الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طوفان الدم والجثث المتعفنة وخيبات الأباء في قصائد سيغفريد ساسون 2 / 2

حسين كركوش

2015 / 11 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


الشاعر الإنكليزي العراقي الأصل سيغفريد ساسون ليس الوحيد الذي نقل جحيم الحرب العالمية الأولى من جبهات القتال إلى شوارع بريطانيا وأحيائها الشعبية ومنتدياتها ونخبها ، وجعل الناس المدنيين يعيشون ذاك الجحيم ، لا أن يسمعوا به فقط. هو واحد من كوكبة من شعراء انكلترا من مجايليه الذين شاركوا مثله في تلك الحرب كجنود ، و أُطلقت عليهم فيما بعد تسمية ( شعراء الحرب العالمية الأولى في أنكلترا). و إذا ذُكرنا سيغفريد فلا بد أن نذكر أبرزهم و أهمهم :


ربرت بروك Rupert Brooke (1887-1915) ، جوليان غرينفيل Julian Grenfell (1888-1915) ، اسحق روزنبيرغ Isaac Rosenberg (1890-1918) ، ولفريد أوين Wilfred Owen (1893-1918) الذي قتل في الحرب وهو في ربيع العمر ، تشارلس سورلي Charles Sorley (1895-1915) ، روبرت غريفس Robert Graves (1895-1985) ، ولفريد جيبسون Wilfrid Gibson (1878-1962) ، و ن. و. هودغسون W. N. Hodgson (1893-1916) الذي قتل هو الأخر خلال الحرب وهو في ريعان العمر ، وآخرون.


الرابط المشترك الذي يوحدهم جميعا هو ، بتعبير ناقد فرنسي ، أن قصائدهم كلها تنز الدموع بين سطورها بسبب كثافة الألم و الحزن والمعاناة والخيبة التي عاشوها على جبهات الحرب و اكتووا بها.

قصائدهم ، رغم تنوعها ، تبدو كأنها قصيدة واحدة كتبها شاعر واحد في مكان واحد وتاريخ واحد عن موضوع واحد ، و تعالج فكرة واحدة بالإمكان تلخيصها بكلمتين : (نحن) و (هم).

( نحن ) تعني الضحايا من بسطاء الناس وصغار العسكريين وخصوصا الشباب منهم. و ( هم ) تعني الجلادين ، قادة المؤسسة السياسية والعسكرية و رجال المؤسسة الكنسية وتجار الحروب والطبقات الغنية التي تحصد المال والمجد والشهرة على حساب معاناة بسطاء الجنود المشاركين في الحروب.

وسواء في شعر سيغفريد أو شعر وزملائه فأن الخندق الذي يفصل بين (نحن) و (هم) عميق و واسع ، لكنه لم يُحفر بأدوات أيديولوجية ، ولم تُحَدد مواقعه وفق مقاسات سياسية ( يمين ويسار) ، وإنما وفق قياسات إنسانوية.
المقاسات الأيديولوجية طُبقت لاحقا. أي عند جيل الكتاب الإنكليز الذين جاءوا بعد سيفريد وزملائه ، وأُطلقت عليهم لاحقا تسمية جيل الثلاثينيات أو كتاب اليسار أو جيل أودنAuden’s Generation نسبة للشاعر أودن.

ولهذا ، لم يوفر الشاعر سيغفريد و زملاءه الغاضبون أحدا في شعرهم و لا جهة ؛ لا المؤسسة السياسية ، ولا المؤسسة العسكرية ، ولا المؤسسة الكنسية ، ولا الوطن ، ولا المشاعر القومية ، ولا ما تُسمى بالروح الوطنية ، ولا حتى هم أنفسهم.
لقد جعلتهم خبرتهم المأساوية في الحرب يكفرون بكل شيء.

حتى الشعر ، عندهم ، ما كان فذلكة فانتازية ولا وسيلة جمالية لتحقيق غرض جمالي. هذا بذخ ذهني ما كانت توفره ولا تتحمله مشاهد الجثث المتعفنة أمامهم. كانوا يريدون للشعر أن يتحول إلى كاميرات فائقة الحساسية تنقل بأمانة ، لمن يريد ، مشاهد الرعب والخراب ، علها لا تتكرر مرة أخرى في المستقبل.

قبل أشهر من مصرعه عام 1918 في ساحة المعركة ، كتب زميلهم وأصغرهم سنا ، ولفريد أوين ، الذي قُتل وهو في الخامسة والعشرين من عمره ، والذي كان شديد الإعجاب بصديقه الحميم و (أستاذه) سيغفريد ساسون ، مقدمة لمخطوطته الشعرية التي كان يود نشرها ، وقُتل قبل أن تنشر :

" هذا الكتاب ليس عن الأبطال. فالشعر الإنكليزي غير مؤهل حتى الآن للحديث عنهم. و هو ليس عن المآثر ولا عن الأوطان، ولا عن أي شيء يتعلق بالمجد والشرف والقوة والهيبة والسيطرة. هذا الكتاب عن الحرب وحدها. وفوق ذلك كله فأنا لا أكترث بالشعر. الحرب هي موضوعي الذي أكتب عنه. (...) كل ما يستطيع أن يفعله شاعر هذه الأيام هو أن يحذر، ولهذا السبب يجب أن يكون الشعراء صادقين في نقل الحقيقة."
وكان أوين نفسه قد أكد في أحدى رسائله على أن " الشعب الإنكليزي هذه الأيام ليس بحاجة لمن يمده بالأمل بل بحاجة لمن يحرضه."


ومثلما قصائد أوين وبقية زملاءه كانت قصائد سيغفريد ساسون. قد لا تستطيع الاستمرار في تكملتها لأنك تُصاب ، ربما ، بالصداع وبالغثيان لكثافة الشحنة التراجيدية فيها .

لا تجد في قصائده غير بقع دم ، سيقان مبتورة ، جثث متعفنة تتحول رؤيتها إلى كوابيس ليلية ، عيون اطفأتها الغازات السامة ، شباب في تفتح طاقاتهم حولتهم الحرب إلى شحاذين بسبب إعاقات جسدية أصيبوا بها ، طيور أرعبتها أصوات المدافع فلم تجد لها مأوى تعود إليه ، أرض أغرقها طوفان الدم فراح سكانها يتشبثون باللاشيء طلبا للنجاة ، حُفر أحدثتها القنابل المتساقطة فأصبحت قبورا للأحياء يختبأون داخلها بانتظار موتهم ، خنادق يملأها القمل والجنود معا ، جندي صبي يقعي على الأرض مدخنا سيجارته ومتأملا صورة حبيبته التي قد لا يراها أبدا ، عميان يقودون عميانا وهم يخرجون من خنادقهم في ظلام دامس خوفا من أن يدل الضوء عليهم أعدائهم ، قبرة تصدح هازئة من جرائم الإنسان ضد اخيه الإنسان.


ولأن قصائد سيغفريد ساسون كثيرة فأننا نترجم نزرا يسيرا منها.


الأباء The Fathers

اثنان من الأباء يلوذان مُستكنين بالدفيء داخل البار ،
أجسادهم مترهلة و عيونهم جاحظة وثرثرتهم لا تنقطع.
أحدهما قال : " ولدي الكبير
يبعث لي من بغداد رسائل مفرحة.
لكن آرثر يقضي أيامه اللاهية
في مدينة أراس مداعبا بندقتيه ذات التسع أنجات."

" نعم " ، قال الآخر بصوت مُتعَب ،" هكذا هو الحظ !
أنا أبني السيئ الحظ تماما ، ظل قابعا
في انكلترا يتدرب طوال هذا العام.
مع ذلك إذا صحت الأخبار التي نسمعها ،
فأن الهون HUN سيطلبون المزيد
قبل أن يواصلوا اندفاعهم عبر الراين."

بعد ذلك راقبتهما يجران خطاهم الثقيلة نحو باب البار -
هذين العاجزَين العجوزين من أصدقائي.

.....................................



البطل The Hero

" جاك سقط في المعركة كما كان يتمنى " قالت الأم ،
ثم طوت الرسالة التي كانت تقرأ سطورها.
"العقيد يكتب كلمات غاية في الرقة." شيء ما انكسر
في صوتها المتعَب فأصبحت ارتعاشته غصة اختنقت بها.
حانت منها نصف التفاتة. "نحن الأمهات فخورات جدا
بأولادنا الجنود القتلى." ثم طأطأت رأسها.

بهدوء تسلل فخامة الأخ الضابط خارجا من الدار.
بعد أن ردد على مسامع الأم العجوز المسكينة أكاذيب فخمة
ستكون غذائها طوال أيام عمرها ، هذا أمر لا شك فيه
لأن الضابط عندما كان يسعل ويتمتم ، كانت عيناها المتعبتان
تشعان بانتصار لطيف ومترعتين بالفرح ،
لمَ لا و ابنها الرائع مات شجاعا كما ينبغي.

في تلك اللحظة كان العقيد يفكر مع نفسه كيف أن "جاك" ، بارد القدمين ، الوحيد المهمَل ،
كان يرتعش تلك الليلة رعبا داخل خندقه خوفا من انفجار لغم
و كيف فر مذعورا نحو مركز الحراسة ، متوسلا
ان يعود لأهله ، وكيف لم يحالفه الحظ فقضى نحبه ،
وتحول جسده إلى أشلاء مبعثرة. دون أن يعبأ بموته أحد
ما خلا تلك الأم البائسة بشعرها المفضض بالشيب.

............................


انتحار في الخنادق Suicide In The Trenches

أعرف جنديا غرا لم ينبت شارباه بعد
يضحك للحياة ببلاهة لا متعة فيها ،
يغط بنوم عميق ويشخر عاليا في الظلام الموحش ،
ويستيقظ مغردا مع القُبرة في الصباح.

وفي الخنادق الموحلة شتاءا ، مرتاعا وكئيبا ،
يحيا على أصوات الانفجارات مع القمل والقلق ،
صّوبَ بندقيتَه نحو رأسه وانتحر.
وما من أحد تحدث عنه ثانية.

أنتم أيها المحتشدون الفرحون ، بعيونكم المشعة
المزهوون فرحا حين يمر أمامكم صغار الجنود
عودوا لبيوتكم و صّلوا بأن لا تعرفوا
الجحيم هي عندما يغيب ألق الشباب وتنطفئ الابتسامة.

.............................

ثم ماذا Does It Matter ?

ثم ماذا ؟ أن تفقد ساقييك ؟
فالناس سيغمرونك دائما بالعطف و الشفقة ،
وأنتَ لا حاجة لك ان تُبدي الاكتراث
عندما يدخل بعضهم البيت عائدين من حفلة صيد
ليلتهموا فطائرهم المحشوة بالبيض.

ثم ماذا ؟ لو أنتَ فقدتَ بصرك ؟
ستكون هناك مهن رائعة لفاقدي البصر
والناس سيواصلون إبداء الشفقة والعطف عليك ،
عندما ستجلس على الشرفة وتتذكر
وتدير وجهكَ نحو الضوء.
هل تعني شيئا تلك الأحلام التي تعيشها في جحيمك ؟
بإمكانك أن تشرب كأسا لتنسى وترفل بالسعادة ،
والناس حولك لن يقولوا عنك مجنونا
لأنهم يعرفون أنك قاتلت من اجل بلادك
وما من أحد سيعبأ مقدار ذرة.
...................

الرائحة العفنة لتلك الأجساد ما زالت تطاردني The Stench Of Those Bodies Haunts Me Still

ما زالت تطاردني الرائحة العفنة لتلك الأجساد
وما زلتُ أتذكر أشياء كان من الأفضل نسيانها.
فنحن الآن سائرون لأرض خضراء لا خنادق فيها
تبعد اثنا عشر فرسخ من فوهات المدافع : هنا على امتداد العشب
تنتشر كالطفح الجلدي خيم قهوائية اللون يغط داخلها رجال بنوم عميق
(...)

.............................

قصف Bombardment

زُلزلتِ الأرضُ زلزالَها وظلت تنفطر وتتشقق
و الحديد المنصهر يتساقط فوقها ،
المنازل تهوى وتنهار حولنا ،
ثلاث ليال لم نذق فيها طعم النوم ،
أجسادنا تتصبب عرقا ، ونحن نصغي لأصوات القنابل القادمة نحونا
تلك التي تعني موتنا المحتم.

في الليلة الرابعة راح كل منا ،
بعد أن هدنا الإعياء وخارت قوانا ،
يجرب النوم وهو يبربر و يختض مرتعشا ،
على أصوات القنابل المتساقطة فوق رؤوسنا.

في اليوم الخامس سادت هدنة ،
غادرنا جحورنا
وألقينا النظر على مخلفات الدمار حولنا
كانت الغيوم البيضاء تتحرك بخيوط صامتة
عبر زرقة سماوية غير عابئة بشيء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة