الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات في المعتقل ( 1-3 )

عبدالرحمن مطر
كاتب وروائي، شاعر من سوريا

(Abdulrahman Matar)

2015 / 12 / 15
أوراق كتبت في وعن السجن


هـريـــر الـذئـــــــاب



أربع درجات تحدّرْتُها بهدوء وصمت، ثم اندلَقَتْ روحي في الجحيم، ألفيتُ جسدي في بهو شحيح الضوء. أبواب الحديد الموصدة تحيط بي من كل جانب، وفي الزوايا ذئابٌ ملفعة بشبح العتمة. ما إن تلّبسني المشهد بوهلةٍ دالّة على الغياب المديد، حتى أحسستُ بدمي ينسحبُ من أوردتي، كمن يداري حدّة شمس فُجائيةٍ عن عينيه. أقبلتُ على الحدثِ راضياً بكل احتمالاته، لا مهرب من القبول، وإلا فإنني سوف أُنهك وأهزم من داخلي أنا.
هرير الذئاب
الضابط الذي يتدلى كرشه، متدحجراً بمشيته، كان هادئاً ينظر إليّ من باب مكتبه المشرع، يتفحصنيْ كجثّة هامدة لاصقة على المقعد الجلدي في الصالون، يُقلب أوراقاً بين يديه، ويقرأ. لم يطل انتظاري أكثر من نصف ساعة، حتى مرّ بي دون أن يحيد بصره عني بنظرة المنتشي، قال لي دون أن يتوقف بصوت خفيض، وهو يهزّ الأوراق : شئ يرفع الرأس.
وقعتُ في المصيدة. الكمبيوتر المحمول الذي أخذوه مني، يحتوي كل ما يساعدهم في إدانتي: كتاباتي، نصوصي بكل ما تتضمنه من أفكارٍ ورؤى، مؤرشفة ومرتبة بعناية. فهمت مآلي، لكنني لم أشعر بأي خوف. أعاد لي عنصر الأمن جهاز الهاتف بعد أن قال للضابط أنه لم يجد فيه شيئاً. الحقيقة كانت هناك صوراً لتحركات الجيش حول حمص، ومقطع لمظاهرة طيارة في المهاجرين، وأخرى في حرستا، وتسجيل حول مقتل أحد جنود النظام في عربين، على يد الجيش الحر. تنفستُ الصعداء..لكن الضابط عاد إلى وهو يتكئ على مقعدي، في مواجهتي من أعلى، وهو يسألني من أين أتيت، وماذا كنت أفعل في المنطقة، في ظل الإغلاق الذي يفرضه الأمن من حرستا الى القابون، إلى ساحة العباسيين.


الجمعة 6 حزيران
اشتعلت بلدات ريف دمشق بسبب المواجهات بين النظام والجيش الحر، فأغلقت الغوطة الشرقية، والاتوستراد الدولي، على إثر القذائف التي أُمطر بها مقر المخابرات الجوية في حرستا، فيما تعرضت محطة كهرباء القابون لقصف من جهة مجهولة، أشعلت نيران كثيفة دمرت المحطة.
على الرغم من الإغلاق التام كنتُ مصرّاً على التحدي، والخروج الى قلب دمشق، تحمّل السائق إلحاحي المشجع بالالتفاف حول القرى والبلدات، والطرق المغلقة والحواجز، مابين حرستا وعربين وزملكا وجوبر، وقذفني أخيراً في ساحة العباسيين، التي كانت خالية تماماً، سوى من بضعة مسلحين..في ذلك اليوم احتل الجيش الأسدي ملعب العباسيين وأطبق الأمن على مداخل الساحة بشكل نهائي.
في الأفق كانت سحائب الدخان الأسود الكثيف، تملأ السماء زاحفة نحوعرائش الياسمين.
في جعبتي/ المحمول، مقال جديد، وتقرير يتصل بسيرتي مع النظام، يمتد الى عام 1980، وكنت أزمع إرسالهما في بريد الكتروني هام. حين قصدت مقهى زرياب في جادة الشهبندر، من باب توما، أحسستُ بأجواء شاحبة تلّف المكان، وعلى غير العادة، لم يكن هناك انترنت، ووصلة الكهرباء، غير موجودة ! أشار لي النادل، أنه يمكنني الذهاب الى مقهى الانترنت القريب. لم أقبل بذلك، فكل الأجهزة هناك تخضع لرقابة مباشرة. جلست احتسي القهوة، وبدأت الكتابة حول رواية بيلان.
تصاعدت حدّة القلق في ضلوعي، بحثاً عن مكان آمن للأنترنت، قادتني قدماي نحو القصاع صعوداً، فالقصور والتجارة دون جدوى. هناك كانت الحواجز في كل شارع، وهويتي طوال الوقت كانت جاهزة وأنا أجيب على الأسئلة : الى أين، من أين، عملك .. كانت الحواجز تحدد لي خط سيري باتجاه شارع بغداد. وحين أردت الإنحراف يساراً، هتف بي صوت من بعيد: أنت.. تعال هنا. ترددتُ فعلا صوته آمراً فخطوتُ إليه:
- من أين أنت؟
- من سوريا، من هنا .. أجبتُ متهكماً. فبدأت الأسئلة: من الرقة، تسكن حرستا، كنتَ في باب توما، وذاهب الى شارع بغداد..مالذي تحمله في حقيبتك.. ثم رحب بي: أهلا وسهلا بالكاتب وبالصحافة كلها. قالها بارتياح، ثم نادى رئيس الحرس وسلّمه بطاقتي الشخصية.
- ولمّ أذهب معه.. ليفتشني هنا !
2
هواء تلك الليلة كان منعشاً ولطيفاً، أحسستُ بنسماته تلثم القمر، تتعطر بأشجار الصفصاف والصنوبر..ثم تمرّ بي وتمسح جفوني، وأنا أعبر البوابة الصغيرة الأخيرة الى داخل فرع الخطيب.
- تعال، أشار لي، فهبطنا معاً نحو قبو المبنى، عدة درجات تفضي الى باب حديدي، ضغط على الجرس، وهو يقول لهم أني ضيف جديد. كم هم لطفاء هؤلاء الساهرين على حماية البلاد من شعبها !
كنتُ في لحظة صفاءٍ نادر، ورائق الى درجةٍ لم أفوّت فيها الرد بكياسةٍ على الضابط، بعبارة ملؤها المرارة والاستخفاف:
- شكراً على لطف الضيافة. حققتْ رميتي مقتله، نظر إليّ ومضى نحو الأعلى، أما أنا فقد سحبتني يدٌ الى أسفل، درجة واحدة، أحسستُ أن لليد المشعرة أظافر ذئبٍ، قد تجمّل للحظة، قبل أن تدركني أنيابه التي رأيتها تقطر سمّاً زعافا.
طاولة في المدخل، وهنا توّجب أن أسلّم كل ما بحوزتي، وهنا خلعت ثيابي. تدخل أحدهم عابثاً: إبق في السروال، أنت ضيفنا، و نحن نحترم المثقفين. ثم مدّ يده ونزع ماتبقى على جسدي، وألحقها ببصقة.
بدأت أفقد الإحساس بما حولي، أسمع صراخاً متداخلاً مع العواء، هكذا تنبهتُ اإلى الأصوات الموجوعة دون أن أرى أحداً، التعذيب ترتفع شدته مع ارتفاع وتيرة السياط والشتائم. تبدو حفلة تعذيب جماعي، يجعل أعصابي متحفزة إلى أقصى درجات الاستسلام لما يمكن أن يحدث، علمتني التجارب السابقة أن أتماسك و أحتمل ما استطعت، أمام عطش السجان لحيونة غرائزه.
عناصر الأمن يدورون ببطئ في البهو الخامل، ومع حركتهم يدفعونني الى ركن خلف الباب، فأشعر بأنني أمام قطيع من الذئاب، يخيل لي همسهم بأنه هرير..رغاء يسيل معه اللعاب وهي تنظر إليّ بعيون محمرة، تستعد للإنقضاض على الفريسة الطازجة: أنا.
فتش العنصر حقيبتي على عجل، استخرج بعض الأوراق التي تضم مسودات لنصوص شعرية متفرقة، مقطوعات متناثرة، وحين قرأ بعضها، قال وهو يرميها على الطاولة: ستكتب شعراً أجمل من هذا هنا، البلد ينقصها أنتم يا خونة. ثم توالى سيل الشتائم وهو يدفعني عارياً أمامه، في ممر قصير بين الزنازين. كان يعوي وهو يصفني بما تجود به القريحة العفنة، رائحة فمه واللعاب المتطاير تذكرني بشتيمة هنري شاريير" شريحة اللحم النتنة ".
3
فتحَ باب الزنزانة ودفعني بقوة أوقعتني كومةَ جسدٍ لا شئ يقيه، ثم دعس على خاصرتي وأسنانه تصطك لؤماً، وأقفل الباب. نهضت وثيابي في حضني، أخذت أرتديها على مهل متكئاً الى الجدار، ثم اقتعدت الأرض. كانت الساعة – ربما -تقترب من العاشرة، وعيناي تجولان في الظلمة، تستكشفان أي ملمح لخطٍ أو حرف على الحائط، لمن سبقني إلى هذا المكان. بحثت عن شق في الباب أرى منه شيئاً، دون أن أفلح. بدأ التعب يتسرب الى داخلي، ويجهد أضلعي التي تضطرب فيها أحشائي، أبلل شفتي بلساني وأزدرد ريقي، كي أبدد العطش، فيما يتسرب البرد إلى أطرافي. جعلتُ حذائي وسادةً وتمددتُ لدقائق، لينفتح الباب على وسعه وأخرج الى بهو الذئاب الباهت.
كان عليّ أن أجيب على أسئلة روتينية، لبطاقة معلومات أساسية، والتقاط صورة شخصية بوضعيات ثلاث للوجه والرأس، وأخذ بصمات الأصابع العشر، هذا الأمر فعلته قبل نحو عشرين يوماً من انتفاضة السوريين في 15 آذار 2011، لأكثر من خمس مرات، وأنا اتنقل في جولة سياحية أمنية بين فروع وإدارات الأمن وسجونها في دمشق. أدلي بالمعلومات، ووجهي الى الجدار مغمض العينين، وانا أتحسب من صفعة على عنقي، أو نحرة تخلخل عظامي. سعدتُ جداً بالعودة الى الزنزانة، الجدران المغلقة الصماء أحنّ على روحي منهم، أريد التخلص من قلق ومفاجآت المثول في حضرة الذئاب المتحفزة للوثوب عليّ..وعلى أي من المعتقلين.
قرابة الثانية فجراً صحوت على صراخ قريب مني جداً، كان الصوت محترقاً، كنصلٍ يمرر لحن الدم على أوتار قلبي، وتملكني خوف ما، تسارع فيه دفق الدم في عروقي. فتح باب زنزاتي فجأة فانتفضتُ واقفاً، كأن دوري الآن في التعذيب قد أزف. أمرني بالتقدم نحو الباب، وأن أستدير، ليربط عصبة القماش على عيني، ويغلّ يديّ خلفاً، ثم صعد بي الدرجات الأربع، إلى غرفة التحقيق.
ثلاث ساعات من الاستجواب، لم يوجه لي فيها المحقق أي اتهام مباشر، سوى أننا كمثقفين سوريين خونة للبلد والناس..والنظام بالطبع، وأن كل المعارضة في كفّة واحدة، إرهابية مدعومة من صنّاع المؤامرة في الغرب المعادي، وكثير من هذا الكلام الذي لاقيمة له، سوى أنه فضاء لممارسة الاعتقال والتخويف والقهر. قال أني عميل للسعودية، لم أكن أعلم بذلك من قبل. أجبته بكل بساطة..وأردفت أن الجرائد السورية محرمة علينا. المحقق الذي ظل طوال الوقت هادئاً دون أن يشتمني، وهو يحاول إرشادي إلى جادة الصواب، لم يحتمل جرأتي في الرد، فغضب صائحاً:
- قم انقلع ياعرص.
وقفت، أمرني أن أوقع على المحضر، فطلبت قراءته أولاً. فحصلت على شتيمة
4
دسمة وجرني العنصر الى تحت. تحت صرت بين الأرجل يتلقى جسدى ماشاءت له الذئاب نهشاً وهي تملأ الفناء الصغير عواءً مديداً يتلاشى لشدته الضوء الشحيح في عيوني، وأنا لا أستطيع اتقاء أنيابهم حتى صرت في الزنزانة ثانية، والذئاب ترغي وتهمهم في البرية المظلمة البعيدة الموحشة، وفي جوفي ينمو الألم، مثل وردةٍ لا أشتهي غيابها. صرختُ من داخل حنجرتي الجافة، كان صوتي مبحوحاً، توالت تأوهاتي مع كل ضربة، أدركني قهر أثقل على روحي وأطبق على أنفاسي، تحدرت دمعتي حرة في مسيلها.
تحت..أقبَلتْ روحي على الورق، تدفع أصابعي للتشبث بالقلم، والتوقيع حيثما شاؤوا. لا أهمية لقراءتي، و يكاد الصباح أن يولد. أريد أن أرتاح، أن أغمض عيني ولو قليلاً، لكن لم أستطع النوم، فقد نٌقلتُ الى المحشر: المهجع 37 .
________________
كاتب من سوريا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزيرة تحصل على شهادات لأسيرات تعرضن لتعذيب الاحتلال.. ما ا


.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة




.. كلمة مندوب فلسطين في الأمم المتحدة عقب الفيتو الأميركي


.. -فيتو- أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة




.. عاجل.. مجلس الأمن الدولي يفشل في منح العضوية الكاملة لفلسطين