الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأصيل النرجسية (Narcissism) فى تطور السلوك الإنسانى

رمسيس حنا

2015 / 12 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


فى المقالين السابقين تعرفنا على الإسطورة اليونانية صَّدَى و نارسيسس (Echo and Narcissus) ومنها أصَّل علماء النفس لمرض النرجسية (Narcissism) أو مرض أضطرابات الشخصية النرجسية (Narcissistic Personality Disorder) و الذى يُعرف إختصاراً بـ (NPD). و فى هذا المقال سوف نتناول كيف بدأت النرجسية تعترى الإنسان منذ بدأ حياته فى الكون (على الأرض) فكان إعتقاد الإنسان أنه أهم موجودات الكون هو بداية دخوله فى مرحلة المرض الأولى و كيف أدى هذا الإعتقاد الى عزل نفسه عن كل الكائنات و وقف منها موقف العداء فحاول السيطرة عليها بإبتكاره معينات تساعده على حماية نفسه من الحيوانات المتوحشة و صيدها و رغم من التقدم الذى أحرزه فى هذا المضمار إلا أن حقيقة ضعفه كانت قد تجذرت فى نفسه و لكى يحمى نفسه فقد تعلم التمويه و التخفى (camouflage) مثله مثل الحيوانات ثم بعد ذلك و بعد تكوين الجماعات و المجتمعات شمل الصراع هذه الجماعات و المجتمعات البشرية فيما بينها كما هو الحال مع مظاهر قوى الطبيعة التى جعلها اَلهة فتعددت الألهة فحاول الأنسان أن يتقرب منها بتقديم الأضاحى و الهبات من الحيوانات و النباتات. إلا أن الموت كان الحقيقة الصادمة و لكن قياس الأنسلن بحالة السكون فى الحيوانات و موت الأشجار الظاهرى فى فصلى الخريف و الشتاء و عودة الحياة لها جعله يعتقد أنه سيحيا بعد موته و هكذا تطورت فكرة الحياة بعد الموت خاصة فى حضارة ما بين النهرين و حضارة قدماء المصريين.

إن تأصيل النرجسية فى الإنسان تبدأ معه منذ أن إعتقد أنه محور الكون و الخلق و أن كل شيئ خُلِق أو وُجِد من أجله. فهو على قمة الخلق و الوجود بقدرته على التفكير و ملكة الخيال و من ثم بدأ الإنسان فى تعريف نفسه على أنه كائن عاقل مفكر مبدع خيالى و أعطى نفسه ميزة و خصوصية لا يد له فيها فعزل نفسه عن كل الكائنات. و من ثم توصل الى فكرة تقسيم الكائنات الحية الى طائفتين حسب مجال حركتها (المملكة النباتية و المملكة الحيوانية ) لكى يجد لنفسه تميزاً خاصاً و لكنه أدرك إندراج نفسه فى الطائفة (المملكة) الحيوانية بحكم الإشتراك معها فى المقدرة عل الحركة و الإنتقال من مكان الى اَخر و بحكم أن هناك حيوانات تتفوق عليه فى القوة و بالتالى فهو ليس مالكها أو ملكها لأنه لا سيطرة له على تلك الموجودات أو المفردات فعلم مدى الضعف الذى هو جزء من كينونته. و وجد الإنسان أن حياته و بقاءه رهينين بمقدار ما يملك من تحكم (control) و قوة أو سلطة (power) على مفردات الطبيعة و أن حريتة (فى حركته) تتناسب تناسباً عكسياً مع حرية (حركة) مفردات الوجود التى يراها حوله و لكنه لا حول له و لا قوة. و هذا الضعف أدى به الى نوع من الحقد و الحسد على الكائنات الأقوى منه أو تلك التى لا يستطيع السيطرة عليها؛ و بدلاً من حدوث توافقية وتصالحية (harmonization and reconciliation) بينه و بين مفردات الوجود الأخرى حدثت تنافسية (competitiveness) أدت الى حالة صراع فى داخله فى محاولة منه للإستحواذ على القوة و السلطة (power) و التى تؤدى به الى السيطرة و السيادة ( supremacy, control and dominance) على مفردات الوجود.

و من ثم بداء عقله (Reason) يعمل على إبتكار وسائل و معينات (العصاة ة و السكين و السهم والحربة للدفاع عن نفسه و لصيد الحيوانات) تساعده على السيطرة على الموجودات التى يتعامل معها أو يجد نفسه فى مواجهتها. و بهذه الوسائل زادت و قويت سيطرته فتسلط على الحيوانات فإمتهن الصيد و زادت ملكاته العقلية بالتدريج فبالإضافة الى صيد الحيوانات بدأ يستأنسها و يرعاها (tame / domesticate) فإمتهن الرعى و تربية الحيوانات (raising animals)؛ و من هنا بدأ يستغلها إما بصيدها أو تربيتها و رعيها ليحصل على لحومها كطعام و جلودها كملبس و عظامها لصناعة المعدات و الإسلحة. ثم عرف تأثير الأمطار أو الماء علي النباتات فبداء يزرع المحاصيل التى يتقوت عليها هو و حيواناته المستأنسة و ليسد بها إحتياجاته من مأكل و مشرب و مأوى.. و بتعلم الإنسان لإستئناس الحيوانات (taming / domestication) و بممارسته الرعى و بتعلمه الزراعة تعلم الإستغلالية أى إستغلال مفردات الوجود لتكون لخيره و فى مصلحته و فى خدمته؛ و من ثم تعلم إمتلاك الأشياء و بممارسته للتملك و الإمتلاك تعمقت نرجسيته و زاد تحايله على الموجودات و على مفردات الطبيعة. و من هنا تحققت أربع سمات أو أربع خصائص النرجسية و هى 1- إعتقاد النرجسى بأنه أكثر أهمية من الكائنات الحية الأخرى؛ وهذا الإعتقاد بأهميته ولد فيه 2- الغطرسة و التعالى و الفوقية ثم 3- إستغلاله للحيوان الذى ظهر جلياً فى الصيد و الرعى و إستئناس الحيوانات لكى تقوم له بأعمال مرهقة لا يستطيع هو القيام بها. ثم بعد ذلك إتجه الى 4- تملك الأشياء فأضاف له التملك قدراً كبيراً من القوة. هذه هى بداية النرجسية فى الإنسان حتى قبل أن يبدأ فى بناء التجمعات ثم بعد ذلك المجتمعات البشرية.

و رغم ما توصل اليه إلا انه فى فى أعماق تفكيره و فى قرارة نفسه ما زال يعلم و يخفى حقيقة ضعفه – و هذه هى الخاصية أو السمة الخامسة للنرجسية – و أنه ليس الأقوى فى هذا الوجود فتولد فيه الحقد و الحسد – و هذه هى الخاصية أو السمة السادسة للنرجسية – على الكائنات التى لا يمكنه السيطرة عليها أو الأقوى منه و يحتاج الى عضد و دعم كبير يساعده على المحافظة على حياته. لقد بدأ الإنسان كفرد أو زوجين و علم أن قوته تتناسب تناسباً طردياً مع عدد أفراده. فبدأ بالقبيلة و القرية ثم المدينة و بعد ذلك الدولة. و بتعلم الأنسان للزراعة بدأ الإستقرار و بناء المجتمعات و بناء الحضارة الإنسانية. و تعلم الإنسان أنه كلما تحكم أو سيطر أو تملك على مفردات الوجود و جعلها طوع إرادته كلما زادت مساحة حريته و كلما كانت أكثر إيفاءاً لإحتياجاته و كلما تقابلت وفق مصالحه. فأصبحت الملكية و إمتلاك عناصر الوجود دليل اَخر على قوة الإنسان و تحولت الملكية الى إغراء و شراهة لا يستطيع مقاومتها. فطفق يضفى قيماً على تلك المفردات أو الموجودات تتناسب بتوافقها مع أو ضد مصالحه. و هكذا بدأ الإنسان أضفاء القيم على الأشياء بما يتناسب مع إحتياجاته و وفرة أو ندرة هذه الأشياء. فكل ما هو وفق مصالحه دعاه خيراً و أضفى عليه قيم عالية؛ و العكس صحيح فكل ما لا ينفعه أو يضره أهمله و لم يضع له قيمة؛ و كل ما هو ضد مصالحه دعاه شراً. و مثل هكذا زودته الطبيعة بمظاهر ثنائية الخير و الشر. فالنور خير و الظلام شر .. و الحيوانات المفترسة اَكلة اللحوم (carnivores) شر و الحيوانات اَكلة الأعشاب (herbivores) خير أو أقل شراً.

و منذ بدأ الإنسان الصيد و من أجل المحافظة على حياته، و مع تعامل الإنسان مع مفردات الطبيعة خاصة الحيوانات تعلم منها الكثير خاصة فى محاولة تقليدها. فتعلم الإنسان التمويه و التخفى (camouflage) من الحيوانات فى محاولة تماثله مع الطبيعة ليتحايل على بيئته و محاولة التكيف معها فى المظهر. و فى التخفى (camouflage) تولدت الثنائية حيث أن الشيئ الواحد يمكن أن يحمل فى ذاته الخير و الشر معاً. و أكثر الموجودات أو الكائنات (النمور و الثعابين و كثير من الزواحف) التى تستخدم التخفى فى الصيد و حماية أنفسها هى أكثر الحيوانات شراسة و ضرراً عليه كما أنها قد تكون أضعف بالنسبة لكائنات أخرى؛ فيظهر الحيوان أنه متوافق مع الوسط الذى يعيش فيه و فى الواقع هو يضمر شيئاً اَخر. و إن التمويه أو التخفى (camouflage) هو إحدى الوسائل للمحافظة على الحياة بالمحاكاة المظهرية للبيئة أو للوسط الذى يعيش فيه الكائن و خداع الأعداء للنجاة بالنفس إذا لم يتمكن من فرض سيطرته على هذه البيئة أو هذا الوسط الذى أضطرته الحياة أن يعيش فيه. و تعلم أن هناك حقيقة مغايرة وراء التخفى (camouflage) خلف المظهر .. و فى التخفى (camouflage) و جد الإنسان ضالته فى النفاق الذى هو السمة أو الخاصية السابعة للنرجسية.

و بعد أن بدأ الأنسان يعيش فى جماعات و بعد تكون المجتمعات البشرية إمتد الصراع ليشمل الجماعات و التجمعات البشرية ضد بعضهم البعض. و من ظاهرة التمويه أو التخفى (camouflage) تولدت ثنائية التضدادية للأشياء و الموجودات. فالهواء خير و العواصف شر .. و النار خير و الحريق شر .. و الأمطار خير و السيول شر .. لدرجة أنه أله هذه المفردات (جعل منها ألهة) .. بل هكذا أله (قام بتأليه) قوى الطبيعة التى لم يستطع أن يسيطر عليها؛ فخلق أَلهة للأمطار و الأنهار و البحار و الشمس و القمر و العواصف و الرياح و النور و الظلمة و البراكين و الزلازل ... الخ فتعددت الألهة التى وجب عليه التعامل معها و من ثم أستنج أن خير هذه الألهة يكمن فى رضاها و هدوئها و شرها يكمن فى غضبها. و من ثم لجأ الى فن التخفى (camouflage) و هو فى الواقع يعنى النفاق فى الإنسان ليتعامل معها بكل الأساليب ليسترضيها أو ليتقى شرها و من هنا تعلم الإنسان ما يُسمى بالتقية سواء بالتذلل و الخضوع و التقديس و المناجاة و الدعاء و الصلاة و الحب و التملق و النفاق و الطاعة لكل ما يخدم مصالحه أو بالرفض و الكره (فى أعماقه) لدرجة أنه خلق ألهة أخرى (لأنه شخصياً لا يقدر) لإعلان التمرد و العصيان و المقاومة بل و الحرب على كل ما يقف ضد مصالحه .. و من هنا نشأت ثنائية الخير و الشر .. و من هنا نشأت فكرة ثنائية أصحاب السلطة أو القدرة و المُتسَلَط (بضم الميم و فتح السين و اللام ) عليهم أو من لا قدرة لهم .. فوقر فى ذهنه و عقله الجمعى وجود إله للخير و إله للشر ... و أطلق عليها تارة أسماء مادية أو معنوية مجردة تارة أخرى و مختلفة تتناسب مع ما ينشده الإنسان من قيم تخدم مصالحه. ففى بلاد ما بين النهرين (ميسوبيتانيا العراق و سوريا حالياً) على سبيل المثال قامت حضارات مثل السومرية، و الأكدية، و الأشورية و البابلية و الأرامية التى كانت تؤمن بتعدد الألهة مثل الإله أنليل و مردوخ و نابو و شمش و إتجهوا الى فكرة الإله الواحد فيما بعد. كذلك حدث فى مصر الفراعنة نجد رع "الشمس" و أمون و أتوم و أتون و أبيس و ماعت و إتجه قدماء المصريين الى توحيد الألهة على يد أخناتون و فشلت المحاولة. و من أجل أن يرضى الألهة و يحوز على خير الطبيعة بدأ الإنسان ينافقها بتقديم الأضاحى من الحيوانات و النبات (البخور) الذى تصعد مع رائحته صلواتهم الى الألهة فيشتم الإله رائحة البخور فيقبل أُضاحى المؤمنين و صلواتهم.

إن أول ظاهرة صدمت الإنسان بصفته الكائن الوحيد العاقل المفكر المبدع ليس فقط حقيقة الموت بل أيضا التبعات الكيميائية التى تلى موت الأنسان مباشرة بداية من تغير و إمتقاع اللون و إنطفاء لمعان العيون و خبَأ أو إنطفاء بريق الحياة فى الجسد الى الترمم و التعفن ثم التحلل. كل هذا يأتى بعد حياة ملؤها الصراع مع مظاهر الطبيعة القاسية ومع الكائنات الحية الأخرى المتوحشة و بعد حياة ملؤها التعب لتأمين نفسه من مأكل و مشرب و ملبس و مسكن و إستقرار و بعد صراع مع الأمراض المختلفة يقع فى النهاية تحت طاثلة الموت الذى لا يفرق بينه و بين أى كائن حى اَخر بل تكون تبعاته الكيميائية أسوأ عليه من أى كائن اَخر. هذه الحقيقة الصادمة قوبلت بالرفض التام من الأنسان و هذه كانت بداية نرجسيته (حبه لذاته) فصعب عليه أن يحدث له كما يحدث للكائنات الحية الأخرى فهو يستحق و أحق أن يكون له موقف أفضل بكثير من الكائنات الأخرى و ليس أسوأ منها. فكانت النرجسية بخاصية الإستحقاقية هى بداية بحثه عن بديل للحياة الدنيا فيما تم بلورته فى تصور و هاجس إنسانى الى حياة الاَخرة و ما ترتب عليها من وجوب البعث بعد الموت كظاهرة السكون التى رأها و لاحظها الأنسان فى الطبيعة بصفة عامة و النباتات بصفة خاصة التى تموت ظاهرياً فى الخريف و الشتاء و تدب فيها الحياة مع بداية الربيع.

و لكى يخفف الأنسان من وطأة حقيقة الموت الصادمة لجأ الى تفكيره و خياله الذى قد يوصله الى حل أو تفسير لهذه المعضلة أو قد يجد فيه متنفس من الحقيقة الجاثمة على عقله و لعله يجد مخرجاً من هوة العبثية و اللامعنى التى سقط فيها فتوصل عقله الى ما يعرف بالقياس المنطقى (syllogism) الذى هو تطبيق قاعدة كلية على جزئياتها لمعرفة حكم الجزئيات. فالأشجار كائنات حية تموت و تحيا؛ و أنا كائن حى؛ إذاً أنا أموت و أحيا. و الخطأ فى هذا القياس أنه لا يوجد قاعدة كلية أصلاً (لأن الأشجار جزء من الكائنات الحية) و من ثم كان يجب أن تكون القاعد الكلية هنا كأن نقول مثلاً أن: "كل الكائنات الحية تموت و تحيا" و يكون تطبيقها على الجزء هو: "الإنسان كائن حى" و بالتالى تكون نتيجة القياس هى: "إذاً الإنسان يموت و يحيا" و حتى فى هذا القياس فإن القاعدة الكلية أو ما يسمى أيضاً بالمقدمة المنطقية خاطئة رغم أن محمولها صحيح و بالتالى فإن كل ما ينبنى على جزئيات القاعد الكلية الخاطئة يكون خطئاً؛ و كذلك إذا كانت المقدمة المنطقية كاذبة فلا ينطبق عليها الشرط الأساسى فى الماصدق المنطقى.

و مع تطور العقل البشرى بتفاعلاته مع الطبيعة و الوجود توسعت معرفته و تراكمت خبراته، فتيقن أن الأشجار لا تموت فى فصلى الخريف و الشتاء بل هى أشجار متساقطة الأوراق (deciduous) أى تتساقط أوراقها فى الخريف حتى تتعرى تماماً فى الشتاء و لكنها تظل حية، كما أن هناك أشجار دائمة الخضرة (evergreen) لا ينطبق عليها ملاحظة الأنسان البدائية فى موتها و عودة الحياة لها؛ كما توصل الأنسان الى أن ما يحدث من تساقط الأوراق فى بعض أنواع الغابات أو الأشجار فى فصلى الخريف و الشتاء له ما يقابله فى حيوانات ذوات الدم الحار فيما يُعرف بالبيات الشتوى (hibernation) الذى يسكن فيه الحيوان فى مخبأ دافئ نوعاً و يمتنع عن أى نشاط حتى يوفر طاقته. و هكذا أدرك الإنسان الخلل الذى يعترى قياسه (syllogism) فى مظهرية موت الأشجار و عودتها للحياة أو عودة الحياة لها.

و رغم إكتشاف الإنسان لفساد هذا القياس (syllogism) إلا أن نتيجته (عودته للحياة أو عودة الحياة له) حفرت مسارها فى مخه و أستقرت فى المنطقة البطنية الوسطية لقشرة الفص الجبهى (ventromedial prefrontal cortex,) و من ثم سيطر على خياله و أوقر فى عقله أن هناك حياة بعد الموت حتى يعطى معنى لوجوده؛ فأنشغل خياله و عقله بماهية و بكيفية هذه الحياة بعد الموت و بربطها بالكيفية التى تكون عليها الحياة الدنيا. فبدأ فى نسج القصص و الأساطير عنها و بالطبع فإن وجود الحياة الدنيا لم يكن هو مصدرها و لم يفهم كنهها و من ثم لابد أن يكون مصدر الحياة سلطة أعلى تفوق سلطته و قوة مطلقة لا حدود لها و أدرك من تلقاء نفسه أنه ليس الأقوى فى هذا الوجود و أنه مجرد مفردة من مفردات هذا الوجود و أن عودة الحياة خارج قدراته و خارج سلطته ومن ثم كان عليه أن يتوصل الى هذه القدرة و الى هذه السلطة مصدر الحياة .. فتخيلها دون أن يتحقق من و جودها .. تخيلها "ذاتاً عُليا" لها وجود يمكن إدراكه بالحواس و لكن عزى عدم أدراكه لها بالحواس الى عجزه هو شخصياُ و ليس قصوراً فى هذه الذات للكشف عن نفسها له فتعمق فيه إحساسه بضعفه. و مرة ثانية توصل خيال الإنسان و تفكيره الى و جود إله أو ذات عليا تتحكم فى مسار الكون و الوجود و الحياة و الموت و ما بعد الموت و كانت حضارة ما بين النهرين سباقة فى هذا المنحى ثم بعد ذلك قدماء المصريين و اليونانيين و الرومانيين ناهيك عن الحضارة الفارسية و الصينية.

كان الإنسان في بلاد ما بين النهرين، يرى في الالهة بأنها مصدر كلِّ فعل كوني، وتوجَّه إليها متسائلاً عن سرِّ الخلود والحياة الأبدية. وكانت ملحمة گلگامش البابلية عام 2650 ق.م. تُعتبَر أقدم نماذج الأدب الملحمي (الدينى) في تاريخ الحضارات، بحثت عن سرِّ الخلود الذي استأثرت به الآلهةُ منذ اللحظات الأولى للخليقة وحرمتِ الإنسانَ منه. وكان گلگامش أول من بحث عن هذا السر بعد موت صديقه (أنكيدو) لكنه فشل في الوصول إلى حقيقة الموت والحياة وتحقيق الخلود لبني البشر في عالمهم السفلي، إلا أنه لم يفقد الأمل في الخلود ولم يقطع صلته بالآلهة، واستطاع أن يُرضي بعض منها ويقنعها بالهبوط إلى العالم السفلي (كهبوط عشتار وزواجها من تموز). و مثل هكذا فعل المصريون القدماء بألهتهم فكان الأله رع يهبط الى عالم الدوات السفلى و يقضى طوال الليل يحارب الأفعى ابوفيس التى تبث سمومها فى البشر؛ ثم تخيل ما يمكن أن تكون عليه محاكمة الميت و كيف يدافع الميت عن نفسه أمام الألهة و رصدها فيما يُعرف بأسم كتاب الموتى الذى كان يوضع مع الميت ليدله و يرشده الى المحاكمة الأبدية التى كان يتم فيها محاسبة الميت طبقاً لسلوكه و تصرفاته على الأرض طبقاً لمنظومة أخلاقية لا تضاهيها فى سموها ما يُعرف بأسم الأديان الإبراهيمية.

إن الإعتقاد بوجود ألهة إستلزم وجود طبقة من البشر تعمل على خدمة تلك الألهة و على عاتقهم تبليغ رسائل الألهة الى البشر و إستقبال هدايا الناس و نذورهم لتوصيلها الى الألهة و هكذا التحمت السلطة الدينية مع السلطة السياسية. فاذا قويت سطوة رجال السلطة السياسية أخضعوا رجال السلطة الدينية تحت سيطرتهم ومن ثم يقوم رجال الدين بتأليه الملك أو الوالى أو الخليفة و على أقل تقدير أعلنوه إبناً للألهة ان لم يتوجوه إلهاً كاملاً. و العكس صحيح: فإذا قويت سلطة و سطوة رجال الدين فأنهم يلعبون بالملك لينتهى به المقام بالعزل و ركوب السلطة السياسية بواسطة رجال الدين. و هلم دواليك.

و الى اللقاء فى المقال القادم و كيف تؤكد النصوص الدينية لمرض النرجسية.
دمتم بخير و سلام.
رمسيس حنا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أطالب الحوار أن تتصدر مقالات رمسيس حنا الرئيسية
سامى لبيب ( 2015 / 12 / 6 - 19:06 )
مقال رائع وثرى ومن افضل ما قرأت تحليلا وتشخيصا لذا أطالب هيئة الحوار أن تتصدر مقالات الاستاذ رمسيس حنا الصفحة الرئيسية فى كتاب وكاتبات التمدن وأبحاث ودراسات التمدن فهذا حقه وحق القراء كذا هو مكسب كبير للحوار المتمدن بهذا الكاتب الرائع ..أأمل من الأخ رزكار ان يولى هذا الأمر اهمية خاصة فنحن أمام كاتب رائع فذ .
تحياتى وتقديرى أستاذ رمسيس .


2 - من أدبياتك الإلهام
Ramsis Hanna ( 2015 / 12 / 9 - 16:33 )
الأستاذ السامى اللبيب تحية طيبة لك و شكراً جزيلاً على تقديرك الذى أعتز به

أولاً : أقدم شديد أسفى و إعتذارى لتأخرى فى الرد على تعليقك لظروف خارجة عن إرادتى هذه الأيام فتعوقنى عن أن أوفى بإلتزامى بالردود على أى تعليقات أو مداخلات.

ثانياً: إذا كان هناك شيئ يستحق التقدير فى هذا المقال فالفضل كل الفضل يرجع الى أدبياتك و كتاباتك التى تثير العقل و تحفزه على التفكير فكانت النتيجة هى محاولة البحث للننصف – و أكرر لننصف – مصدرى النصوص الدينية و نحاول الكشف عن بواعثهم النفسية التى لا يد لهم فيها و التى تكمن وراءها التناقضات المربكة و حالات النسيان التى أطلقت أنت عليها حالات الألزهايمر فى محاولة لتخليص العقل البشرى من ربقة الأستعباد فى محراب المقدس.

ثالثاً: إن قرأة أدبياتك و مقالاتك كغذاء فكرى و عقلى تبعث الأمل فى النفس فى مستقبل أفضل حيث يرى العقل باباً مفتوحاً لتحرره و عودته الى طبيعته المنطلقة الأولى بعد أن أوصدت النصوص الدينية أمامه كل الأبواب للتعايش السلمى و أقامت فيه متاريس الحقد و الكراهية التى تصده عن قبول الاَخر فوجد ملاذه فى التراجع القهقرى و تغيبه عن الواقع.

دمتم بخير و سلام.

اخر الافلام

.. #الأوروبيون يستفزون #بوتين.. فكيف سيرد وأين قد يدور النزال ا


.. اجتياح إسرائيل لرفح... -المعركة الفاصلة- ضد حماس في غزة أم م




.. ما دلالة ظهور الناطق باسم كتائب القسام في اليوم 200 للحرب ال


.. شبكات | استخراج طفلة من رحم والدتها بعد استشهادها بغارة إسرا




.. ماذا تعنى تقنية الاستمطار؟ وما علاقتها بالأمطار التي أغرقت ا