الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجديد الإنتاج البسيط عند كينيه وماركس

محمد عادل زكي

2016 / 1 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مقدمة
(1)
إن مكتسبات الحضارة هي، في التحليل الأخير، رهن بتزايد إنتاجية العمل. فما دام إنتاج فئة من الناس يكفي بالكاد لاستمرار حياة المنتجين، وما دام ليس ثمة فائض يفوق هذا الناتج الضروري، فليس ثمة إمكان لتقسيم العمل، أي لظهور الحرفيين والفنانين أو العلماء. ومن باب أولى، فليس ثمة إمكان لنمو تقنيات تتطلب مثل هذا التخصص(1)
إن أي نمو في إنتاجية العمل يفوق هذا المستوى الأدنى يخلق إمكانية ظهور فائض، وما أن يوجد فائض من المنتجات، وما أن ينتج الإنسان أكثر مما يتطلبه استمرار وجوده، حتى يمكن أن يظهر إمكان الصراع من أجل توزيع هذا الفائض. وبدءا من هذه اللحظة لا يعود مجموع العمل في الجماعة عملاً موجهاً بالضرورة وحصراً لضمان استمرار المنتجين. إن جزءا من هذا العمل يمكن أن يوجه إلى تحرير جزء آخر من المجتمع من ضرورة العمل ليحافظ على استمراره. وعندما يتحقق هذا الإمكان يمكن لجزء من المجتمع أن يكوّن طبقة مسيطرة، تتصف بأنها متحررة من ضرورة العمل لتحافظ على استمرارها
ومنذ ذلك الحين يمكن رد عمل المنتجين إلى جزئين، جزء من هذا العمل يتم كالسابق ليحافظ المنتجون على استمرارهم، ونطلق عليه العمل الضروري، ويستخدم الجزء الآخر من العمل لتأمين استمرار الطبقة الحاكمة، فنسميه العمل الزائد. وهذا العمل الزائد هو ما اصطلح على تسميته بفائض القيمة. وهذا الفائض هو جزء من الناتج الاجتماعي، تستحوذ عليه الطبقة المسيطرة، رغم كونه نتاج طبقة المنتجين، بأي شكل كان، سواء بشكل محاصيل طبيعية، أو بشكل سلع معدة للبيع، أو بشكل نقدي.
وإن كل ثمرة العمل البشري ينبغي أن تقترن عادة بمنفعة، أي أن تكون قادرة على إشباع حاجة بشرية. ويمكن القول إذن إن لكل ثمرة من ثمار العمل الإنساني قيمة استعمال. على أن اصطلاح “قيمة الاستعمال” سيستخدم بمدلولين مختلفين. فنتحدث عن قيمة استعمال سلعة ما، كما سنتحدث عن قيم استعمال، فنقول إن في هذا المجتمع أو ذاك لا تنتج إلاّ قيم استعمال، أي منتجات معدة للاستهلاك المباشر من قبل الذين يتملكونها (من منتجين أو طبقة حاكمة). بيد أن ثمرة العمل البشري يمكن أن يكون لها، فضلا عن قيمة الاستعمال هذه، قيمة أخرى، قيمة تبادل، إذ يمكن أن تُنتج لا بقصد الاستهلاك الفوري من قبل المنتجين أو الطبقات المالكة، بل بقصد التبادل في السوق، بقصد البيع. ولا تكوّن كتلة المنتجات المعدة للبيع إنتاجا له قيم استعمال وحسب، بل إنتاجا لسلع.(2)
فالسلعة هي إذاً ناتج لم يخلق بهدف استهلاكه مباشرة، بل هدف تبادله في السوق. وكل سلعة ينبغي بالتالي أن يكون لها قيمة استعمال وقيمة تبادل في آن واحد.
والسلعة يتعين أن يكون لها قيمة استعمال، إذ لو لم يتوافر لها ذلك، لما وجد شخص يشتريها، إذ لا تشترى سلعة إلاّ بقصد استهلاكها في النهاية، بقصد إشباع حاجة ما عن طريق هذا الشراء. وإذا وجدت سلعة ما ليس لها قيمة استعمال بالنسبة لأي شخص كان فمعنى ذلك أنها غير قابلة للبيع. لقد أنتجت عبثا، وليس لها قيمة في التبادل بالذات لأنها غير ذات قيمة في الاستعمال. وبالمقابل، ليس لكل سلعة، ذات قيمة استعمال، قيمة في التبادل. وهي لا تملك قيمة في التبادل أصلا إلاّ بقدر ما تكون منتجة في مجتمع يقوم على التبادل، في مجتمع يمارس التبادل عموما.
وما أن تقوم مبادلات منتظمة بين الفلاحين والحرفيين منتجي المنسوجات حتى تنشأ تكافؤات منتظمة أيضا. مثال ذلك يتم تبادل، ولنقل متراً من الجوخ مقابل خمسة كلوات من السمن، لا مقابل 50 كيلو. ومن الواضح تماماً أن الفلاحين يعرفون، إنطلاقا من تجربتهم الخاصة، وقت العمل التقريبي اللازم لإنتاج كمية معينة من الجوخ. ولو لم يكن ثمة تكافؤ دقيق إلى حد ما بين زمن العمل اللازم لإنتاج كمية الجوخ التي يجري تبادلها مقابل كمية معينة من السمن، لتعدل تقسيم العمل بشكل فوري. ولو كان الفلاح يجد أن إنتاج الجوخ هو أكثر فائدة له من إنتاج السمن لغيّر فعليا إنتاجه، نظرا لأننا ما نزال في مطلع تقسيم جذري للعمل، وأن الحدود ما تزال مائعة بين التقنيات المختلفة، وإن الانتقال من نشاط اقتصادي إلى آخر ما يزال ممكنا، خاصة إذا كان ينتج فوائد مادية ظاهرة تماما. وعندما ندرك بدقة أن إنتاج السلع وتبادلها ينتظمان ويتعممان في مجتمع كان يقوم على اقتصاد مبني على زمن العمل، على محاسبة مبنية على ساعات العمل، نفهم لماذا بني تبادل السلع، بحكم نشأته وطبيعته الخاصة، على هذه المحاسبة القائمة على ساعات العمل ذاتها وأن القاعدة العامة التي تتبع هي إذن التالية: إن قيمة تبادل سلعة ما تتحدد بكمية العمل اللازم لإنتاجها، وتقاس كمية العمل هذه بمدة العمل التي تم إنتاج السلع خلالها.(3)
إن مجموع السلع المنتجة في بلد ما في فترة معينة إنما تم إنتاجها بقصد إشباع حاجات مجموع أعضاء هذا المجتمع. ذلك أن بضاعة لا تسد حاجات أي شخص هي أساسا لا تقبل البيع، أي لا تكون لها أية قيمة في التبادل، إنها لا تكون سلعة بل مجرد حصيلة أهواء المنتج، أو اللعب بلا رغبة في الكسب. ومن جهة أخرى فإن مجموع القوة الشرائية الموجودة في مجتمع معين وزمن معين والمعدة للإنفاق في السوق، أي غير المكتنزة، ينبغي أن توجه لشراء مجموع هذه السلع المنتجة، إذا أريد قيام توازن اقتصادي في المجتمع. هذا التوازن يستلزم إذن أن يوزع مجموع الإنتاج الإجتماعي، مجموع القوى الإنتاجية المتاحة في المجتمع، أي مجموع ساعات العمل المتوافرة لهذا المجتمع، أن يوزع مجموعها بين مختلف الفروع الصناعية على أساس نسبي، على نحو ما يقوم به المستهلكون حين يوزعون قوتهم الشرائية بين مختلف الحاجات التي يمكنهم إشباعها. وعندما لا يتطابق توزيع القوى الإنتاجية مع توزيع الحاجات هذا فإن التوازن الإقتصادي يختل، ويظهر فرط الإنتاج ونقص الإنتاج جنباً إلى جنب.
ولأن نظرية القيمة تعد حجر الزاوية في علم الاقتصاد السياسي، ولا بد من ان يتسلح بها الباحث في هذا العلم، فسوف نقوم بدراسة هذه النظرية من خلال ثلاثة فصول، الفصل الأول ينشغل بعناصر الطرح المنهجي لإشكالية القيمة بغرض الوصول إلى الثمن. والفصل الثاني ينشغل بعمل بحث تطبيقي، بحيث نرى كيف درسها كارل ماركس بوصف أبحاثه هي قيمة نضج الاقتصاد السياسي. وفي الفصل الثالث: نصل، ابتداءً من نظرية القيمة، إلى نماذج تجدد الإنتاج عند ماركس، مقارنة بما كان عليه تصور فرنسوا كينيه.
الفصل الأول: الطرح المنهجي لإشكالية القيمة .
الفصل الثاني: القيمة في فكر كارل ماركس.
الفصل الثالث: نماذج تجدد الإنتاج الاجتماعي عند ماركس وفرنسوا كينيه.













الفصل الأول
الطرح المنهجي لإشكالية القيمة(4)
(1)
فى السوق تظهر الأثمان كوحدات نقدية يتم التخلى عنها من أجل شراء السلع. وفى الأسواق أيضاً تبرز أهم خصائص الثمن وهى اللحظية، أى التأرجح بين حد أعلى وحد أدنى. والمهم هنا هو التعرف على محددات الثمن نفسه. أى: على أى أساس تتحدد أثمان السلع. وهو ما يقتضى التعرف على ماهية الثمن، طبيعته؟ ونشأته التاريخية؟ كيف يتحدد بالنسبة لسلعة معينة؟ وإذا ما تحدد بالنسبة لها، هل يتغير عبر الزمن؟ وفى أى اتجاه؟ إذا ما أريد البحث عن تفسير لظاهرة الأثمان فهل يسعى الباحث إلى تفسير الثمن الذى يظهر فى السوق فى واقع الحياة الاقتصادية أم إلى تفسير ثمن مثالى؟ واضح أنه إذا أريد لمعرفتنا أن تكون علمية وجب أن نركز على تفسير الثمن كما يظهر فى السوق.
فى السوق: تكشف الملاحظة الأولى أن التعامل فى السوق يتم فى لحظة معينة وفقاً لثمن يعكس حالة السوق فى هذه اللحظة. وتتم المبادلات على أساسه. هذا الثمن اصطلح على تسميته بثمن السوق. وعلى الباحث أن يتعدى اللحظة ويمد الملاحظة إلى أبعاد أخرى لوجود الظاهرة. أى ملاحظة الثمن الذى تجرى به التعاملات فى السوق عبر لحظات مختلفة من اليوم أو عبر أيام مختلفة.الملاحظة الأطول فى المدى الزمنى تكشف أن ثمن السوق قد يتغير من لحظة لأخرى أو من يوم لآخر فى السوق.
أى أن ثمن السوق لحظى يعكس التقلبات التى تحدث فى السوق. ولكن هذه التقلبات تدور حول ثمن طبيعى فى المدى الطويل، قد تتطابق معه أو تبعد عنه. ويتعين عدم الخلط بين العوامل التى تجعل ثمن السوق يتقلب فى الزمن القصير حول الثمن الذى اصطلح على تسميته بالثمن الطبيعى والعوامل التى تحدد هذا الثمن الأخير.
(2)
والسؤال الأن الذى يبرز على مستوى كيفية طرح مشكلة الثمن هو إذا أردنا تفسير كيفية تحديد الثمن، أى ثمن السوق، وإنما ابتداء من الثمن الطبيعى، هل يكتفى فى البحث عن ذلك بالبقاء فى حقل التداول، أى بالبحث فى دائرة السوق، عن عوامل تحديد هذا الثمن؟ أم أنه لا بد من تخطى حقل التداول إلى حقل الإنتاج؟
فى محاولات تفسير ظاهرة الثمن فى الاقتصاد الرأسمالى اختلف المفكرون فى تصورهم للمشكلة، أى اختلفوا فى كيفية طرحها بقصد الوصول إلى تفسير نظرى لها:
فالاتجاه الأول، رأى أن الثمن يتكون فى حقل التداول، ولذلك أرادوا تفسيره ابتداء من ذلك، كى يستنتجوا ان الذى يحدد الثمن هو تلاقى قوى الطلب والعرض. بيد أن أصحاب هذا الإتجاه لم يوضحوا ما الذى يحدد الطلب؟ وما الذى يحدد العرض؟ ومن جهة أخرى: ثمة قانون علمى يقول أنه عند تلاقى قوتين متضادتين يؤدى تساويهما إلى تحييد كل منهما للأخرى، لتكون المحصلة صفر. فلا يحددان أى شىء.
أما الإتجاه الثانى، فقد رأى إمكانية تحديد الثمن الطبيعى من خلال تحديد مكوناته، أى الأجر والريع والفائدة والربح. وبتحديد هذه الأربعة يتحدد الثمن الطبيعى ليكون أساساً لتحديد ثمن السوق فى ظل ما قد تشهده السوق من تقلبات فى الأزمنة القصيرة. ولكن الواقع أننا كنا بصدد ثمن واحد. الأن صرنا بصدد أربعة أثمان، تحتاج هى الأخرى إلى تفسير. فالأجور والريع والفائدة والربح هى فى الواقع من قبيل أثمان السوق لقوى الإنتاج المختلفة (قوة العمل، الأرض، الرأسمال، ملكية المشروع) فكأن الأمر ينتهى بنا بتحديد ثمن سوق السلعة الاستهلاكية بأثمان سوق عدد من قوى الإنتاج.(5)
ووفقاً للاتجاه الثالث، يلزم لتفسير ثمن السوق الانتقال من حقل التداول إلى حقل الإنتاج. فى دائرة الإنتاج لا بد من تعدى مستوى مكونات نفقة الإنتاج. التى هى مكونات الثمن الطبيعى، إذ يتعين تفسير هذه المكونات بمحدد عام مشترك.
(3)
هذا المحدد العام المشترك لا بد وأن يرتبط بجوهر كيفية تنظيم عملية العمل الاجتماعى فى الاقتصاد الرأسمالى، كاقتصاد يرتكز على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والعمل الأجير. أى يرتبط بالقيمة، كخصيصة اجتماعية تجعل السلعة، فى اقتصاد المبادلة، قابلة لأن تتبادل بغيرها وتعطيها قدرتها النسبية فى عملية التبادل. وعليه، إذا اريد التعرف على كيفية تحديد ثمن السوق تعين البحث فى تحديد الثمن الطبيعى. وللتوصل إلى ذلك تعين التغلغل فى العملية الاقتصادية إلى مجال الإنتاج وإنما دون الاقتصاد على نفقة الإنتاج، بتعديها إلى القيمة. والبحث عن قيمة السلع فى محور عملية الإنتاج، فى العمل الاجتماعى، ذلك هو سبيل أصحاب نظرية العمل فى القيمة كأساس لتحديد الثمن الطبيعى بدوره أساس تحديد ثمن السوق.
وهو ما يثير على الصعيد المنهجى التساؤل الخاص بكيفية طرح مشكلة القيمة فى الاقتصاد الرأسمالى. طرح مشكلة الثمن يقتضى إذاً طرح مشكلة القيمة كأساس لتحديد الثمن.
وطرح مشكلة القيمة هو فى الواقع البحث عن أساس تنظيم الإنتاج والتوزيع فى المجتمع فى ظل إنتاج المبادلة فى تطوره التاريخى. ولذلك يكون من الطبيعى أن نبدأ فى طرح المشكلة من المجتمع البدائى.
فى هذا المجتمع القائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، لا يعرف المجتمع إلا صوراً بدائية من تقسيم العمل. مستوى تطور قوى الإنتاج لا يمكّن إلا من إنتاج فائض محدود يبقى فى داخل الجماعة. الهدف من القيام بالنشاط الإنتاجى هو الاشباع المباشر لحاجات أفراد المجتمع. النشاط الإنتاجى القائم على العمل التعاونى ينظم تنظيماً جماعياً واعياً يرتكز على العادات والمراسيم ونصائح كبار السن من أعضاء الجماعة، فعلى أساسها تتخذ قرارات الإنتاج مقدماً بالنسبة لكل النشاط الإنتاجى ويتحدد مَن من أعضاء الجماعة يقوم بالنشاط الإنتاجى وكيفية مساهمة الأعضاء العاملين فى الإنتاج والكيفية التى يوزع بها الناتج بين أعضاء الجماعة. هنا لا تقوم المبادلة، فالمنتجات لا تمثل إلا منافع. قيم الاستعمال، ومن ثم لا تثور مشكلة القيمة.
(4)
ومع تطور المجتمعات وظهور الفائض، ومع الوقت الذى يستقر فيه تقسيم العمل، تتغير الطريقة التى يتم بها تنظيم النشاط الاقتصادى فى المجتمع. مؤدى ذلك أن تقسيم العمل يعنى التخصص، والتخصص يؤدى إلى زيادة إنتاجية العمل، وهو ما يمثل بالنسبة للمجتمع خطوة تنظيمية فى سبيل تقليل الجهد اللازم للحصول على ناتج(6)
ولكن تقسيم العمل فيما وراء صوره البدائية يفترض أن إنتاجية العمل، على الأقل فى النشاطات المنتجة للمواد الغذائية، أصبحت من الارتفاع بحيث تسمح بإنتاج كمية من المواد الغذائية تكفى لاعاشة ليس فقط من يقومون بإنتاج هذه المواد، وإنما كذلك مَن يتخصصون فى إنتاج منتجات أخرى غير المواد الغذائية.
ووجود الفائض يعنى امكانية أن يعيش بعض أفراد الجماعة دون أن يسهموا فى عملية الإنتاج. ولا يتأتى لهم ذلك إلا عن طريق تملك وسائل الإنتاج ملكية خاصة. فتطور تقسيم العمل يفترض وجود الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج حتى نتوصل إلى وضع يقوم فيه بالإنتاج وحدات مستقلة تمتلك وسائل انتاجها وينتج كل منها سلعة تتخلى عنها أو عن كمية منها لتحصل على ما هو لازم لاشباع حاجاتها ولتجدد الإنتاج فى الفترة التالية. هنا يبذل العمل الفردى استقلالاً فى الوحدة الإنتاجية وهو يمثل جزءً من العمل الاجتماعى. ولكنه لا يكتسب خصيصته كعمل اجتماعى إلا بطريق غير مباشر، من خلال المبادلة، إذ من خلالها يوضع نتاج هذا العمل، السلعة، تحت تصرف أفراد المجتمع لاستعماله. هذا الإنتاج السلعى لا يتطور ويصبح الظاهرة السائدة فى المدن إلا بتطور التجارة والحياة فى المدينة تطوراً يخلق سوقاً على درجة كافية من الاتساع. هنا ندخل فترة تاريخية تتميز باتساع إنتاج المبادلة ليصبح الظاهرة السائدة فى المدينة فى نفس الوقت الذى يبدأ فيه الإنتاج بقصد الاشباع المباشر فى التحلل البطىء، وقد يكون بطىء جداً، فى الريف. هنا نكون بصدد حرفيين يملكون وسائل الإنتاج ويقومون بالإنتاج استقلالاً، كل حرفى يقوم بكل العمليات اللازمة لإنتاج، ثم هم يتخلون عن الناتج فى مقابل الحصول، من خلال التبادل، على ما هو لازم لاستعمالهم (فى الاستهلاك أو فى الإنتاج) وهذا ما يسمى بإنتاج المبادلة البسيط.
(5)
ومع استقلال المنتجين على أساس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج يكف كل تنظيم جماعى مقدم لعملية الإنتاج. وحيث أن كلاً منهم لم يعد يعيش على ناتج عمله. وانما على عمله، فإن المحاسبة على أساس وقت العمل تصبح أكثر ضرورية وحيوية. واعتماد كل منهما على الآخر اعتماداً متزايداً يجعل من الضرورى أن يتحقق التكافؤ فى التبادل، لأن غياب هذا التكافؤ يؤدى إلى اختلال التنظيم الاجتماعى للعمل وتحلل المجتمع الذى يتكون من عدد كبير من منتجى السلع. التكافؤ فى المبادلة لازم لاستمرار المنتجين فى الإنتاج وفى استمرارهم فى تطوير قواهم الإنتاجية.
وعليه كان من اللازم وجود معيار موضوعى لتحقيق هذا التكافؤ وإلا كف المجتمع عن الحركة وامتنع كل تنظيم للتبادل. وهذا التكافؤ لا يمكن تحقيقه إلا اجتماعياً؛ أى ليس من وجهة نظر المنتج الفرد، فأياً كان ما يبذله المنتِج الفرد فى إنتاج سلعته فإنه لن يحصل عند التبادل إلا على ما يعتبر اجتماعياً مكافئاً لسلعته وفقاً للظروف التى تسود إنتاج هذه السلعة فى المتوسط على الصعيد الاجتماعى(7).
(6)
وتحقيق التكافؤ هو الذى يمكّن من تنظيم المبادلة التى من خلالها يتم تنظيم الإنتاج فى اقتصاد تحررت فيه وحدات الإنتاج المستقلة من كل خضوع لتنظيم جماعى مقدم لعملية العمل الاجتماعى القائم على التعاون وتقسيم العمل: نقول يتم تنظيم الإنتاج بضمان استمراره بين نشاطات معينة وضمان توفر القوة العاملة المؤهلة والحيلولة دون الاستمرار فى إنتاج يبذل فيه ما يزيد على ما يمتصه السوق. لتنظيم الإنتاج إذاً يكون من المحتم أن تقوم علاقات تكافؤ بين السلع التى تجرى مبادلتها. إذا كان ذلك محتماً تعين أن يوجد معيار موضوعى لتحقيق هذا التكافؤ. وهو يوجد بالنسبة للسلعتين المتبادلتين إذا وجد مقياس مشترك بينهما أى خصيصة مشتركة يمكن قياسها(8). من هنا تثور مشكلة البحث عن معيار مشترك. ولسوف نتخذ من البناء النظري لكارل ماركس نموذجاً تحليلياً في سبيل مناقشة هذه الأفكار. وهو ما ننتقل إليه في الفصل التالي.
















الفصل الثاني
القيمة في فكر كارل ماركس
(1)
انشغل كارل ماركس، مثل جميع مفكري الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، بمشكلة القيمة... الأمر الَّذي جعله يبدأ من تحليل السلعة؛ لأنها الَّتي تتجسد فيها القيمة. وفي أثناء تحليله يفرق ماركس، كما سميث وريكاردو، بين نوعين من القيمة: الأول: قيمة استعمال السلعة، أي صلاحية السلعة لإشباع حاجة إنسانية معينة، وهذا النوع من القيمة هو الَّذي يشكل المضمون المادي للثروة في المجتمع. أما النوع الثاني فهو قيمة المبادلة، أي صلاحية السلعة للتبادل بسلعة أخرى، وهي تتبدى كعلاقة كمية، أي كنسبة يجري بموجبها تبادل قيم استعمالية من نوع ما بقيم استعمالية من نوع آخر؛ فسلعة معينة، كيلو جرام واحد من القمح مثلاً تجري مبادلته بمقدار(س) من الأرز، و(ص) من الحرير، و(ع) من الفضة، وغير ذلك، وباختصار، بسلع أخرى بأكثر النسب تبايناً. وبالتالي، ليس للقمح، كسلعة، قيمة تبادلية واحدة، بل الكثير جداً منها، ولكن بما أن (س) من الأرز، و(ص) من الحرير، و(ع) من الفضة، تشكل القيمة التبادلية للكيلو من القمح، فإن (س) من الأرز، و(ص) من الحرير، و(ع) من الفضة، وما إليها، يجب، كما يقول ماركس، أن تكون قيماً تبادلية قادرة على أن تحل محل بعضها البعض، أي أن تكون متساوية فيما بينها. ومن هنا فإن القيم التبادلية المختلفة للسلعة تعبر عن شيء واحد. فمهما تكن العلاقة التبادلية بين الحرير والفضة، يمكن دائماً التعبير عن هذه العلاقة بمعادلة تتعادل فيها (ص) من الحرير مع (ع) من الفضة. مثلاً: مبادلة 10 أمتار من الحرير بـ 5 جرامات من الفضة، وهذه المعادلة تدل على وجود أمر مشترك مقداره واحد. إن كلاً من هذين الشيئين، الحرير والفضة، مساو لشيء ما ثالث، لا هو الأول ولا هو الثاني، وبالتالي لابد وأن يكون كل منهما، باعتباره قيمة تبادلية، قابلاً للإرجاع إلى هذا الشيء الثالث. الَّذي لا يكون متمثلاً في خصائص هندسية أو فيزيائية أو أية خصائص طبيعية أخرى للسلع؛ إذ أن خصائص السلع الجسدية، كما يقول ماركس، لا تؤخذ في الاعتبار إلا بقدر ما تتوقف عليها منفعة السلع، أي بقدر ما تجعل من السلع قيماً استعمالية.
إن الأمر الثالث المشترك بين"قيمة السلعتين التبادلية"هو العمل، فكلاهما نتاج قوة العمل. هنا يجد ماركس أهمية في الانشغال بقيمة قوة العمل. متساءلاً: ما هي قيمة قوة العمل؟ ومن أجل الإجابة يسير التحليل على النحو التالي:
إن قيمة كل سلعة تقاس بكمية العمل اللازم لإنتاجها، وقوة العمل توجد في شكل العامل الحي الَّذي يحتاج إلى كمية محددة من وسائل المعيشة لنفسه ولعائلته، مما يضمن استمرار قوة العمل حتّى بعد موته. ومن هنا، فإن وقت العمل اللازم لإنتاج وسائل المعيشة هذه يمثل قيمة قوة العمل.
(2)
وعلى ذلك، يدفع الرأسمالي للعامل أجره، أسبوعياً مثلاً، شارياً بذلك استخدام قوة عمله لهذا الأسبوع. وبعد ذلك يجعل الرأسمالي عامله يبدأ في العمل. وفي وقت محدد سيقدم العامل كمية من العمل توازي أجره الأسبوعي، فإذ افترضنا أن أجر العامل الأسبوعي يمثل ثلاثة أيام عمل، فإذا بدأ العامل عمله يوم السبت؛ فإنه يكون في مساء يوم الإثنين قد عوض الرأسمالي عن القيمة الكاملة للأجر المدفوع. ولكن هل يتوقف العامل عندئذ عن العمل؟ بالطبع لا؛ فلقد اشترى الرأسمالي قوة عمل العامل لمدة أسبوع، وعلى العامل أن يستمر في العمل خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من الأسبوع، وهذا العمل الزائد الَّذي يقدمه العامل فوق الوقت اللازم لتعويض أجره هو فائض القيمة، ومصدر الربح، ومنبع التراكم المتزايد للرأسمال على نحو مستمر.
يمكن هنا اعتبار ما وصل إليه ماركس، على هذا النحو، استكمالاً للبناء النظري الريكاردي، وحلاً للمشكلة الَّتي سبق أن واجهت ريكاردو نفسه بصدد السؤال: لماذا يكون الأجرٌ أقلاً من القيمة الَّتي يخلقها العمل؟ والحل يكمن في أن الرأسمالي لم يشترْ العمل، كما ظن ريكاردو، إنما اشترى قوة العمل، كما توصل إلى ذلك ماركس.
(3)
وبعد أن أتم ماركس تحليله للقيمة، وجد ضرورة مراجعة تصورات الكلاسيك بصدد أنواع الرأسمال. فقد كان آدم سميث وديفيد ريكاردو، والكلاسيك بوجه عام، يرون، كما ذكرنا، أن الرأسمال اللازم من أجل عملية إنتاجية ما، ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الرأسمال الثابت، ويحتوي على المباني والآلات والمعدات. وكل ما لا يستهلك في عملية إنتاجية واحدة.
والقسم الثاني: الرأسمال المتداول، وهو الَّذي يستخدم في عملية إنتاجية واحدة مثل المواد الأوّلية والمواد الوسيطة والعمل الإنساني.
ولكن هذا التقسيم لم يكن ليتناغم مع نظرية ماركس في القيمة؛ الأمر الَّذي جعله يعيد النظر في التقسيم إنما ابتداءً من معيار مختلف هو معيار القيمة نفسها، متساءلاً ما هي الأجزاء من الرأسمال الَّتي تغير من قيمتها أثناء الإنتاج، أي الَّتى يمكنها أن تخلق قيمة أزيد من قيمتها، وما الأجزاء الَّتي لا تغير من قيمتها أي تظل قيمتها ثابتة عبر العملية الإنتاجية؟
حينئذ رأى ماركس ان تقسيم الكلاسيك ليس خطأ كليةً إنما يحتاج إلى تعديل؛ فالرأسمالي، من أجل الإنتاج، يستخدم قسمين من الرأسمال:
القسم الأول: الرأسمال ذو القيمة الثابتة، ويتكون ذلك القسم من: جزء ثابت مثل الأدوات والمعدات والمباني. وجزء دائر مثل المواد الوسيطة والمواد الأولية، وهذا القسم من الرأسمال لا يغير من قيمته أثناء عملية الإنتاج؛ لأنه يدخل عملية الإنتاج ويخرج منها بنفس القيمة. فالآلة مثلاً، بما تحتويه من عمل مختزن، يحسب معدَّل استهلاكها على أساس قيمتها وطاقتها الإنتاجية، وهي تدخل في حساب كُلفة الإنتاج بهذه القيمة دون زيادة أو نقصان.
أما القسم الثاني: الرأسمال ذو القيمة المتغيرة، ويتكون من: قوة العمل. وهذا القسم من الرأسمال يحقق ثلاثة أمور:
- ينقل قيمته إلى الناتج،
- يزيد من قيمة الناتج،
- يسمح بنقل قيمة الرأسمال الثابت إلى الناتج.
(4)
إن هذا العمل غير مدفوع الأجر يمثل قيمة زائدة يستحوذ عليها الرأسمالي. والرأسمالي يجدد إنتاجه من خلال تحويل هذه القيمة الزائدة إلى رأسمال مجدداً على نطاق متسع.
ونمط الإنتاج الرأسمالي لا يقتصر على إعادة إنتاج الرأسمال بصورة مستمرة، ولكنه يعيد إنتاج فقر العمال بصورة مستمرة في ذات الوقت؛ بحيث أنه يضمن على الدوام تركز الرأسمال من جهة، ويضمن أيضاً وجود جماهير غفيرة من العمال المضطرين لبيع قوة عملهم إلى هؤلاء الرأسماليين لقاء كمية من وسائل العيش الَّتي تكفي بالكاد لبقائهم قادرين على العمل، وعلى إنجاب الأجيال الجديدة من العمال من جهة أخرى. إلا أن الرأسمال لا يعاد إنتاجه فحسب بل يزداد ويتضاعف على الدوام بقدر ما تتضاعف سطوته على طبقة العمال المفتقرين لوسائل الإنتاج. وكما أن الرأسمال يعاد إنتاجه بمعدَّلات تتزايد باطراد فإن نمط الإنتاج الرأسمالي المعاصر يعيد إنتاج طبقة العمال معدومي الملكية بمعدَّلات متزايدة أيضاً وبأعداد هائلة!
(6)
فعلى مستوى الآداء اليومي للمشروع الرأسمالي، ينتهي ماركس، ابتداءً من نظريته في القيمة وفائض القيمة، إلى: إن الاستثمارات في فروع القطاعات المشاركة في الإنتاج على الصعيد الاجتماعي تحكمها معدَّلات الربح؛ ومن هنا انشغل ماركس بتحديد شروط التوازن بين فروع الإنتاج. فأي رأسمالي يرغب في استثمار أمواله سوف ينظر أولاً إلى ربحه المحتمل. وهو لن يقدم على الاستثمار في فرع إنتاجي معين، وليكن الحديد والصلب، إلا إذ ما كان هذا الفرع الإنتاجي يحقق أعلى معدَّلات الربح. فكيف تتحدد معدَّلات الأرباح الَّتي تحكم قرارات المستثمر؟ يتعين، قبل الإجابة، أن نوضح أن تحليل ماركس، بصدد التوازن بين القطاعات، وصولاً إلى ثمن الإنتاج هو تحليل ساكن، مجرد من تأثير عنصر الزمن، يفترض: ثبات كل من:
- كمية النقود،
- الكمية المطلوبة من السلع،
-كمية الربح الممكن توزيعه على الرأسماليين؛
فلو افترضنا أن: مجموع الرساميل الموظفة في الإنتاج = 500 وحدة، وإن عدد المشروعات = 5 مشروعات، وإن (كمية/كتلة) النقود الَّتي توزع كأرباح على المشروعات = 110وحدة؛ فإن نصيب كل مشروع من الربح سيكون 22 وحدة. ومعنى ذلك أن أي مشروع جديد يدخل السوق سوف يشارك المشروعات الخمسة القائمة في كمية الربح المحددة، وهي 110 وحدة. فإذ ما افترضنا أن خمسة مشروعات جديدة دخلت السوق فسوف يكون نصيب كل مشروع من هذه المشروعات الـ 10 مقداره 11وحدة فقط. وذلك مرتبط بشرط واحد هو أن كمية الطلب الكلّي محددة؛ فمهما زادت الكمية المعروضة بدخول مشروعات جديدة، فلن يزيد المجتمع من استهلاكه من هذه السلعة. وبالتالي سوف تتنافس المشروعات الـ 10 على تلبية كمية محددة سلفاً من السلع من جهة، وعلى اقتسام كمية الأرباح المحددة أيضاً سلفاً، من جهة أخرى. وعليه، ينشغل ماركس بتحديد معدَّلات هذه الأرباح الوسطية. إنما ابتداءً من افتراض:
- أن السلع تباع بقيمتها،
- معدَّل فائض القيمة يساوي 100 بالمئة.
- المجتمع مغلق؛ أي لا يدخل في علاقات تبادل مع بقية أجزاء الاقتصاد العالمي، رابعاً: سيادة المنافسة الكاملة في مجتمع يسعى فيه الرأسماليون إلى تحقيق أقصى ربح. وبناءً عليه تتحدد معدَّلات الأرباح، في قطاع إنتاجي معين يضم خمسة مصانع تستخدم تراكيب مختلفة من الرأسمال ذي القيمة الثابتة والرأسمال ذي القيمة المتغيرة المتغير. وفقاً للجدول التالي:

الرأسمال الثابت

الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت
الرأسمال المتغيّر

فائض القيمة
قيمة السلعة

ثمن التكلفة

معدَّل الربح الوسطي

ثمن الإنتاج

إنحراف
الثمن
------
القيمة
80 50 20 20 90 70 22 92 + 2
70 51 30 30 111 81 22 103 - 8
60 51 40 40 131 91 22 113 - 18
85 40 15 15 70 55 22 77 + 7
95 10 5 5 20 15 22 37 + 17
78 38 22 22 82 60 22 82 تطابق

- مجموع فائض القيمة =20+30+40+15+5 = 110 وحدة.
- مجموع الرساميل =100+100+100+100+100=500 وحدة.
- التركيب المتوسط للرأسمال = 78+22 وحدة.
- معدَّل الربح الوسطي= مجموع فائض القيمة ÷ مجموع الرساميل، أي 22%.
- سوف تقوم المشروعات المختلفة (وفقاً لقوى السوق. اليد الخفية عند آدم سميث) بإدخال تعديلات في التركيب العضوي للرساميل؛ حتّى تتلائم مع التركيب المتوسط للرأسمال على الصعيد الاجتماعي، وكذلك مع الربح الوسطي.
- ثمن التكلفة = الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير.
- قيمة السلعة = الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير+ فائض القيمة.
- أما ثمن الإنتاج فيتكون من: ثمن التكلفة + معدَّل الربح الوسطي.
- على الرغم من أن كل رأسمالي بمفرده، وفقاً للجدول أعلاه، يحصل على فائض قيمة مقداره 100% إلا ان حساب الربح، ومن ثم تجديد الإنتاج، لا يعتمد على فائض القيمة الَّذي تتحقق في مصنعه هو فحسب، إنما يعتمد في المقام الأول والأخير على الربح الكلّي الَّذي أنتجه الرأسمال الاجتماعي الكلّي.
(7)
وعليه، فإن الرأسمال ينسحب من قطاع ذي معدَّل ربح أدنى ويتدفق إلى القطاع الَّذي يدر ربحاً أعلى. ومن خلال هذا المد والجزر... أو الهجرة والعودة للرساميل، بعبارة أخرى من خلال تزاحم هذه الرساميل وتوزعها على مختلف قطاعات الإنتاج وفقاً لتدني معدَّل الربح هنا، وارتفاعه هناك، يخلق الرأسمال تناسباً بين الطلب والعرض يجعل الربح الوسطي واحداً في مختلف قطاعات الإنتاج، فتتحول القيم على هذا النحو إلى أثمان إنتاج.
(9)
فمع إدخال الماكينات يبدأ العامل في الصراع ضد وسيلة العمل ذاتها، الَّتي هي الشكل المادي لوجود الرأسمال؛ فما أن ظهرت وسيلة العمل بشكل الماكينة حتّى أصبحت مزاحمة للعامل نفسه؛ فإن عدد العمال الضروريين لإنتاج نفس الكمية من السلع يتناقض أكثر فأكثر بفضل التقدم الآلي... إلخ. وهذا يؤدي إلى نمو عدد العمال الزائدين عن الحاجة بسرعة أكبر من نمو الرأسمال نفسه. وحينئذ يتساءل ماركس: ما هو مصير هذا العدد المتنامي من العمال؟ ويرى انهم يشكلون جيش الصناعة الاحتياطي الَّذي يتقاضى، في فترات الأزمات الدورية الَّتي تمر بها الرأسمالية، أجراً أدنى من قيمة عمله، كما أنه يستخدم بصورة غير دائمة.
بناءً عليه، يضع ماركس القانون العام المطلق للتراكم الرأسمالي على أساس من أنه كلّما كانت الثروة الاجتماعية أكبر تعاظم جيش الصناعة الاحتياطي، وكلما كانت نسبة الجيش الاحتياطي أكبر من الجيش الفعلي (العمال الدائمون) كلما تضخمت جماهير السكان الفائضين الَّتي يتناسب بؤسها بصورة طردية مع مشقة عملها. وأخيراً كلما اتسعت فئات المعدمين من الطبقة العاملة وجيش الصناعة الاحتياطي، كلما تزايد الفقر على الصعيد الاجتماعي.



الفصل الثالث
تجديد الإنتاج البسيط عند ماركس
(مقارنة بما عليه تصور فرنسوا كينيه)
عقب أن أتم ماركس تحليله للقيمة، وصولاً إلى ثمن الإنتاج، كان عليه أن ينتقل لدراسة تجديد الإنتاج الاجتماعي. وعلى طريقة فرنسوا كينيه، يقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة الرأسماليين، وطبقة العمال المأجورين. ويفترض أن النشاط الاقتصادي يتم من خلال قطاعين: الأول: ينتج أدوات الإنتاج، والثاني: ينتج مواد الاستهلاك. ويوظف كل قطاع قدراً محدداً من الرأسمال الثابت وقدراً آخر من الرأسمال المتغير، وفي نهاية عملية الإنتاج، الَّتي تمثل نقطة بدء لعملية الإنتاج التالية، يتم إنتاج قدراً من فائض القيمة وفقاً لمعدل ثابت، يفترض ماركس هنا كما في كل مكان في رأس المال، مقداره 100%.
وتكون محصلة عملية الإنتاج على صعيد التوزيع أن يحصل الرأسماليون في القطاعين على هذا الفائض في القيمة، والعمال المأجورون، في القطاعين كذلك، على الأجور. وهذا ما يمثل تيار التدفق النقدي. أما التدفق العيني فيتمثل في كتلة من السلع الإنتاجية، أنتجها القطاع الأول، وكتلة من السلع الاستهلاكية، أنتجها القطاع الثاني.
وابتداءً من تلك الافتراضات؛ سوف يستهلك رأسماليو القطاع الأول (كل فائض القيمة)، كما سوف يستهلك العمال المأجورون في القطاع الأول (كل الأجر) في صورة جزء من مواد الاستهلاك الَّتي أنتجها القطاع الثاني.
ولكن الرأسمالين والعمال المأجورين في القطاع الثاني يحتاجون أيضاً إلى مواد الاستهلاك الَّتي ينتجونها، ومن ثم سوف يستهلك الرأسماليون في هذا القطاع (كل فائض القيمة)، كما سوف يستهلك العمال المأجورون في القطاع الثاني(كل الأجر) من أجل شراء جزءً من مواد الاستهلاك الَّتي ينتجونها هم. ولأن القطاع الثاني يحتاج إلى مواد الإنتاج الَّتي ينتجها القطاع الأول فسوف يستهلك رأسماليو القطاع الثاني (الَّذين تلقوا لتوهم تدفقاً نقدياً من رأسماليي وعمال القطاع الأول) في صورة جزء من تلك المواد الَّتي ينتجها رأسماليو القطاع الأول.
وبالمثل، ولأن القطاع الأول يحتاج إلى مواد الإنتاج الَّتي ينتجها هو، فسوف يستهلك رأسماليو القطاع الأول (الجزء المتبقي تحت تصرفه اجتماعياً) في صورة شراء لجزء، في الواقع الجزء الباقي، من تلك المواد الَّتي ينتجونها هم. ووفقاً لتلك المبادلات أعلاه يتم تجديد الإنتاج البسيط. وابتداءً من تركيم جزء من فائض القيمة، أي عدم استهلاك فائض القيمة كليةً من قبل رأسماليي القطاعين واستخدام أحد أجزائها كرأسمال (بإضافة: شغيلة جدد، ووسائل إنتاج)، يتم تجديد الإنتاج الاجتماعي على نطاق واسع.
(11)
المخطط التوضيحي لتجديد الإنتاج البسيط عند ماركس كالأتي:
-----------------------------------------------
(I) قطاع إنتاج وسائل الإنتاج:
الرأسمال: 4000 ث + 1000 م = 5000
الناتج السلعي: 4000 ث + 1000 م + 1000 ف ق = 6000 في هيئة وسائل إنتاج.
(II) قطاع إنتاج مواد الاستهلاك:
الرأسمال: 2000 ث + 500 م = 2500
الناتج السلعي: 2000 ث + 500 م + 500 ف ق = 3000 في هيئة مواد استهلاك.
وتتم المبادلات على النحو التالي: سوف يستهلك رأسماليو القطاع الأول (1000ف ق)، كما سوف يستهلك العمال المأجورون في القطاع الأول (1000 م) في صورة جزء من مواد الاستهلاك الَّتي أنتجها القطاع الثاني.
ولكن الرأسماليين والعمال المأجورين في القطاع الثاني يحتاجون هم أيضاً إلى مواد الاستهلاك الَّتي ينتجونها هم، ومن ثم سوف يستهلك الرأسماليون في هذا القطاع (500 ف ق)، كما سوف يستهلك العمال المأجورون في القطاع الثاني (500 م) من أجل شراء جزءً من مواد الاستهلاك الَّتي ينتجونها هم.
ولأن القطاع الثاني يحتاج إلى مواد الإنتاج الَّتي ينتجها القطاع الأول فسوف يستهلك رأسماليو القطاع الثاني (2000) في صورة جزء من تلك المواد الَّتي ينتجها رأسماليو القطاع الأول.
وبالمثل، ولأن القطاع الأول يحتاج إلى مواد الإنتاج الَّتي ينتجها هو، فسوف يستهلك رأسماليو القطاع الأول (4000) في صورة شراء لجزء، في الواقع الجزء الباقي، من تلك المواد الَّتي ينتجونها هم. وابتداءً من تركيم جزء من فائض القيمة، أي عدم استهلاكها كليةً من قبل رأسماليي القطاعين، واستخدام أحد أجزائها كرأسمال، يتم تجديد الإنتاج الاجتماعي على نطاق واسع، ويقدم ماركس مخططتين توضيحيين: مع افتراض أن الرأسماليين يستهلكون نصف القيمة ويراكمون النصف الآخر.
المثال الأول:
القطاع (I) 4000 ث + 1000م + 1000ف ق= 6000 في هيئة وسائل إنتاج.
القطاع (II) 1500ث + 750 م + 750 ف ق = 3000 في هيئة مواد استهلاك.
المثال الثاني:
القطاع (I) 5000 ث + 1000م + 1000ف ق= 7000 في هيئة وسائل إنتاج.
القطاع (II) 1430ث + 285م + 285 ف ق= 2000 في هيئة مواد استهلاك.
(12)
تجديد الإنتاج البسيط عند فرنسوا كينيه
-----------------------------------------------
يهدف فرنسوا كينيه من بناء نموذجه، هدفاً مزدوجاً يتمثل، كما يقول أستاذنا الدكتور محمد دويدار، في: (1) التعرف على طبيعة عملية الإنتاج الاجتماعي كعملية للإنتاج ولتجدد الإنتاج في الفترة التالية، والتوصل بهذه المناسبة إلى أصل الناتج الاجتماعي وبيان كيفية إنتاجه وتوزيعه بين الطبقات الاجتماعية. (2) التعرف على كيفية تحقيق شروط تجدد إنتاج الناتج الاجتماعي في أثناء عملية التداول، وما يفترضه من تجدد إنتاج الرأسمال الاجتماعي كشرط ضروري لاستمرارية العملية الاقتصادية من فترة إلى أخرى.
لتحقيق هذا الهدف المزدوج يتصور كينيه العملية الاقتصادية عند مستوى معين من التجريد ككل عضوي مكون من أجزاء توجد بينها علاقات اعتماد متبادل. فهو يتصور الأمة مكونة من ثلاث طبقات اجتماعية تتحدد بحسب وظائفها الاقتصادية:
- الطبقة المنتجة: وحيث أن كينيه يرى ان الزراعة هى النشاط الإنتاجى الوحيد والعمل الزراعى هو العمل المنتج الوحيد؛ فإن الطبقة المنتجة هى تلك الطبقة المنشغلة اساساً بالإنتاج الزراعى،
- وهناك الطبقة العقيم: وهى التى تعمل فى أى مجال أو نشاط آخر غير الزراعة والإنتاج الزراعى،
- ثم تأتى أخيراً طبقة الملاك: وهى الطبقة الإجتماعية التى تملك الأرض ولا تسهم فى عملية الإنتاج، وتؤهلها تلك الملكية من التمكن من الريع الذى تدفعه لها الطبقة المنتجة.
لإستيعاب الجدول الإقتصادى بوجه عام وفكر الفيزيوقراط بوجه خاص فإنه ويتعين أن يتسلح الباحث بثلاث حزم فكرية تمثل فى الوعى بالتقسيم الطبقى الذى اعتمده كينيه فى جدوله، كما تتمثل فى الفروض التى ينهض عليها الجدول، وتتمثل أخيراً فى الوعى بمجموعة مِن الأدوات المنهجية والضبط الإصطلاحى؛ فهناك:
أولاً، مصطلح: Avances Annulles وقد عربه أستاذنا الجليل الدكتور/محمد دويدار، إلى إصطلاح التسبيقات السنوية، وهو الذى يُمثل ذلك الجزء من رأس المال الذى يُخصص للحصول على المواد الأولية التى يجرى تحويلها فى أثناء عملية الإنتاج،.
وهناك ثانياً: Avances Primatives وعربه كذلك أستاذنا الدكتور/ محمد دويدار، إلى إصطلاح التسبيقات الأولية، وهى التى تمثل ذلك الجزء من رأس المال الذى يتمثل فى أدوات الإنتاج المعمرة التى تستخدم فى أكثر من عملية إنتاجية كالمبانى والألات.
وهناك أخيرا: التسبيقات العقارية والتى تتمثل فى ذلك الجزء من رأس المال الموجه لإستصلاح الأرض وتحسينها وشق الترع والمصارف.
وعن الفروض التى يقوم عليها الجسم النظرى للجدول الإقتصادى، فيمكن إجمالها فى:
- أولاً: العمل الزراعى هو العمل الوحيد المنتج،
- ثانياً: لا يأخذ الجدول الإقتصادى فى إعتباره سوى المبادلات التى تتم بين الوحدات الثلاث فقط.
- ثالثاً: إفترض الجدول ان النظام الإقتصادى يعمل فى ظل المنافسة الحرة،
- رابعاً: يفترض الجدول الاقتصادى أداء الإقتصاد القومى بمعزل عن التجارة الخارجية.
الجدول الاقتصادي لفرنسوا كينيه
-----------------------------------------------
الناتج الزراعي الذي تبلغ قيمته 5 مليار لا يدخل كلية في التداول الذي يتم بين الطبقات الثلاث. إذ لا يدخل في هذا التداول إلا منتجات زراعية قيمتها 3 مليار وتستبقي الطبقة المنتجة ما قيمته 2 مليار من المنتجات الزراعية داخل القطاع الزراعي لتقوم بدور الرأسمال المتداول في أثناء الفترة القادمة، وهي تأخذ الشكل العيني لمواد استهلاكية ضرورية لمعيشة من يشتغلون بالزراعة (1 مليار) ومواد أولية لازمة للإنتاج الزراعي (1 مليار) كما تدخل في التداول كذلك منتجات صناعية قيمتها (2 مليار). وتكون كل السلع المعدة للتبادل (5 مليار: 3 زراعية + 2 صناعية) محلاً للمبادلات الآتية:
أولاً: تبدأ طبقة الملاك في إنفاق دخلها (وقدره 2 مليار نقود) الذي حصلت عليه في شكل ريع الأرض تدفعه الطبقة المنتجة، تبدأ هذه الطبقة في الإنفاق بشراء مواد غذائية قيمتها (1 مليار) تشتريها من الطبقة المنتجة وتخصصها لاستهلاكها النهائي.
ثانياً: تشتري طبقة الملاك، استخداماً للجزء المتبقي من دخلها النقدي، من الطبقة العقيم سلعاً صناعية قيمتها (1 مليار) تقوم باستهلاكها.
ثالثاً: تشتري الطبقة العقيم من الطبقة المنتجة مواداً غذائية زراعية ضرورية لمعيشتها بقيمة (1 مليار).
رابعاً: لاستبدال الجزء المستهلك سنوياً من الرأسمال الثابت (وهو يساوي 10% من التسبيقات الأولية، أي 1 مليار) تشتري الطبقة المنتجة من الطبقة العقيم سلعاً صناعية إنتاجية (تأخذ الشكل العيني لسلع إنتاجية) قيمتها (1 مليار)
خامساً: أخيراً، تشتري الطبقة العقيم من الطبقة المنتجة مواد أولية زراعية قيمتها (1 مليار)
عن طريق العمليتين (أولاً)، (ثانياً) تنفق طبقة الملاك كل دخلها على شراء سلع استهلاكية، كما تبين العمليات (ثانياً)، (رابعاً) كيف أن الناتج الصناعي ينتقل في مجموعه إلى طبقة الملاك (للاستهلاك النهائي) والطبقة المنتجة (لاستبدال ما استهلك من الرأسمال الثابت)، ومن ثم لا يبقى للطبقة العقيم مما ينتجه، إذ هي لا تستخدم، وفقاً لفرنسوا لكينيه، الرأسمال الثابت، كما انها لا تستهلك منتجات صناعية في استهلاكها النهائي.

خاتمة:
موضوع تفسير التوزيع الأولي للناتج الاجتماعي بين الطبقات الاجتماعية هو نفس موضوع البحث عن قيمة هذا الناتج: الكيفية التي يتم بها تنظيم عملية العمل الاجتماعي في هذا الشكل التاريخي للإنتاج، إنتاج المبادلة الرأسمالي. وابتداءً من النظرية الخاصة بالقيمة نتوصل إلى نظرية في التوزيع.
هذا التوزيع الأولي، الذي يتم في صورة نقدية، يحدث في نهاية المرحلة الإنتاجية من العملية الاقتصادية. ويحصل كل على دخله في صورته النقدية، في مرحلة ثانية يبدأ كل في استخدام دخله انفاقاً لشراء سلع وخدمات (أو وضع جزء منه جانباً، ان استطاع ذلك، لفترة أو أخرى، أي إدخاره) ولا شك في أن نظرية التوزيع، عند كينيه أو الكلاسيك أو ماركس، تفترض سبق وجود نظرية في الإنتاج ترتكز على العمل في القيمة كأساس لتحديد ثمن السوق. كما تفترض أن عملية الإنتاج تجمع طبقات اجتماعية ثلاثة ذات وظائف اقتصادية: الطبقة الارستقراطية، تقدم الأرض للاستخدام في العملية الاقتصادية ابتداءً من ملكيتها لها دون أن تزرعها بنفسها. والطبقة الرأسمالية التي تملك وسائل الإنتاج في المشروعات الرأسمالية وتقدم هذه المشروعات للاستخدام في العملية الاقتصادية، وقد يشارك أفرادها في إدارة المشروع، وهي مشاركة في نوع من العمل، وقد لا يشاركون. وأخيراً: الطبقة العاملة، التي لا تملك وسائل الإنتاج، وتملك قوة العمل كسلعة، وتقدم العمل في أثناء العملية الاقتصادية. وابتداءً من كيفية التوزيع على هذا النحو تتحدد أنصبة الطبقات الاجتماعية في ناتج العملية الاقتصادية: تحصل الطبقة العاملة على الأجور. وتحصل الطبقة الارستقراطية على الريع. أما الطبقة الرأسمالية فتحصل على الفائدة والربح. ولكن هذا التصور الواضح للتوزيع على هذا النحو، وعلى الرغم من مساهمات كينيه والكلاسيك، لم تكن بمثل هذا النضج إلا على يد كارل ماركس، ابتداءً من نظريته في القيمة كما بينا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح