الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من العلم (أي: الاقتصاد السياسي) إلى الفن التجريبي (أي: الاقتصاد)

محمد عادل زكي

2015 / 11 / 14
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من العلم (أي: الاقتصاد السياسي) إلى الفن التجريبي (أي: الاقتصاد)
----------------------------------------------------
(1)
مع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تبلورت أفكار المدرسة النيوكلاسيكية، والَّتي تسوق على أساس من كونها امتداداً لأفكار الكلاسيك، وكي تقوم بتصفية العلم، علم الاقتصاد السياسي، من محتواه الاجتماعي. بل ولا ضير كذلك لديها من عزله عن العلوم الاجتماعية الأخرى، فـ (علم!) الاقتصاد بالنسبة للتيار النيوكلاسيكي هو علم معملي، والعلاقات الاقتصادية المتمثلة في الإنتاج والتداول والتوزيع، بين أفراد المجتمع إنما هي علاقات بين الأشياء المادية، وليست اجتماعية! وعلى ذلك، يؤسس هذا التيار الفكري، الَّذي سيكون تياراً جارفاً في المؤسسة التعليمية الرسمية، فكرة المنفعةكمركز تدور في فلكه جل العلاقات الاقتصادية بمفهموها الَّذي لا يرى سوى علاقات بين الأشياء المادية، التي ستخضع بعد ذلك للمعادلات الرياضية والدوال الخطية والرسوم البيانية. وبتلك المثابة يكون التيار الفكري النيوكلاسيكي قد قام بتقديم موضوعاً غير مسبوق للعلم، علم الاقتصاد السياسي، يعتمد على تفسير هزلي للقيمة؛ إذ المبدأ الأساسي عند النيوكلاسيك هو أن المنفعة مقياس القيمة، قيمة المبادلة، وهو المبدأ الَّذي يناهض، كما رأينا، ما قال به الكلاسيك، وديفيد ريكاردو بوجه خاص، الَّذي اشترط المنفعة في السلعة كي تكون محلاً للقيمة التبادلية. فالمنفعة عند الكلاسيك شرط هذه القيمة وليست، كما يقول النيوكلاسيك، مقياساً لها. فالقيمة عند النيوكلاسيك تتعلق بنفسية المستهلك؛ فهي نقطة البدء الَّتي على أساسها لا تتحدد قيمة السلعة فحسب، وإنما يتحدد التوزيع ذاته؛ بعد أن تم تعميم مبدأ المنفعة أيضاً على عناصر الإنتاج. لاحظ: "عناصر الإنتاج"، وليس قوى الإنتاج. إذ تعطي كلمة "عناصر" دلالة على انفصال (الأرض) عن (قوة العمل) عن (الرأسمال) عن (التنظيم). ومن ثم انفصال (الريع) عن (الأجر) عن (الفائدة) عن (الربح) وبالتبع نفي التناقض بين قوى (عناصر) الإنتاج، ومن ثم نفي الصراع بين دخول الطبقات الاجتماعية المختلفة المشاركة، وغير المشاركة، في عملية الإنتاج الاجتماعي!
(2)
القيمة إذاً، وفقاً للنيوكلاسيك، وكينز والكينزيين، والنقديين، لم تعد سمة للأشياء، كالحجم أو الوزن. إنما يقيم الأفراد السلع المختلفة على نحو متباين باختلاف الأوقات والأماكن. فالقيمة هنا لا تكمن فيما بذل من عرق في سبيل إنتاجها، إنما هي فقط في عقول الأفراد. تكمن القيمة في عقل المشتري! ومن ثم فالشيء نفسه تتباين قيمته في نظر مختلف الأشخاص؛ فالناس، وفقاً للنيوكلاسيك، مثل المضاربين بالأسهم، يعتقد أحدهم أن هذا هو الوقت المناسب للشراء، بينما يرى الآخر أن هذا هو الوقت المناسب للبيع! فالقيمة صارت مسألة متعلقة بالتقدير الشخصي! صارت من قبيل الأمور الوجدانية/النفسية! الخلط إذاً واضح تماماً بين قيمة الشيء ومنفعته. ربما تتباين المنفعة من شخص إلى آخر. وذلك من طبائع الأمور. ولكن القيمة لا يمكن أن تتباين إلا إذا تم تمييع مفهومها وتم خلطه بالمنفعة مسخاً لمذهب الكلاسيك، وبالتالي ماركس.
عليه، يكون القول بأن النيوكلاسيك لديهم نظرية في القيمة هو من قبيل اللغو؛ فلم يكن أبداً لهم نظرية في القيمة، إنما هي نظرية في المنفعة، تحاول تمييع مفهوم القيمة. ولم يكن أبداً لهم نظرية في القيمة التبادلية، إنما هي نظرية في ثمن السوق. ومن هنا نستسخف كثيراً انشغال الأساتذة، أساتذة الاقتصاد في الجامعات، بحشو دماغ الطلاب بكلام مرسل سيال عن "نظرية القيمة عند النيوكلاسيك"!
وإذ ما أردنا الحديث في تفسير غير أيديولوجي، بالمعنى الإيجابي للاصطلاح، للأسباب الَّتي أدت إلى ظهور هذا التيار، فيمكننا أن نبدأ تحليلنا من حيث تكوين الوعي بالاهتمام المركزي للكلاسيك. الاهتمام الَّذي تحدد بإشكاليات النمو والتطور والإنتاج والتوزيع ابتداءً من القيمة، وكان ذلك أمراً مفهوماً ومبرراً؛ فقد ظهرت الآلة على المسرح الاجتماعي بمنتهى الوضوح والفاعلية وجعلت من جميع العلاقات الاقتصادية بين أفراد المجتمع علاقة تبدأ وتنتهي حيث الآلة؛ الأمر الَّذي استدعي ظهور التفسير العلمي لهذه الظواهر الَّتي أخذت في التبلور آنذاك.
(3)
أما النيوكلاسيك، فإن حقل التبادل، إنما ابتداءً من الاستهلاك، هو مجال انشغالهم المركزي. وفي حقل التبادل يظهر أشخاص هم من قبيل الرجل الاقتصادي، الرشيد الحكيم!، الَّذي يسعى إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من الإشباع لحاجاته، ولكنه حال سعيه هذا تحكمه الحاجات المادية غير المحدودة، ويريد إشباعها بأشياء مادية محدودة، ومن هنا لم يجد النيوكلاسيك بدّاً من دراسة العلاقة بين الإنسان والأشياء المادية دراسة كمية تهمل المظهر الكيفي للظواهر. وعليه، صار الاعتقاد بأن الاهتمام بالنمو ليس ضرورياً كما كان يرى الكلاسيك، إذ أن النمو، في تقدير الغالبية من مفكري النيوكلاسيك ابتداءً من تبني تصورات جان باتست ساي وقانونه، يتم من تلقاء نفسه دون حاجة جدية لدراسته وتفسير ظواهره على الصعيد الاجتماعي. ولكن المهم هو استخلاص قواعد اقتصادية تنطبق في كل زمان وكل مكان بغض النظر عن علاقات الإنتاج فى المجتمع.
وقد ارتبط التغير الفكري الَّذي قاده هذا التيار بما لحق الواقع الاجتماعي على الصعيد الثقافي، إذ انتشر الخطاب العلمي البحت، واطّرد السعي من أجل فهم الكون بشكل مادي صرف، استناداً إلى العلوم الطبيعية والرياضيات؛ استكمالاً للرغبة الجماعية في التحرر من صنمية الفكر ووثنية الرأي الَّذين فرضا الظلام على القارة بأسرها طوال قرون من الجهل والفقر والمرض والثيوقراطية وادعاء امتلاك الحقيقة، وهو الأمر الَّذي انعكس على كتابات النيوكلاسيك، فرغبوا في الابتعاد عن لغة العلوم الاجتماعية الَّتي قد تؤدي، وسوف تؤدي، إلى التعرية الطبقية وإبراز الصراع الاجتماعي بين قوى الإنتاج. واتجهوا بقوة نحو القياس الكمي للظواهر عن طريق التعبيرات الرياضية، واستعاروا أيضاً الكثير من الألفاظ، والأفكار، من العلوم الطبيعية، وظهروا أكثر ميلاً إلى تجريد الظواهر الاقتصادية من كل ما هو إنساني واجتماعي! وقادهم ذلك إلى النظر إلى (علمهم الجديد!) كعلم منفصل عن العلوم الاجتماعية والسياسية، والسياسية بصفة خاصة. الأمر الَّذي عنى فصل (علم الاقتصاد!) عن دائرة التاريخ والعلوم الاجتماعية، وصار ينظر له على أنه علم طبيعي بحت يحتوي على نظريات ثابتة قابلة للتطبيق دائماً، حالها حال ما يتعلق بالعلم المعملي. جاءت المدرسة النيوكلاسيكية، وقد وجهت سهام النقد العنيفة جداً لكتابات ماركس، بل ولبعض أفكار الكلاسيك نفسهم، وبصفة خاصة إلى نظرية العمل في القيمة، ولكي تقدم موضوعاً جديداً كما ذكرنا (لعلم!) الاقتصاد، رغبة في نسف التحليل الطبقي الَّذي قدمه ماركس!
(4)
وابتداءً من النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، طرأت على المدرسة النيوكلاسيكية تغيرات واضحة وحاسمة؛ فلقد تحول اهتمام التحليل، بشكل جلي، من الجزئي إلى الكلي، من تحليل توازن المستهلك والمنتج، إلى تحليل توازن الاقتصاد القومي. جاء هذا التبدل كبلورة لما أسهم به "المهندس" ليون فالراس (1834-1910) في استخدام تحليل التوازن العام/الشامل بكيفية لم تكن معهودة من قبل، وبطريقة خاصة في التحليل باستخدام مجموعة من المعادلات الرياضية البحتة في محاولته للبحث عن التوازن الاقتصادي العام على الصعيد القومي بدراسة جميع العوامل الَّتي تتضافر معاً لتحديد سلوك المنتج والمستهلك في السوق. وهو يدرس، رياضياً، أثر كل هذه العوامل في نفس الوقت.
(5)
وقد ظلت هذه التحولات في حقل التيار النيوكلاسيكي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي محصورة في مجال النظرية الأكاديمية، والمراجع والمؤلفات العلمية. أما على الصعيد السياسي الاقتصادي فلم يكن لها، في الواقع، أدنى تأثير، فخلال تلك الفترة كان مذهب جون مينارد كينز (1883-1946) يشهد قمة انتصاراته وطغيانه الفكري، واضعاً ما عداه من مذاهب وأفكار في الزوايا المعتمة، فحتى نشوب الحرب العالمية الأولى، كان مذهب الحرية الاقتصادية سائداً إلى حد بعيد في الأوجه المختلفة للنشاط الاقتصادي. ولكن ما أن اندلعت نيران الحرب، حتى تبدلت الأحوال وتغيرت التصورات؛ فخلال الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين (1919-1939) وهي الفترة الَّتي زاد فيها تركز الرأسمال وتمركزه، وتبلورت الاحتكارات الصناعية الضخمة، إعلاناً عن بداية سيادة المشروع الرأسمالى في شكله الدولي، تعرض النظام الرأسمالى للعديد من التوترات، بدءً بثورة العمال في ألمانيا عام 1918، ثم أزمة الديون والتعويضات الَّتى فرضتها معاهدة فرساي عام 1919، ثم أزمة الكساد الكبير عام 1929، وبروز الحرب النقدية والتكتلات الاقتصادية، ثم انهيار قاعدة الصرف بالذهب... إلخ. ومن ثم كان طبيعياً ظهور الكينزية، إنما كمبرر نظري، في زمن الأزمة في شكلها الدوري، وتصوراتها الَّتي تعتمد على وجوب التدخل الحكومي، (الَّذي تم فعلاً على أرض الواقع قبل كتابة النظرية العامة) بوصفه عاملاً مساعداً في تحريك الاقتصاد الَّذي كف عن السير، بعدما لاحت في الأفق أزمات متتالية.
(6)
في ظل هذه الهيمنة الكينزية، كان هناك تيار فكري قوي يتكون في أحضان التيار النيوكلاسيكي، هو تيار النقديين بقيادة ملتون فريدمان (1912-2006)، الَّذي سيتزعم حملة في مواجهة الكينزية، كي ينتهي الأمر باختلاف جذري، وتواري للسياسة الكينزية، مع بقاء الكينزية، وظهور تيار النقديين، الَّذي سيلقى تطبيقاً رسمياً في الفترة من 1979 حتى 1984، وبصفة خاصة في المملكة المتحدة بقيادة مارجريت تاتشر (1925-2013) والولايات المتحدة برئاسة رونالد ريجان (1911-2004)، ولم تكن النتائج سارة على الإطلاق؛ إذ تعمق الكساد، واستفحلت البطالة، وانخفض الميل الاستثماري، وازدادت الضغوط التضخمية، نتيجة للزيادة الواضحة في عرض النقود، بالإضافة إلى إضعاف المركز التنافسي للاقتصاد داخل السوق الرأسمالية العالمية. وهو الأمر الَّذي قاد إلى تبلور وظهور وإحياء تيارات فكرية ونظرية مناوئة ورافضة على الصعيد النظري، (وهو الَّذي تزامن مع التحول التاريخي الثالث في مركز الثقل العلمي، من الفيزيرقراط في فرنسا مروراً بالكلاسيك في إنجلترا وانتهاءً بالليبراليين في الولايات المتحدة الأمريكية)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح