الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ميكانيزم النفي

هشام آدم

2015 / 11 / 15
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عندما يدَّعي شخصٌ ما، وجود شيءٍ ما، فما الذي يدفعنا إلى نفي وجود هذا الشَّيء؟ هل هنالكَ طريقةٌ عقليةٌ في النَّفي أم لا؟ هل عمليَّة النَّفي هذه عملية عقليَّة أم هي مُجرَّد قرار شخصي خاضع لإملاءات ذاتيَّة وميول نفسيَّة؟ هذا ما أرغب في توضيحه في هذا المقال، لأصل –في نهاية الأمر- إلى أنَّ الإلحاد –باعتباره رفضًا لفكرة الإله والميتافيزيقا على العموم- ليس موقفًا نفسيًا أو ذاتيًا أو حتَّى أيديولوجيًا؛ بل هو موقفٌ عقلاني تُمليه الضَّرورة العقليَّة المحضَّة.

عندما يدَّعي شخصٌ ما وجود "جبلٍ ذهبيٍ" أو "فيلٍ ورديٍ" أو "سمكٍ برمائيٍ"، فإنَّنا ببساطةٍ شديدةٍ نلجأ إلى معرفتنا الحسيَّة (مع التَّأكد على قصورها طبعًا)، لنعرف ما إذا كان لهذه الأشياء وجود فيها أم لا، وعندها سوف نكتشف أنَّه لا وجود لجبلٍ ذهبيٍ أو فيلٍ ورديٍ أو سمكٍ برمائي. هذا الموقف المبدئي المُستند على المعرفة الحسيَّة التَّجريبية؛ هو في الحقيقة موقفٌ عقلانيٌ جدًا، فكيف يُمكنني التَّصديق بوجود شيءٍ لا أعرف بوجوده، وَلَدَيَّ من "الأدلة الحسية" ما ينفي ذلك؟ فأنا أعرف أنَّ هنالك جبلًا، ولكن ليس لديَّ (ضمن مجال خبرتي المعرفية) معرفةٌ بوجود جبلٍ ذهبيٍ، وأعرف أنَّ هنالك فِيلةٌ، ولكن ليس لديَّ معرفةٌ بوجود فيلٍ ورديٍ، وأعرف أنَّ هنالك أسماكًا، ولكن ليس لديَّ معرفةٌ بوجود سمكٍ برمائي. ولكن هل كُلُّ ما لا نعرف بوجوده ليس موجودًا فعلًا؟

الإجابة البسيطة على هذا السُّؤال هي: "بالتَّأكيد لا"، وهذا يتطلَّبُ توفر هذه المعلومة (التي لا أعرفها) عند شخصٍ يعرفها هو، فالشَّخص الذي يدَّعي وجود جبلٍ ذهبيٍ أو فيلٍ ورديٍ أو سمكٍ برمائيٍ، ربَّما كانت معرفته الحسيَّة أوسع من معرفتي، ومن هنا –أصلًا- كانت فكرة أنَّه ليس ما لا تعرف بوجود هو غير موجود بالفعل، ولهذا فإنَّ الموقف العقلاني يكمن في مُطالبتي لهذا الشَّخص مُشاركتي هذه المعرفة، وذلك عن طريق تقديم دليلٍ حسي يُؤكد وجود الجبل الذَّهبي أو الفيل الوردي أو السَّمك البرمائي، لأنَّ مُجرَّد تأميننا على قاعدة: (ليس كُلُّ ما لا نعرف بوجوده ليس موجودًا) لا يعني وجود ما لا نعرف بوجوده، بمعنى أنَّنا عندما أقول إنَّه فعلًا ليس كل ما لا أعرف بوجوده هو ليس موجودًا، فهذا لا يعني أنَّ هذا الشَّيء موجودٌ فعلًا، هذا فقط يجعل هنالك احتماليَّةً لوجوده تتساوى مع احتمالية عدم وجوده. ولكن تأكيد الوجود يحتاج إلى دليل؛ فإذا لم يستطع هذا الشَّخص تقديم هذا الدَّليل، فسوف يظل موقفي الرَّافض بتصديق وجود هذه الأشياء موقفًا عقلانيًا. لماذا؟ لأنَّه لم تثبت لديَّ معرفةٌ حسيَّة تنفي معرفتي الحسيَّة السَّابقة.

الآن، ماذا إذا اعتمد المُدعي أنَّ نطاق المعرفة بوجود هذه الأشياء واقعٌ خارج نطاق المعرفة الحسيَّة (عوالم غير ماديَّة)؟ الأمر عندها ببساطةٍ سوف يتطلَّب إثبات وجود هذه العوالم؛ حتَّى تُتاح لنا فرصة التَّصديق بإمكانيَّة وجود الفِيلة الورديَّة، والأسماك البرمائية، والجبال الذَّهبية ضمن هذه العوالم الجديدة (صارفين النَّظر عن إمكانيَّة التَّقاطع بين تلك العوالم غير الماديَّة وعالمنا المادي، وإثباتات ذلك، وأيضًا إمكانيَّة تكوين معرفةٍ حسيَّةٍ عن موجوداتٍ غير حسيَّةٍ أصلًا.) فإذا لم يكن هنالك ما يدلُّ فعلًا على وجود عوالم غير ماديَّةٍ فيزيائيَّةٍ، فإنَّ النَّتيجة النِّهائيَّة التي سوف نحصل عليها هي: ادعاءٌ بوجود كائناتٍ غير ماديَّةٍ لا يُمكن إثبات وجودها، في محيطٍ غير ماديٍ -أيضًا- لا يُمكن إثبات وجوده!

حسنًا، قلنا إنَّ نفينا لوجود هذه الأشياء قائمٌ -في أساسه- على معرفتنا الحسيَّة السَّابقة، التي أتاحت لنا معرفة وجود "جبلٍ" و "سمكٍ" و "فيلٍ"، وإنَّ النَّفي قام على تعارض الادعاء مع هذه المعرفة الحسيَّة السابقة؛ حيث أنَّنا لا نعرف بوجود جبلٍ ذهبي، أو سمكٍ برمائيٍ أو حتَّى فيلٍ وردي، ولكن الأهم من ذلك أنَّ هذه المعرفة ذات صلةٍ بالواقع أصلًا، أي أنَّها مُعتمدةٌ على معرفةٍ سابقةٍ للماهيَّة، ولكن ماذا لو قام أحدهم بادعاء وجود شيءٍ مجهولٍ لنا تمامًا، كأن يدعي وجود "ثُعبومٍ طائرٍ"! سيكون النَّفي أو الإثبات في هذه الحالة مُشترطًا بمعرفةً أوليَّةً بماهيَّة الثُّعبوم، ثمَّ نبحث لاحقًا حول كونه طائرًا أم لا، فنحن لا نعرف ما هو الثُّعبوم أصلًا، فإذا كُنَّا في حالة "الفيل الوردي" ننفي وجوده، وذلك بوجود معرفةٍ حسيَّة سابقةٍ تُخبرنا أنَّ الفيلة ليست ورديَّة، فإنَّنا في حالة "الثُّعبوم" سوف ننفي معرفتنا به أصلًا، فمعرفتنا الحسيَّة لا تحتوي على أيَّة معلومةٍ إطلاقًا عن "ماهيَّة" هذا الثُّعبوم؛ فما هو الثُّعبوم أصلًا حتَّى نُثبت وجوده أو ننفي وجوده؟ وكذلك الأمر لو ادعى شخصٌ وجود شيءٍ اسمه "طلكواء" أو "قمداس" أو أيَّ شيء ليس واقعًا ضمن إطار معرفتنا البشريَّة الحسيَّة.

الحقيقة أنَّ إلصاق أيَّة صفةٍ بمثل هذه الأشياء (مجهولة الماهيَّة) لن يُساعد كثيرًا في تكوين أيَّ نوع من المعرفة التي يُمكن الاعتماد عليها في النَّفي أو الإثبات؛ فلو قلنا: إنَّ الثُّعبوم طائرٌ، أو زاحفٌ فالأمر سيَّان، وكذلك الحال بالنسبة للطلكواء بأنَّه يبلغ طوله 10 أمتار أو 10 سنتمترات، فمازالت الماهيَّة مفقودة، ولا يُمكننا الحُكم على الشَّيء -نفيًا أو إثباتًا- مع انعدام الماهيَّة تمامًا، مع مُلاحظة أنَّ الأشياء التي لا تقع ضمن إطار معرفتنا الحسيَّة قابلةٌ تمامًا للتحلّي بأيَّة صفة، وعندها لن نجد أمامنا إلا الاعتماد على قوانين المنطق التي سوف نُطبقها على "الصفات"، لأنَّه لا يُمكننا تطبيق قوانين المنطق على اللاماهيَّة (أو الماهيَّات المجهولة).

فإذا قيل لنا -مثلًا- إنَّ الثُّعبوم طويلٌ وقصير، أو كبيرٌ وصغير، فإنَّه يُمكننا باستخدام قانون "عدم التَّعارض" المنطقي نفي هذه الصّفات، وحيث أنَّ الماهيَّة مجهولةٌ، ومعرفتنا بالأشياء في هذه الحالة مُرتبطةٌ بصفاتها، فإنَّ انتفاء الصّفات يُؤدي إلى انتفاء الماهيَّات أيضًا، فطالما أنَّه لا يُمكن الجمع بين الطُّول والقصر، فإنَّه لا وجود لماهيَّةٍ طويلةٍ وقصيرةٍ في الوقت نفسه؛ وبالتَّالي فإنَّه لا وجود لماهيَّةٍ مُتناقضةٍ (أو جامعةٍ للتَّناقض)، وهذا ما نُلاحظه في ادعاء ما يُسمى بـ"الله"؛ فالحقيقة أنَّنا لا نعرف ماهيَّة "الله"، ولا نملك إلا صفاته، وعندما نُعرّض هذه الصّفات -أو بعضها على الأقل- لقوانين المنطق؛ فإنَّنا سنجد أنَّ صفات "الأوَّل" و "الأخر" أو "الظَّاهر" و "الباطن" أو "الرَّحيم" و "شديد العقاب" تفشل في تجاوز قانون "عدم التَّعارض"، وبإمكاننا عندها نفي التَّعارض؛ وبالتَّالي نفي وجود ماهيَّةٍ جامعةٍ للتَّناقض.

لذا عندما تسأل أحدهم: "ما هو الله؟" فيقول لك عبارات مثل: "إنَّه خالق الكون العظيم، مُبدع كُلِ شيءٍ، وفاطر السَّماوات والأرض، الرَّحيم بعباده، رازق الإنسان والحيوان وكل المخلوقات .. إلخ" فإنَّ كُلَّ هذا يدخل ضمن فكرة خلع الصَّفات على الماهيَّة، ولكنَّه لا يخدم في تعريفنا بالماهيَّة أبدًا، ولهذا يكون مثل هذا الكلام كلامًا إنشائيًا مجانيًا، يُمكن خلعه على كُلِ ما لا ماهيَّة له، لأنَّه بإمكاني بسهولة أن أدعي أنَّ الثُّعبوم مُطلق العلم، دون أن يستطيع أحد إثبات عكس ما أقول، ولو ادعيتُ بأنَّه هو خالق الكون دون أن يكون لديَّ دليلٌ مادي يربط ما بين هذا الثُّعبوم (مجهول الهويَّة) وبين الكون وبدايات نشوئه، فلا أحد أبدًا يستطيع أن ينكر ذلك، إلا بادعاءٍ عقيمٍ مماثل لهذا الادعاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
إبراهيم بوليفة ( 2015 / 11 / 15 - 17:30 )
وما يمنعك بدعاء أن هذا الثعبوم كما أردت تسميته أنه مطلق العلم و خالق كل شيئ فإن أستطعت إثبات ذلك فسأكون له و بدون تردد أول العابدين و لكن القضية هنا ليست قضية إصدار الإدعاءات المجنية فقط و إلا فإن البشر ومنذ القدم أخترعوا لإنفسهم ألاف الأسماء و عبدوها فهل هذا يعني أن علينا تصديقهم بمجرد إدعائهم ذلك دون تقديم الدليل و البرهان فهذا هو العبث بعينه و هنا تقع المسؤولية على الإنسان العاقل كي يميز بين من كان إدعائه حقا و بين من كان إدعائه محض تخريف
و أظن أن طرحك لمثل هذه المواضيع من حين إلى الأخر إن دل فإنما يدل على أنك مازلت في شك من أمرك و لم تحسم الأمر بعد في قضية وجود أوعدم وجود الخالق و إلا فما الدعي في كل مرة تريد أن تثبت لنفسك أنك على صواب و لم تخطاء في إتخاذ القرار و أصدق القول أننا نحن كذلك المعتقدين بوجود الخالق دائما ما نبحث عما يأيد و جهة نظرتنا و كأننا مازلنا لم نحسم في أمرنا
فالقضية هنا واضحة فكلنا يريد أن يثبت ما يتمنى أن يكون عليه الحال وليست إثبات ماهو عليه الحال فأنا أريد و أتمنى أن يكون هناك خالق للكون و أنت تريد و تتمنى أن لا يكون هنال خالق للكون


2 - يا لهذه العقول السمنتية المُقَولَبة
الحكيم البابلي ( 2015 / 11 / 16 - 00:07 )
الصديق هشام آدم .. تحية
فلسفة مُقنعة جداً لمن كان متحرر العقل من ثوابت الأديان الترهيبية التي حولنا، والتي تعتمد على ثالوث (الجهل، الوراثة، التلقين)!!، أو بالنسبة للبعض الآخر تعتمد على (الترهيب والترغيب) خاصةً لهؤلاء القاصرين معرفياً وثقافياً وحضارياً

كلما دخلنا في حوار مع أحد المترهلين فكرياً يطلب مِنا أن نُقدم له الإثبات على عدم وجود الله، والأمر مُضحك حقاً بالنسبة لي على الأقل، حيث أطلب منهم دائماً أن يُقدموا لنا إثباتهم حول وجود الله، والبينة على من إدعى، وهُم كانوا البادئين تأريخياً في طرح فكرة وجود خالق (سوبر) على كل شيء قدير !!!!!!!، واو

الحوار مع المتدينين مضيعة للوقت، كونهم تقولبوا سمنتياً منذ صغرهم، ولم يُفطموا بعد، وأعتقد أن تفليق الذرة أسهل بكثير من تغيير قناعات المؤمن بأي دين من هذه الأديان الترهيبية الثلاثة، وبغض النظر عن الفارق أو النسبة بين تواضع بعضها أو لا، لإنها جميعاً في النهاية تدعي أن هناك جبلاً ذهبياً وفيلاً ليس وردياً فقط .. بل طائراً بقوة الله

مقال جميل يضع النقاط على الحروف، ويمكن قرائته وفهمه بسهولة، شرط أن يكون الإنسان في كامل وعيه ومالكاَ لعقله
طلعت ميشو

اخر الافلام

.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف


.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية




.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في


.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو




.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك