترجى القطار ان يتوقف ، فصرخ القطار رافضا ..
امتزجت الصرختان ، فجفل الجنين في أحشائها و استيقظ ساخطا ، و سرعان ماعاد لنومه العميق ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أرجو من القراء الكرام قراءة هذا الموضوع
الحكيم البابلي ( 2015 / 11 / 8 - 18:29 )
الكاتب الفذ رزكار شاويس .. تحية وسلام
أقرأ لك لأول مرة، سامحني، حيث أفترِض في نفسي أن أكون متابعاً لما يُنشر في باب القصة القصيرة التي أهواها
المهم .. أقولها بصدق وصراحة، أنت كاتب تمتلك كل عُدة الكتابة لدرجة تبدو لي مُحترفاً لهذا الفن الذي لا يُجيده إلا الموهوبين المتمرسين
أذهلتني قصتك الجميلة الأبعاد هذه، والتي إستوفت كل شروط النجاح برأيي، ولطالما إفتقدتُ الكتابات الأدبية وخاصةً في باب القصة القصيرة التي تطرح مآسي الحروب التي مزقت وطننا الحبيب العراق وشعبنا المغلوب على أمره!، وها أنذا أجد هنا كاتباً عملاقاً بكل معنى الكلمة، والموسف حقاً أن القليل من القراء يعرف أو ربما قرأ لك كما يظهر من خلال خلو باب التعليقات والتثمين من الزوار!، وهذا ليس ذنبك عزيزي بل ذنبنا
أعدك بأن أكون من زوار صفحتك، وسأحاول الإطلاع على بقية مقالاتك السابقة بحثاً عن اللآليء
قصتك أعلاه تستحق كل مديح وتثمين وإعجاب، لإنها متماسكة جداً ومحبوكة، ولم أجد حتى ثغرة واحدة فيها، وليست مبالغة لو قلتُ بأنها ترقى لمصاف ومستوى الأدب العالمي الخاص بحكايا الحروب وويلاتها، هنيئاً لك قصتك ونجاحك المُبهِر
تحياتي .. طلعت ميشو

اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة