الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن النصرة والقاعدة وداعش والأصولية

سلامة كيلة

2015 / 12 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هل مشكلة جبهة النصرة ارتباطها بتنظيم القاعدة؟ ربما شكلاً نعم، حيث يمكن ألا تعتبر تنظيماً إرهابياً كونها فرعا لتنظيم إرهابي. لكن، هذه مسألة شكلية جداً، وإذا كانت تفيد في تجنيب ضرب بعض المناطق السورية التي توجد فيها (على الرغم من ضعف هذه الاحتمالية)، لكنها لا تفيد في الدور السلبي، والسيئ، و"المخرِّب" لها في الواقع.
رفض أمير جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني، في مقابلة معه أخيراً، الانفصال عن تنظيم القاعدة، لكنه أشار إلى أنه، حتى وإن تم ذلك، سوف تمارس جبهة النصرة ما تمارسه الآن، أي سوف تطبق أفكارها التي حملها تنظيم القاعدة وتحملها هي. ليظهر أن المسألة لا تتعلق بالسبب "التكتيكي"، أي تجاوز الاتهام بالإرهاب، بل تتعلق بأيديولوجية مغرقة في الأصولية والتعصب والعنف. وإذا كان السبب التكتيكي يخص الدول التي "تخوض حرباً على الإرهاب"، فإن ما هو خطر علينا كلية المشروع هذا.
وتتمثل المشكلة الجوهرية التي تخص الثورة السورية، والصراع في سورية، في المشروع الأصولي الذي تحمله، كما داعش وتنظيمات أخرى، فجبهة النصرة، وهي تقاتل النظام، "تقضم" كتائب الجيش الحرّ، وتفرض سلطة قروسطية على الشعب، أي تطبق عليه "شرعاً" ينتمي شكلاً للنص القرآني، لكنه، في الواقع، لا علاقة له بالواقع ولا بالنص القرآني، حيث يطبّق بشكل فظ، وانطلاقاً من فهم شكلي. هذه المسألة التي فرضت التناقض مع الشعب في مناطق كثيرة سيطرت عليها، حيث أن الشكلية التي تحكم النظر إلى الدين لا تتوافق مع الوعي المجتمعي. لكن الأمر الأساس يتمثل في أن ثورة الشعب طالبت بالحرية، وليس بالسلطة الدينية، وكان طموح قطاع كبير من الشعب أن يحقق مطالب لا تفهم بها جبهة النصرة، وكل المجموعات الأصولية (أو "الجهادية")، فالبطالة والفقر والتهميش ليست في قاموس هذا التنظيم وكل هذه المجموعات، بل ما يريده هو "فرض شرع الله" الذي يبتسر في أحكام بسيطة وسطحية، وتمس، في الأساس، الأخلاق وليس الاقتصاد أو السياسة. ولهذا، "مهمة" هذه المجموعات "تقويم أخلاق البشر"، انطلاقاً من فهم مسطّح للدين، حيث ليس المهم كيف يعيش، بل المهم كيف يطبّق هذا الفهم المسطّح.
يمكن القول إن هدف هذه المجموعات "إقامة الدين في مالطة"، كما يقول المثل، الدين الذي يعتقدون أنهم يعرفونه، وجرى ابتساره إلى بعض الأحكام التي تفرض بالعنف، بغرض ضبط المجتمع على أساسها. ويتصادم هذا المنظور حتى مع الوعي الديني في المجتمع، وهو ميل "يميني" متطرف، بات المجتمع (حتى المتدين منه) يرفضه، لأنه يضيّق حتى من المنظور الأخلاقي.
لكن، يجب أن نلاحظ التناقض بين هذا المنظور، الذي هو غير سياسي، ولا يعتبر أن الصراع
"ليس من الممكن اعتبار كل المجموعات الإسلامية والجهادية من الثورة، ويجب كشف دورها المضرّ، وحتى المدمّر أحياناً، وإنْ يقاتل بعضها النظام" ضد النظام هدفه المركزي، ويركّز على "الأسلمة" فقط، التناقض مع مطالب الثورة وغياب الفهم لمجمل المشكلات التي يعيشها الشعب، والتي فرضت انفجار الثورة، فقد واجه الشعب استبداد النظام وشموليته، من أجل فرض الحرية والديمقراطية التي تجعل الشعب فاعلاً سياسياً، كونه يشكّل مجتمعاً من المواطنين، وليس رعايا. وهذا يتناقض مع إخضاع الشعب لـ "قانون" مطلق، يختص بالأخلاق (باتت من موروثات الماضي، وليست حاجة راهنة). ويكون هدف السلطة هو الاستبدادية المطلقة، والأكثر شمولية من النظام الذي يريد الشعب إسقاطه، حيث يطاول تدخل السلطة خصوصيات الشعب، وليس انتماءاته السياسية فقط. والمنظور الأخلاقي هو تدخل في هذه الخصوصيات التي استطاع الشعب "تحريرها" من تحكُّم السلطة.
إذن، طابع السلطة التي تطرحها هذه المجموعات استبدادي شمولي، بشكل أشدّ مما تمرَّد الشعب عليه. ويمارس ذلك كله باسم الله، وباسم القرآن، لكنه يعيد أسوأ ما أنتجه التاريخ العربي الإسلامي، من الإمام الغزالي إلى ابن تيمية وابن قيّم الجوزية إلى محمد بن عبد الوهاب. وهو التأويل الذي واكب الانهيار المجتمعي، وبرَّر وجوده. وهو ما يعني انكفاءة كبيرة إلى الماضي، تفرض تدمير بنى مجتمعية، وقتل وتفكيك، والوصول إلى حالة من الدمار الاقتصادي. وهنا، نلمس المسألة الأهم في تناقض منظور هذه المجموعات مع الواقع، وخصوصاً مع مطالب الشعب، حيث كانت مسائل البطالة والفقر والتهميش، وانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية، هي التي دفعته إلى الثورة، لأنه يريد حق العمل والأجر الذي يسمح له بعيش كريم، وبتحسين التعليم والصحة والبنية التحتية. وكل هذه المسائل هي خارج "المنظومة الذهنية" لهذه المجموعات، وليست مطروحة على أجندتها، ولا تعرف بها أصلاً، لأن منظورها "الفقهي" (الذي ينطلق من الوهابية خصوصاً) لا يستطيع فهم مجمل هذه المسائل. بالضبط، لأنه نشأ في عصور سابقة (قروسطية)، وتمحور حول الأخلاق، وظلّ ينهل من الفقه (وهو تفسير ماضوي وأحكام ماضوية). ولهذا، هو ينطلق من منظور مسبق، لا علاقة له بالواقع، ويريد فرض هذا المنظور بالعنف على واقع تجاوز كل مكوناته.
بالتالي، تتناقض هذه المجموعات مع مطالب الشعب الاقتصادية والمجتمعية، وليست مهتمة بها أصلاً. بالضبط، لأنها تعيش زمناً آخر. زمن يقوم على أوهام مستمدة من الماضي، وعلى فتاوى مسخّرة، لكي تبرر الممارسة ضد الشعب، وهذا هو ما يمكن أن تفعله في كل الأحوال.
يفترض تحقيق مطالب الشعب النظر السياسي والفهم المجتمعي، وليس لدى هذه المجموعات ما يساعد على ذلك، بالضبط لأنها تنطلق من منظور فقهي، لا يفعل سوى "تطبيق" الفتاوى التي فسّرت بعض الآيات، أو "التزمت" بعض النصوص. وكلها آتية من الماضي، ولا تمتُّ بصلة إلى الراهن. ولهذا، هي وإنْ لم تكن مخترقة، وتوظّف لخدمة سياسات معينة، لا تفعل سوى "التخريب" في الواقع، لأنها تعيد إلى مسائل بعيدة عن الواقع، وتحكم باسم قداسةٍ، جرى اختزالها في قيم تجاوزها الزمن.
لهذا، حين النظر إلى جبهة النصرة أو داعش، أو حتى جيش الإسلام وأحرار الشام، وكل مجموعة تريد "تطبيق" الشريعة وإقامة الخلافة (أو الدولة الإسلامية)، يجب أن نلحظ أنها تدعو إلى ما يفرض الشدّ إلى الماضي، وليس التقدم إلى المستقبل. وهي، في هذه الحالة، رجعية ومعادية للتطور، ومن ثم تعادي كل ثورة السوريين الذين أرادوا الحرية والديمقراطية، كما أرادوا فرص العمل والأجر الذي يسمح بعيش كريم، والحصول على تعليم علمي متطور، ومؤسسات صحية تضمن حياتهم، وبنية تحتية تحقق الخدمات عالية المستوى لهم. الشعب يريد التقدم والتطور، وهذه المجموعات تشدّ إلى الخلف، وتعيد إلى قيم باتت من الماضي.
بالتالي، ليس من الممكن اعتبار أن كل هذه المجموعات من الثورة، ويجب كشف دورها المضرّ، وحتى المدمّر أحياناً، وإنْ يقاتل بعضها النظام، لأن هذا لا يبرّر الموافقة عليها، ودعمها، وقبول ما تطرح، بل يجب فضح كل منظورها وما تهدف إليه، وخوض صراع أيديولوجي ضدها، من أجل هزيمتها أيديولوجياً لمصلحة تكريس مطالب الشعب، وتوضيح الطريق الذي يوصل إليها. مع داعش وجبهة النصرة يجب أن يكون الصراع مسلحاً، لأنها تفرض الصراع بالأساس. لكن، مع المجموعات الأخرى يجب خوض الصراع الشعبي والصراع الأيديولوجي (الفكري) من أجل كشف ما تهدف إليه، وتوضيح خطر ذلك على مطالب الشعب، وعلى الأهداف العامة التي طرحتها الثورة، إلا إذا قاتلت الكتائب المسلحة، أو عملت على فرض نظام أيديولوجي على الشعب.
"الأصولية" تجعل كل تنظيماتها خارج الثورة، لأن أهدافها مناقضة لأهداف الثورة، كما أشرت. وإنْ يقاتل بعضها النظام، أو يستخدم أداة خارجية، فيقاتل النظام آناً، ويهدأ آناً آخر. فهي ليست مع الحرية والديمقراطية (وحركة أحرار الشام ترفع يافطة: الديمقراطية شرك)، بل هي مضادة لهما، حيث تعمل على فرض قيم وأخلاق وسياسة بالقوة، انطلاقاً من أنها "تطبق شرع الله". وهي لا تملك رؤية للاقتصاد الذي يحقق مطالب الشعب، على العكس، الاقتصاد الريعي القائم على النهب هو ما تعرفه. ولا يكفي، هنا، القول إنها تقاتل النظام، بالضبط فهي تقاتله من أجل مشروعها الضيق، وليس من أجل مطالب الشعب. وهي تؤسس لاستبدادية أشمل واقتصاد أسوأ. فالشعب لم يرد إسقاط النظام، لأنه لا يحب "الرئيس"، بل لأن الأخير استبد طويلاً، ونهب الاقتصاد، فأفقر أغلبية الشعب.
قتال داعش والنصرة ضرورة، والصراع ضد المجموعات الأخرى ضرورة كذلك. وكل الأمر لا علاقة له بالدين، بل بأوهام فئات مهمشة، وتدخلات من دول لاستغلال الدين في خدمة مصالحها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س