الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الكأسِ إلى الحبسِ ودبيب القمل في الرأسِ

يحيى غازي الأميري

2015 / 12 / 12
الادب والفن


(1)
نظرَ إلى ساعتهِ، وبسرعةٍ
على غيرِ عادتهِ، أرتشفَ الكأسَ الأخير
من نصفِ قنينةِ العرقِ، التي دفعَ ثمنها للنادل،
وهو يبتسمُ بفرحٍ ومرحٍ وانشراح،
لإكمالهِ تخطيط َلوحته الأميرة العارية.
صب نظراته على لوحته العارية
وبنشوةِ دبيبِ الخمرِ بالرأس
تنهّد وانفرجت أساريرُ وجههِ،
وهو يُبرزُ بعناية ٍودقةٍ واضحةٍ رسمِ
الحلمتين ِالنافرتينِ
على النهدينِ الناهدين؛ فتبدوان كرمانتين ناضجتين.
تأبطَ جريدته ُودفترَ الرسم والرواية
التي اشتراها عصر هذا اليوم
(شرقْ المتوسط) * الرواية التي

حدّثه أصحابُه عنها كثيراً،
بعد أن أتم قراءة رواية (القلعة الخامسة)**.
صوتُ امُّ كلثوم (هل رأى الحب سكارى مثلنا)
يهزُ أرجاءَ القاعة، وما أن هو
يهمُ بمغادرةِ الخمارة؛ فإذا
بقوةٍ مدججةٍ بالسلاحِ تقتحمُ الحانةَ، وتنتشرُ على عجلٍ
في جميع ِأرجاء المكان.
تسمّر(سمير) في جلسته،
لم يستطع تمّيزَ أصواتِ التحذيرات،
التي اختلطتْ مع الضوضاءِ وصوت الغناء الصادح،
مسحت عيناه المكان بتمهّل لكنه
لم يتمكنْ من إحصاءِ أعداد القوات المداهمة.
وأحسَّ بأن
أحدَهم يُمسكُ به من معصمهِ بقوة،
ويهمسُ بأذنهِ: لا تتحركْ... اجلس في مكانك ولا تتحرك. وسمع
الشرطي الذي يقبضُ على معصمه
منادياً: سيدي عثرنا عليه.
يتقدم الضابطُ نحوه بلمحةِ بصر
يُحدّق به
وبصوتٍ مبحوحٍ وعينين يتطايرُ منهما الشرر
يصرخُ بوجهه:
أخيرا ً وقعتَ في قبضتِنا، وفي نفس الوقت
يضعُ قيدَ الحديد بمعصميه
اقتادوه وهو يترنّحُ بينهم من الصّدمةِ والخمر.
(2)
في الحبسِ الانفرادي
ذاقَ
أَصنافاً مريرةً
من الذُّلِّ والتَّعذيب، والرَّكلِ والجلد
والعديد من الأساليبِ المبتكرة بسياسة المساومة
بين الترغيبِ والتَّرهيب والوعيد، لكن
لم تطاوعه نفسُه أن يجمعَ {نعم ولا} في وقتٍ واحد.
يقول سمير:
(كان امتحان الامتهان والذُّل عسيراً؛ فلقد
رفضت التواطؤ على نفسي)
(3)
بعد أربعةِ أشهرٍ
من معاناةِ الذُّلِّ في الحبس
اُقتيد سمير
مُهاناً كسيراً أسيراً بتهمة لم يعرفها،
ألبسوا قدميّهِ خُفّين
وساروا به
معصوبَ العينين،
مُكبّـل المِعصمين،
خائرَ النَّفس والعزيمة
تلاحقه بالهمسِ تارةً وبالزجر ثانية
إرشاداتُ وتحذيراتُ السّجانين المفتولي العضلات ـ وكثيراً ما تسائل - (كيف يتم اختيار مثل هؤلاءِ الغلاظ) وانتبه وهو يسمع:
قِف مكانك، لا تتلم
فتحوا عينيه المعصوبتين
صعق، وأرتعدَ بدنه، وزاد وجيفُ*** قلبه، بل كاد ينخلع
وهو يرى
أمامه
خمسةَ رؤوسٍ منتفخةِ الأوداجِ تحملقُ به
وهي تجلسُ بأجسامها البدينة المكتنزةَ محشورةً
على كراسٍ حمراءَ مذهّبةٍ وثيرة
فوق منصةٍ عاليةٍ وخلفهم لوحةٌ مذهّبة مُعلقة
كُتبَ عليها بخطٍّ كوفيٍّ مزخرف
(العدلُ أساسُ المُلك)
وفوقها صورة ٌ بما يعرف (ميزان العدالة)
دارت عيناهُ بسرعةٍ في الصّالة الواسعةِ الفاخرة
صورةُ رئيس الدولةِ بحجمٍ كبير، ثبُتت فوقَ الرّؤوسِ الخمسة،
تحيطها هالة من الأضواءِ، وهي تتصدر القاعة.
مجاميعٌ من
الحرّاسِ ببنادقَ
تصوّب فوهاتها ونظراتهم اليه
تسمّرت عيناه
على قدميه اللتين كانتا عاريتين قبل قليل، وهي تقف
مرتجفةٍ
فوق النعلين
على البلاط المرمري
الأبيض
ارتعد بدنُه وهو يتنفسُ رائحةً عفِنةً
تنبعثُ من ملابسه المهلهلةِ
ركّز كلَّ انتباهه الى الصوت القادم
من الوجه المنتفخِ الذي يتوسط الجلسة وفي نفس الوقت
يقلُّبُ ملفاً ضخماً أمامه، وبدأ يتحدث بصوتٍ راعدٍ:
ـــ لا ينفعنك
أيُّ انكار بعد الآن يا سمير!
لقد سجلّنا كلَّ كلمةٍ قلتها
وأنت تتأمل وتحلم وتهذي بزنزانتك.
وبصوتٍ أعلى نبرةٍ بدأ الرأسُ الكبيرُ يسأل:
لماذا الإصرارُ عـى تحريض النّـــــاس؟
لماذا الاستمرارُ بالسّير بطريقِ الفُسقِ والمُجون؟
ألم نحذرك مـــــــــــــــــن بثِّ الأفكارِ الهدامة!
ألم نقل لك منذ زمـــــــــــــــــــــــــــن كفــــى؟
توقّف الرأسُ الكبيرُ عن الكلام.
ومال بوجهه هامساً قليلاً نحو اليمين والشمال
صوتٌ جهوري
يهزُّ أركانّ القاعة ؛ ألا وهو
ـ صوت المدعي العام ـ وهو
يقرأ لائحة الاتهام
ويطالب بإنزالِ عقوبةِ الإعدام شنقاً حتى الموت ...
أُصبتُ بالدُّوارِ وضربَ الرعبُ قلبي بسياطٍ غير مرئيّة
وجفَّ فمي، وسمعتُ صريرَ أسناني تصطكُّ بشدةٍ
وبألمٍ شديدٍ يعصرُ معدتي
تاهت وتداخلت أفكاري والأصواتُ
القادمةُ من قاعة المحكمة
كان صوتُ الادعاء العام
ومحامي الدفاع
يتداخلُ ويمتزجُ برأسي مع
أصواتِ الشَّتائمِ والسِّباب ووجع السياط
ورعب لعبة المساومة وصرير باب الحبس الحديدي.
فيما بدأت سحابةُ أحزانٍ قاتمةٍ تدنو من وجهي
إعتدل الرَّأسُ الكبير بجِلسته
وصوب عينيه نحوي
وهو يُمسك بمطرقةٍ من خشبِ الصّاج اللماع
ويتحدث بصوت قوي قاسٍ:
أجب بكلمة واحدة :
{ هل أنت مذنبٌ أم بريء }؟
صوتُ الشرطي الذي
بجانبه من الشمال يهمس بأذنه
قلتُ لك: لا تتكلم!
لم يستطع سمير التركيز
فدبيب القملُ برأسه بدأ ينهش بعنف.
الرأس المنتفخ كرر السؤال عليه مرةً ثانية:
هل أنت مذنبٌ أم بريء؟
صوتُ الشرطي من اليمين يهمس بأذنه الأخرى أخرس لا تتكلم!
القمل ينهشُ برأسه وبدنه
يمنعه من الحديث والتركيز
الرأسُ الكبيرُ بعصبيةٍ وصوتٍ قويٍّ،
أسألكَ للمرةِ الأخيرة
وأن لم تتحدث سوف نضاعفُ عليك العقوبة
الشرطيان يهمسان بأذنيه
أخرس لا تتكلم.
تململ قليلاً بقفصه
الهمسُ يصلُ مرةً أخرى
اخرس لا تتكلم
الرأس المنتفخ الكبير يميلُ بوجهه
ذات اليمين وذاتَ الشمال
الصمتُ يُخّيمُ على القاعة، الوجوه المنتفخةُ متجهمةً
المطرقةُ تهوي بعنف وبضرباتٍ متتاليةٍ على الطاولة،
وبدأ الرأسُ المنتفخُ الكبيرُ يُحدّق بي وابتدأ يقرأ :
حكمت المحكمة حضورياً على المتهم
بالسجن عشر سنوات
صُدم (سمير) ولم يتمكن من
سماع بقية الاحكام
إذ تزاحمت وتداخلت برأسه الأصوات
والأفكار وتنقلات دبيب اسراب القمل.
فجأةً
خرج صوتٌ كالرعدِ الهادر
من جوف سمير
(هذا منتهى الجور والضيم، هذا كفرٌ وظلم)
ولسعةٌ كالصاعقةِ تضربُ بدن سمير
تُسقطه أرضاً، بين الأقدام
فتح عينيه لا شيء يظهر
غير جدران رماديّة اسمنتية تحيط به من كلِّ الجهات
لم يعرف كم مضى عليه وهو بهذه الزنزانة النتنة.
تحسس بحذر ملابسه الرطبة الممزقة التي تلتصق بجسمه.
رائحة بول تزكم انفه
وهي تنبعث بقوةٍ
من صفيحة ٍمعدنية بجواره بإحدى زوايا الزنزانة
وضوءٌ خافتٌ ينبعثُ من كوّة ٍصغيرةٍ
تتقاطعُ عليها قضيبانٌ من الحديد
في أعلى جدار الغرفة
فيما بدأت تلتقط أذناه صوتَ السَّجّان
وهو يهتفُ من خلف القضبان
(أفاق سمير)
هذيان مع الفجر
مالمو في 12-12-2015
هوامش توضيحية مكملة للنص
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* شرق المتوسط: رواية للكاتب (عبد الرحمن منيف) نشرت الطبعة الأولى منها عام (1975) تنتمي الرواية الى أدب السجون، تدور احداثها في السجون العربية ومعاناتها المريرة وكذلك تسلط الضوء على قسوة السلطة وعلى الواقع السياسي في الوطن العربي دون تحديد المكان والزمان.
** القلعة الخامسة: رواية تدور أحداثها داخل السجون والمعتقلات العراقية، صدرت الطبعة الأولى منها عام (1972) للكاتب (فاضل العزاوي).
*** وجيف: أسم مصدر وجَفَ، وجف َالقلبُ: خفَق وخاف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير