الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طيور بلا أجنحة ( 3 )

ناهده محمد علي

2015 / 12 / 19
الادب والفن


لاحظ خفر السواحل قرب إحدى القرى التركية قارباً صغيراً يتمايل في البحر العميق . خرج هذا القارب في صباح ماطر قبل أيام محملاً بالعوائل السورية المكونة معظمها من نساء وأطفال هاربين من نيران المقاتلين والذين لم يعلم الأهالي إتجاهاتهم الطائفية أو السياسية ولم يكن هذا هو ما يهم الأهالي بل كان ما يهمهم هو الليالي الماطرة بلا فحم وبلا تدفئة والأطفال الرضع الذين يموت البعض منهم بسبب عدم وجود طبيب في القرية ، فلقد هرب الجميع من النيران وأصبحت القرية بلا مدرسة أو مستوصف . لم يكن هناك ما يزرعه الأهالي أو يحصدونه بل كانوا يعتاشون على ما تبقى لديهم من الحنطة والشعير .
كان زيد هو أحد المحمولين في هذا القارب والذي سرح بنظره بعيداً متذكراً فرحه اليومي وهو يمشي في حقل أبيه إلى المدرسة ، ويوم كان يلعب سعيداً في بيت جيرانه والذي تعود أن يلعب فيه عصر كل يوم حتى أن سمع صوت إرتطام كوخه المجاور بالأرض وإشتعال النيران فيه ، إحترق والداه وأخته الرضيعة ، ولم ويعلم وقتها ماذا يفعل وهو في العاشرة من عمره غير أن يبقى في بيت جاره ، إنهمك الجميع بإطفاء النيران المشتعلة لكنه بقي متسمراً وكأنه قد فقد وعيه ، ثم وجد نفسه بعد أيام في هذا القارب بعيداً عن رائحة حقله المحترق وكوخه المشتعل ، ووجد نفسه في بلاد غريبة حيث قالو له إنه الخلاص من الموت والجوع وأنه لا عودة إلى الوراء إلا بالذكريات ، ولم يكن لزيد الكثير من الذكريات وهو لم يعد يرغب في سكب المزيد من الدموع ، بل صار منتظراً كما ينتظر الجميع . همس جاره إلى زوجته بقوله : إن المصير مجهول سنعرفه بعد ساعات حينما نصل إلى الملاجيء التركية ، وهناك سيتقرر بقاءنا أم لا .
سيق الجميع إلى الملجأ الكبير وأُدخلوا إلى إحدى الخيام ، وكانت خيمة خفيفة لا تقيهم من البرد والرياح الشديدة ، لكنها كانت تحتوي على مدفأة نفطية صغيرة ، وكانت هذه هي ما يحتاجون إليها . إنتظر الجميع موعد وجبة العشاء لأن الجوع كان قد عصر قلوبهم وبطونهم حتى جف ريقهم وخارت قواهم ، ثم سُمع جرص مطعم الملجأ والذي إصطف أمامه الجميع حيث يقوم بعض المسؤولين بتوزيع الطعام وأرغفة الخبز عليهم مع القليل من قناني الماء . لم يكن مذاق الطعام شهياً إلا أنه ملأ بطونهم فإستطاعوا النوم عميقاً حتى الصباح .
كان يمر الكثير من ممثلي المنظمات ورجال السياسة مع المصورين والذين كانوا يأتون للمخيم ليصوروا خدماته ، وقد أخذ الجميع يمدح الجهات المسؤولة وكرمها في ضيافتهم ، وحينما يعود البعض منهم إلى الخيام كانو يشتمون أصحاب البدلات والقمصان المكوية ويلعنون حظهم الذي أتى بهم إلى هنا . فكر زيد طويلاً وتمتم مع نفسه قائلاً : لِمَ لم يسألني أحد عن مأساتي التي مررت بها ، ولِمَ لم يلاحظوا الكثير من الأطفال المرضى والمتواجدين في الخيام ، ولِمَ لا نعود لدراستنا في هذا المخيم ، والكل هنا يظهر رضاه عن الخدمات المتوفرة لكنهم حينما يجتمعون حول المدافئ ليلاً يلعنون العرب وقادتهم وسياساتهم حيث لا أحد يبالي بهم . لم يكن زيد يهتم بأحاديث السياسة لكنه يحب سماع الذكريات الجميلة حول مواسم الزرع والحصاد وحفلات الزواج التي تأتي معها ، فيسرح بخياله بعيداً إلى حيث خبز أمه الحار وحلوى العيد الساخنة وأسنان أخته الرضيعة التي بدأت تظهر كالؤلؤء الأبيض . قطعت خياله وجوه العجائز المتكئات على بعضهن في طريقهن للعودة إلى خيمهن بعد سمر مسائي حزين ودافيء .
كان زيد تلميذاً مجتهداً ، وكانت أمه تحلم بأنه سيكون يوماً ما طبيباً بارعاً يخدم أبناء قريته ، لكن حلم أبيه الكبير كان أن يكبر زيد ويستلم زراعة الحقل مكانه ، وكان يفضل حلم أمه لشغفه بالدراسة . لم يعد الآن حائراً بين حلم أمه وأبيه فلا دراسة ولا زراعة وهو ينتظر مصيراً مجهولاً وقد يكون جامع قمامة في إحدى الدول الأوربية أو ربما سيصبح بائعاً متجولاً في سيارة ( الآيسكريم ) كما رأى في إحدى الأفلام الأجنبية ، لكن عليه الآن أن يصبر وينتظر وربما سيكون الإنتظار طويلاً . أحس زيد ببرد شديد في قدميه ، كانت جواربه مثقبة وحذاؤه قديم لا يقيه البرد .
جاء ذات يوم إلى المخيم مندوب أحد الأغنياء الأوربيين ليقوم بتبني عدد من الأطفال ، لم يقع الإختيار على زيد ولم يشعر هو بالأسى لأنه لا يريد الإبتعاد عن أصدقائه ، ثم أنه لا يعلم ما الذي ينتظره مع هؤلاء الأثرياء ، فربما أرادوه خادماً أو عبداً لذا هو مرتاح لبقائه في خيمته الباردة ، فهو ينام متى ما يشاء ويستيقظ حينما يشاء ويسرح بتفكيره ساعات إلى بلاد لا تُشَاهد فيها البيوت وهي تحترق ويلعب بها الأطفال فرحين بحدائق مزهرة ، وكما قال جاره ذات مرة أن تلك البلاد تكثر فيها ملاعب الأطفال وتكثر في هذه الملاعب الحيوانات الجميلة والألعاب المسلية . قطعت أحلامه رائحة الطعام المنبعثة من خيمة المطعم ، لاحظ زيد أن هناك شاباً يطيل النظر إلى فتاة محددة ضمن الأسراب التي تكاثرت على تلك الخيمة ، لم يهتم زيد بذلك بل أراد فقط أن يملأ بطنه وحسب ، لكزه أحد أصدقائه ضاحكاً سيحدث عرس هنا عن قريب ، لم يبال زيد بالأمر بل ركز نظره على نوع الطعام الذي لم يعجبه كثيراً ، أخذ صحنه ورغيفه وهرول إلى خيمته .
جاء ذات صباح نائب لإحدى المنظمات ، قالوا له بأنها منظمة عالمية تبحث عن بعض الأطفال المتميزين لتأخذهم في رعاية هذه المنظمة ، وقد طلب المندوب أن يبعثون له بهؤلاء الأطفال على أن يكونوا صغار السن ، لم يكن زيد صغيراً جداً لكنه قرر أن يذهب معهم ، كان يعرف القليل من الإنكليزية ، سأله الرجل ماذا تريد أن تصبح في المستقبل قال : سأصبح كما قالت أمي طبيباً ، ثم قال زيد هل لي أن أسألك سؤالاً واحداً ، فضحك الرجل وقال إسأل ، قال : هل في بلدك حرب وطائرات تُسقط نيراناً حارقة ، أجاب الرجل طبعاً لا ، قال زيد : في المخيم الكثير من العجائز والأطفال المرضى لِمَ لا تأخذهم منظمتك وتأويهم فالبرد هنا شديد وهم أولى مني ، وقد يموت البعض منهم في أي ساعة . صوَب المندوب نظره طويلاً إلى زيد وقال : بل سنأخذك أنت ، فأنت تثير الإنتباه فعلاً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع