الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أخلاق أهل العراق - جاسم الحجّامي أنموذجاً

محسن لفته الجنابي
كاتب عراقي مستقل

(Mohsen Aljanaby)

2015 / 11 / 22
كتابات ساخرة


سافر جاسم من سوق الشيوخ الى العماره للتبضع الموسمي , فلما دخل سوقها الكبير توقف عند أحد البائعين وبدأ بالسؤال عن الأسعار بعد أن ترجّل عن فرسه :
- عمي بيش تغار الشعير؟
- بأربعين روبّية
- بيش الماش ؟
- بأربعين روبّية
تركه وذهب لبائع آخر وسأله
- بيش الحنطه؟
- أربعين روبّيه
- والشلب والدخن والسمسم
- عمي كُلها بأربعين ربّيه
فطفح كيل الحاج جاسم وصرخ بمايملك من صوت :
ولايه كُلها بأربعين عيب أشتري منّچ ولا أسكنچ !!
وصارت عبارته (كُلها بأربعين) مثلاً يتداوله العامة في حوض الرافدين يضرب في تساوي الأشياء المختلفة بالسعر وهي بحسب مفهوم (الحسچة) الذي لايعرفه سوى القلة ممن رُفِعَ عنهم الحجاب ليبرعوا بالحكمة تعطي معنى عميق لتجعل الغث والسمين والفارغ والممتليء جميعها بنفس المستوى وتساوت بالسعر ,رغم التباين بالقيمة الجوهرية ومدى الحاجة والفائدة وبسبب ذلك غادر جاسم سوق الشيوخ ولم ينظر للعمارة مرة أخرى فقد كره المدن التي صارت بنظره باهته , فأستقر وزوجته بأرض جرداء على ضفاف دجلة (الشَط الأَحَمَر) مابين الكوت والعزيزية بحسب الرواة ممن نقلوا قصته و له في أختيار المكان حكمة , فهو يطل على الطريق النهري الرئيسي للعراق وينفتح على الطرق البرية مع المدن الكبرى , ومن الجدير ذكره أن الرواة ممن عاصروه نقلوا عنه سلوكه وأشعاره فقد كان يجيد القراءة والكتابه في زمن شاع فيه التخلف , دون أن ينتبهوا الى أن حياته كانت (ثورة) فردية مصغّرة فقد حاول أن يترك رسالة للأجيال ربما , أو أنه أراد أصلاح الناس بما تيّسر له , من خلال أقتباس الدروس من أسلوب حياته المختلف , ففي زمن الفقر والجوع أراد أن يكون الأوّل بالعطاء والجود , فقد صدح بأبيات عرفها معاصروه تقول :
أشباب البيت للخطّار يومن
وماندري بعشانا تغار لو مَنْ
أهي شِدّه وعلى الطيبين يومين
تفرج والجبان يحير بيّه *
فكانت ناره لاتنطفيء- أشارة لكرمه - ومن عادة العرب آنذاك التشكيك بالأخبار حتى يتم أثباتها ولهم بذلك ألف عذر حيث ينهج الناس الى المبالغة وتهويل الحقائق كونهم ينساقون خلف المنتفعين وأصحاب الغايات ممن يفتعلوا الحكايات ويعظمونها ليعلوا التافه فيجعلوه بمرتبة الأسمى وينحدرون بالكريم ليكون الأدنى , فأراد جمع من الفرسان (روزه)* أي تقييمه من خلال زيارته والوقوف على حالته , فتجمّع أربعون فارس وقرروا مداهمته , قسمّوا أنفسهم لثمانِ مجموعات كل واحدة تضم خمسة رجال يتوافدون على بيت (الشَعَر) الذي يملكه (جاسم) ليفصل بين وصول مجموعة وأخرى فاصل زمني لمعرفة أمكانياته وكرمه وصبره , وصلت المجموعة الأولى مع الضحى , تبعتها المجموعة الثانية وأكتمل الأربعون مع منتصف النهار ليظهروا له أنهم أتوا صدفة, كان جاسم في ظرف عوز شديد , وبما أنه حاذق , دخل مربع العائلة وهمس لزوجته :
أنها مكيدة ولابد أن ننتصر
وخرج بعدها ليعتلي مرتفع وقال :
آلهي أخرجني بالوجه الأبيض
فترائى له من بعيد غبار لا يكون إلا للـ (شاويّة) وهم رعاة الشاة أو الـ (بيّاعه شرّايه) كما يطلق عليهم في ربوعنا , ولما وقف في طريقهم وكان يعرفهم أخبرهم بالمأزق وأن بيته خالٍ وضيوفه الأربعون ينتظرون المائدة , فأجابوه : الغنم كلها لك , وجوابهم لم يأتِ من سخاء لامعتاد ولا بحثاً عن مديح وأطراء , بل أنهم طبّقوا القاعدة التي تنص (الشخص الشريف يشارك الناس أموالها) فهم يعرفون (جاسم) ذلك الذي لن يبخس أموالهم بل سيزيدها , تخلص جاسم من الورطة وذبح لهم من الشياه مايليق بالضيوف حينها , فتأكدوا من رصانته ,و ودّعوه وأنصرفوا , ولم تنتهي الحكاية هنا , فقد تعرّف على أرباب السفن وكل سفينة كانت تمر غالباً ما يعرّج عليه قبطانها لأرتشاف القهوة والتنعم بالكرم وحسن الحديث والمنادمة , فأقترحوا عليه قطّاع النهر من تجار وقباطنة أن يزودوه ببعض من أشيائهم النادرة , بضاعة من الرز والعدس والبهارات والتبغ والقهوة , كثيراً ما يقدمونها هدايا مجانية إكراماَ لمكانته , فذاع صيته أكثر وأكثر , وسمع أمير زبيد (رشيد البربوتي أبن وادي الشفلّح) بأخبار (جاسم الحچامي) على لسان الفرسان الأربعين (أيّاهم) وقدموه بصورة تدنوا من مكانة الأمير نفسه رغم فقره وزادوها بسيل من المناقب الحقيقية التي برع بها , من مساعدة الجميع والترحيب ألى أكرام اليتامى والأرامل والمحتاجين وما أكثرهم فكل من سمع به على الفور يقصده , مما دعى الأمير للأعجاب والفخر , فأصدر فرماناً أعفى بموجبه (جاسم) من كل الديون التي كان يدين بها للحكومة العثمانية , فقد كانت الأخيرة تفرض على المواطنين أن يدفعوا لها مبلغاً سنوياً من المال (يسمى الكودة) وهي أقرب للجزية منها للضريبة تقاس بحسب المواقد التي تستخدم للطبخ كنظام ضرائبي في ذلك العصر , وأصدر أيضاُ بنداً ينص على تسيير قافلة من الإبل سنويّاً محملة بأنواع الطعام الأساسي تقدم مجاناً لـ (جاسم) ذلك الرجل المعطاء الذي صار أمثولة بدماثة الأخلاق والطيبة والكرم .
جاسم الحچّامي (1872-1949) شخصية عراقية بمعنى الكلمة , كان يحمل تلك الخصلة التي يتميز بها العراقيين الأشراف من أهلنا , وهي الأعتداد بالنفس والكرامة التي نسميها نحن العوام بــ(الأنَفَه) وهي ربما أتت من مفردة (أنف) وتعني مجازياً الأنف المرفوع الذي يرمز للكبرياء , ويقال : فلانٌ أنفه عال أو يابس وجميعها فيها دلالة على العزّة والثقة بالنفس اللامتناهية , وهي - أي الكبرياء - لاتتبع بالضرورة درجة الغنى أو الفقر ,ولكل رجل سعر بحسب أمثال مجتمعنا تحددها قيمة شخصيته بما تحمل من مباديء (مصداقية وفكر وثقافة تتحول الى عقائد لتشكل الكينونة المعنوية للفرد المختلف) , لنعد للشخصية قيد البحث , جاسم الحچامي , عاش في عهد نعجز عن تقييمه كوننا لم نعاصره لكنه أستحق أن يكون أنموذجاً للشخصية العراقية الغارقة بالأصالة ولم يشوبها الصدأ رغم العصر الظلامي المرعب , أنموذجاً يشتت كل المقولات التي تتهم العراقيين بأنهم (ممارين , متملقين , حلافين , منافقين) , فأمثال أولئك ليسوا حتماً من أهلنا . مجرد غرباء مرتزقة , فنحن من هؤلاء الأكارم من جنس (جاسم) وغيره الكثير الكثير ومنهم الموجودين اليوم بيننا هم وحدهم من يمثلنا , وثوابتنا معروفة , حيث الضمير الأنساني والأخلاق والصدق والثبات على المباديء هي ميزتنا لتصير الحد الفاصل بيننا , فكل من فقد عنصر من تلك المكنونات , غريب هجين حق عليه القول (تفٌ لا أباً لكم) فهؤلاء أهلنا.
................
الهوامش
أشباب*: جمع شبّه وهي الوتد الخشبي الذي يسند بيت الشَعَر ويقتطع من أشجار شابّة ومنها أتت التسمية
يومن : من الفعل يوميء أي يلوّح بيده وهي كنايه عن الترحيب بالقادم بصيغة المبالغة
تغار : كتلة تساوي 250 كيلو تقريبا , المَن: 25 كيلو
روزه *: من راز يروز روّزَ , جرّب الشيء وقاسه لتقييمه
أبيات من صنف الأبوذيّات نسبت لـ (جاسم الحچامي) :
عفانـي چيف إلي مهجـه ولي روح
أداري بالعلل كلهـا واليروح
مـاني بحال من يبگه والـيروح
إبحالك يلگطعت الوصل بيّه
...
زماني أشلون بلّشنـي بلا شــاة
أتعب والتعب ضايــع بلا شــاة
مثل السـرح عد خالـه بـلا شاة
يگلّـه أغنيك لن أيــده خليـّه
...
ياهـو المبتلي ياخلق بلــــواي
اصفقت بيدي وأحشم العرب بلواي
گلّـي شلون أطفّي الواي بلـواي
أطفّي هاي ذيـچ أسـعرت بيــه
...
تهت محّد من أحبـابي علي شـار
ينجّيني الذي شمسـه علي شـار
حچيت المصلحـه طلعت علي شار
رجيت الغانمـة صارت رديـه
...
هذا البيّه كلكم لايميني
وعذر ما فاد بيكم لايميني
لو تچتف يساري وي يميني
هذاك آنه الهوى غالب عليه
...
يصاحب لو تشوف إشلون كتماي
على عيوني ويسحّ الدمع كتماي
إشما للروح سر الهوى كتماي
تحن وتهيّج الساكن عليه
.................................
© مقال بحثي في شخصية تراثية عراقية لم تطرق سابقاً - سلسلة تراث العراق الأخلاقي والفكري












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-