الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل الأول - مقدمة رابعة جورج لابيكا: تغيير العالم بلا معلِّم ومدرسة أو -فلنفتح النافذة يارفاق-

حسان خالد شاتيلا

2016 / 1 / 5
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


                                                الـفـصـــل الأول - مـــقـدمــة رابـعـــة
                                    
                                      جـورج لابيكـا:  تغــيير العـالم بـلا معـلِّم ومدرسة    أو "فلنفتح النافذة يارفاق"
 
                                                                    
 
أولا:حياة حافلة بالنضال الفعلي والنظري:
ليس من المتيسر أن تُستعرَض أعمال الماركسي الفرنسي جورج لابيكا في صفحات معدودات، وهو الذي كرَّس نحو خمسة عقود من حياته، منذ الخمسينات من القرن الماضي وإلى أن توفي يوم الخميس 12 شباط/فبراير 2009 في لوبيك Le Pecq  بضاحية باريس، للعمل من أجل تغيير العالم بالممارسة السياسية والإنتاج الثقافي، عبر العديد من الكتب والمقالات والندوات والأبحاث والمواقف والنشاطات والتدريس الجامعي في الجزائر وباريس العاشرة (نانتير). هذا الإنتاج من الممارسات والأفكار الذي يشكل اليوم جزءاً من تاريخ النضال من أجل التحرر الوطني والثورة الاشتراكية في العالم، ويمتزج بالتاريخ الثقافي والسياسي لمسار الثورة عبر العقود الأخيرة. إن الإمبريالية الجديدة أو العولمة النيوليبرالية شغلت حيزا هاما من أعماله خلال العقد الأخير من حياته النضالية.
توفي لاببكا عن تسع وسبعين سنة إثر نزيف دماغي وهو يخوض المعارك الإيديولوجية والسياسية في خدمة القضايا التي شغلت عليه حياته دون أي تهاون، بالرغم من أن النكسات التي تتعرض لها الثورات، شيوعية كانت أم وطنية، وفي مقدمتها ثورة التحرر الوطني الجزائرية والفلسطينية، وثورة أكتوبر، وإن كانت نالت من شيوعيين كثر، فإنها لم تنل من عزيمته وتصميمه على النضال من أجل انتصار الثورات في جميع أنحاء العالم. 
1)- الجـــزائـر وفـلـســـطين:
عندما وصل جورج لابيكا إلى الجزائر في منتصف الخمسينات وهو في منتصف العقد الثالث من عمره لتدريس الفلسفة في مدارسها الثانوية، شارك بصورة سرية في النضال الثوري لجبهة التحرير الوطني الجزائرية. ولم يغادر الجزائر إلا في نهاية الستينات، وذلك بعدما كان مَثَّل صحيفة "المجاهد"، لسان حال جبهة التحرير الوطني الجزائرية، والتي كان يشارك سريا في تحريرها من حي القصبة أثناء الاحتلال الفرنسي، في مؤتمر هافانا، وبعدما أمضى أكثر من عشر سنوات في تدريس الفلسفة في مدارسها أولا، ثم في جامعتها بعد نيلها للاستقلال. وكانت منظمة الجيش السري OAS التي ناهضت بالقوة استقلال الجزائر قد طلبت رأسه. إلا أن أمله برؤية جزائر ديمقراطية واشتراكية لم يبارحه قط. وإلى هذه المرحلة من حياته يعود تاريخ عمله "الدين والسياسة عند ابن خلدون. دراسة في إيديولوجية الإسلام" Politique et religion chez Ibn  Khaldoun. Essai sur l idéologie musulmane.
وعندما خيَّمت ظلال الحرب الأهلية على الجزائر أسَّسَ في العام 1993 برفقة إتيين باليبار، وبيير بورديو، وجاك دريدا، وجان ليكا، وجمال الدين بنشيخ، وآخرين "اللجنة الدولية للتضامن مع المثقفين الجزائريين". وفي العام نفسه أسس لجنة تيقظ من أجل سلام حقيقي في الشرق الأوسط Comité de Vigilance pour une Paix réelle au Proche Orient.  وتوجّه في العديد من المرات إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة للتضامن مع الفلسطينيين، وبوجه خاص عندما حكمت سلطات الاحتلال الإسرائيلية تطويقها للقيادة الفلسطينية والرئيس ياسر عرفات. وكان حتى أيامه الأخيرة يقود حملة للتضامن مع الشيوعيين والثوريين الذين اختاروا العمل المسلح ضد النظام الرأسمالي والبورجوازية، وفي مقدمتهم جورج إبراهيم عبد الله الذي يمضي اليوم خمس سنوات إضافية بعد انتهاء خمسة وعشرين سنة من الحكم الصادر بحقه، وقادة منظمة أكسيون ديريكت Action Directe الذين أمضوا في السجون الفرنسية |أكثر من عقدين اثنين أحكاما بالسجن.
2)- دبكتاتورية البروليتاريا:
في هذه الأثناء، تصدى لابيكا لتخلي الحزب الشيوعي الفرنسي في عهد أمينه العام جورج مارشيه في منتصف السبعينات عن السياسة الثورية، وناهض اندماج الحزب ببنيات وأجهزة النظام السياسي البورجوازي. الأمر الذي قاده إلى الانسحاب من هذا الحزب تحت ضغوط القيادة التي كانت تمارَس عليه وعلى عدد من رفاقه لحملهم على الانسحاب منه، أو بالأحرى إلى طردهم من صفوفه. وكان أسَّس في تلك المرحلة مع عدد من رفاقه شبكة تُعْرَف باسم "من أجل الوحدة عبر النضال « Pour l’union dans les luttes ». يقول إتيين باليبار  Etienne Balibar في هذا المعرض: "وإني ما أزال أرى لابيكا، وهو ممن يصعب إسكاته، والذي يتمتع برباطة جأش في مواجهة كل الامتحانات القاسية، إني ما أزال أراه وهو يواجه الأمين العام جورج مارشيه، سريع الغضب، في اجتماع عاجل دَعَت إليه قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي من أجل إرغام المثقفين الشيوعيين  الذين كانوا يتجرؤون على انتقاد سياسته الانتهازية، وتفكيره الضيِّق، على الخضوع له". ويعود تاريخ هذه الواقعة إلى العام 1979، وهو تاريخ صدور عمل مشترك ساهم فيه لابيكا إلى جانب إتيين باليبار، وجان بيير لوفيفر، تحت عنوان: "لنفتح النافذة يا رفاق"
Ouvrons les fenêtres camarades
 
خلال السبعينات من القرن الماضي شَغَل مصطلح "اديكتاتورية البروليتاريا" حيزا هاما من المناقشات الساخنة التي كانت تسيطر على أجواء الشيوعيين واليسار الجذري في فرنسا. كان مفهوم "ديكتاتورية البروليتاريا" يلتهب مع اقتراب الانتصار الانتخابي ل/"وحدة اليسار"، وعلى رأسه الحزب الاشتراكي الفرنسي، بمشاركة الحزب الشيوعي الفرنسي كأحد أركانه. "وحدة اليسار" ذات البرنامج السياسي الموحَّد (أرغمت) الحزب الشيوعي على التخلي عن "ديكتاتورية البروليتاريا" في سياق الاستعداد للمشاركة في الحكومة، وخوض الانتخابات التشريعية، التي توِّجت آنذاك بانتصار "وحدة اليسار". هذا الحدث السياسي الهام يوافق، في نفس الوقت، تخلي الحزب عن هذا المفهوم. لكن اليسار الجذري في الحزب رفض الانصياع لقرار قيادة الحزب وعلى رأسها أمينه العام جورج مارشي Georges Marchais . التخلي عن هذا المفهوم، وما كان يرافقه من مناقشات حامية، لم يكن أمرا طارئا ومستجدا، طالما كانت تتقدم عليه مناقشات غيرها كانت تجري في الخفاء استعدادا للإعلان عن قرار الإلغاء. على رأس هذه المناقشات تتربع مسألة وحدة اليسار تحت قيادة حزب بورجوازي يزعم لنفسه أنه حزب اشتراكي، وما هو برأي أنصار التمسك ب"ديكتاتورية البروليتاريا" سوى سليل "الأممية الثانية"، وحفيد "الاشتراكية الديمقراطية" الألمانية. المسألة الثانية التي كانت تستقطب مناقشات الشيوعيين في حينه تتعلق بسؤال مفاده أن الشيوعيين يرفضون أم لا التحالف مع حزب بورجوازي يدعي أنه اشتراكي لتشكيل حكومة تَحْكُم فرنسا. هنا، تنقسم آراء الرفاق الشيوعيين بين مؤيد ومعارض لديكتاورية البروليتاريا". في هذا الوقت، تبلورت المواقف الرئيسة التي كشفت عن نفسها في ما بعد من خلال خطوط فصل معقدة ما بين هذه المواقف: رد الفعل الرئيس المعارض لحذف المفهوم يأتي من جهة أنصار لويس ألتوسير، ولاسيما مداخلات ألتوسير وإتيين باليبار  Etienne Balibar الذي نشر في حينه دراسة مطوَّلة في كتاب تحت عنوان "ديكتاتورية البروليتاريا". تيارات اليسار من خارج الحزب الشيوعي الفرنسي، من التروتسكيين إلى الماويين، والتي دخلت إلى ميدان النقاش من حيث هي "النقد اليساري"، تبنَّت بصورة واسعة مواقف ألتوسير وأنصاره. إلا أن التخلي عن هذا المفهوم بمبادرة من أمين عام الحزب جورج مارشي Georges Marchais حظى بتأييد المثقفين من أتباع قيادة الحزب، والذين نالوا من لابيكا تسمية "مثقفون هاي فاي HiFi"، وهم أيضا أنصار للشيوعية الأوروبية، وهم من المتعاطفين مع ألتوسير، منهم بخاصة كريستين بوسي غلوكسمان  Christine Buci-Glucksman ، ونيكوس بولانتزاز Nicos Poulantzas .
 
ثـاثيـاً: ديكتاتورية البروليتاريا من حيث هي ديمقراطية الحق
ديمقراطية الحق والعدل والمساواة لا تُنال إلا بالعنف الثوري. مكسيميليان روبسبيير مثال حي على ذلك طالما هو يَستبدل الإيديولوجية القضائية بالنضال من أجل التحرر والعنف الثوري التحرُّري.
 
1)- لابيكـــا الثوري المُزعِجْ: العودة إلى روبسبيير المُرْعِب
في سياق الأحداث التي كانت تجتاز القرن العشرين، ومنها "مُجَمَّع الدولة الفلسفي"، فإن تعبير "ديكتاتورية البروليتاريا" هو الذي كان يَشْغَل حيِّزا هاما في فرنسا خلال السبعينات من القرن الماضي. هذا الحيِّز من الوقت يتسع أمام المناقشات الساخنة حول مفهوم "ديكتاتورية البروليتاريا" الذي كان يلتهب مع اقتراب الانتصار الانتخابي الذي يُسَجَّل بأحرف بارزة ل/"وحدة اليسار" ولانتصار الاشتراكيين بوجه خاص الذين كانوا يستعدون لتحمِّل المسؤوليات الحكومية. هذا التاريخ يوافق في نفس الوقت استقرار رأي الحزب الشيوعي في ما يتعلق بالتخلي عن "مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا". التخلي عن هذا المفهوم، وما كان يرافقه من مناقشات حامية، لم يكن أمرا طارئا ومستجدا، طالما تتقدم عليه مناقشات غيرها كانت تجري في الخفاء استعدادا للإعلان عنه. هنا، في هذا الوقت، تبلورت المواقف الرئيسة التي كشفت عن نفسها في ما بعد من خلال خطوط فصل معقدة ما بين هذه المواقف، بين مؤيِّد ومعارض له:
 
رد الفعل الرئيس يأتي من جهة أنصار ألتوسير، ولاسيما مداخلات ألتوسير وإتيين باليبار  Etienne Balibar  الذي نَشر في حينه دراسة مطوَّلة في كتاب تحت عنوان "ديكتاتورية البروليتاريا". تيارات اليسار من خارج الحزب الشيوعي الفرنسي، من التروتسكيين إلى الماويين، والتي دخلت إلى ميدان النقاش من حيث هي "النقد اليساري"، تبنَّت بصورة واسعة مواقف ألتوسير وأنصاره. إلا أن التخلي عن هذا المفهوم بمبادرة من أمين عام الحزب جورج مارشي Georges Marchaisحظى بتأييد المثقفين من أتباع قيادة الحزب، والذين نالوا من لابيكا تسمية "مثقفون هاي فاي HiFi"، وهم أيضا أنصار للشيوعية الأوروبية، ومن المتعاطفين مع ألتوسير، منهم بخاصة كريستين بوسي غلوكسمان  Christine Buci-Glucksman ، ونيكوس بولانتزاز Nicos Poulantzas . مجلة "دياليكتيك" التي كانت تنشر مقالات لجورج لابيكا أصبحت حيِّزا رئيسا يستقطب هذه المناقشات المرتبطة إلى حد كبير بالمشكلات الاستراتيجية الصعبة التي كانت في حينه مطروحة أمام الحركة الشيوعية الأوروبية، والتي كان أيضا يشارك فيها ماركسيون أوروبيون من إيطاليا وإسبانيا وغيرها من البلدان. أيا كان الأمر، فإن الماركسية الفرنسية ما بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تَعرِف في حينه واحدا من ذرواتها.
 
موقف لابيكا حيال تخلي الحزب الشيوعي عن "ديكتاتورية البروليتاريا موقفٌ "لينيني" بامتياز. هذا الموقف يَظهر في نصوص نُشرت عبر مجلة "دياليكتيك"، وبالأحرى في مقدمته ل/"الدفتر الأزرق" للينين، والذي يُعْتبَر نصا يمهد الطريق أمام "الدولة والثورة"، والذي لم يُنشر في فرنسا ما قبل العام 1977 . فإذا كانت مقدمته ل/"الدفتر الأزرق" قريبة للغاية من أفكار ألتوسير وباليبار حيال "ديكتاتورية البروليتاريا"، إلا أنها تتميَّز عن غيرها من حيث هي تركِّز عملها بصورة أكثر كثافة حول المواقف اللينينية، وتسعى إلى الإمساك بها في سياق تاريخي فريد من نوعه، وفي صميم الماركسية الثورية. ذلك أن لينين كان يواجه حالة تاريخية لا سابق أبدا لها، تتميَّز بالحرب الإمبريالية، وتأثيراتها التي كانت تمتص طاقات وقدرات دولة القيصر، بالإضافة إلى ظهور سلطة مضادة بين صفوف جماهير معبأة. ما حَدا بلينين أن يمضي قدما على قراءة جذرية جديدة لنظرية الدولة في الماركسية. لينين، إذن، يعيد هنا على هذا الصعيد التأسيس من جديد للماركسية التي كانت عَرفت معه قراءة جديدة مع تَشَكُّل "نظرية الحزب" و"نظرية الإمبريالية".
 
2)- الممارسة السياسية من حيث هي مصدر للمعرفة متَّصِل بالنظرية
هذه المقاربة، وبالأحرى هذا المنهج يَضَع من جديد على مائدة البحث العمل الاستراتيجي في الموقف اللينيني. إن لابيكا ليس على منوال ألتوسير الذي يندب ديكتاتورية البروليتاريا بصورة عقائدية خارجة عن نطاق التاريخ، يَندُب تخلي الحزب عن مفهومٍ، إذ هو يُهدِّم أسس "النظرية"، فإنه يتهاوى أمام الهجوم "الرجعي". لاسيما وأن المسألة هنا تتعلق بمعرفة ما هو الهدف من ذبح ديكتاتورية البروليتاريا على مذبح من عقل دولة وحكومة تُبنى على التو. الأمر الذي يقود بالحزب الشيوعي الفرنسي إلى تدمير ذاتي من جراء تخليه عن كل استراتيجية ملموسة للقطيعة الثورية في مكان وزمان فريد من نوعه، ألا وهو المجتمع الفرنسي في السبعينات، مقابل المشاركة في حكومة برئاسة الحزب الاشتراكي الفرنسي، وتحت شعار "وحدة اليسار".
 
هذا الدرس لا تعوزه تتمة، ما دامت متابعته تظهر في اتجاهين اثنين يستجيبان لتطور الحالات التاريخية، من ناحية، بالإضافة إلى جدل العام والخاص الذي يلازم الموقف اللينيني، من جهة ثانية.  هذه المتابعة تصُبُّ، من جهة، في تحليل ملموس لوضع ملموس، هو أفضل ما توصَّل إليه المثقفون الماركسيون النقديون في فرنسا، والذي يظهر في كتاب تحت عنوان "لنفتح النافذة يا رفاق"، وشارك في تأليفه بالإضافة إلى جورج لابيكا، كلا من إتيين باليبار، غي بواGuy Bois ، جان بيير لوفيفر Jean Pierre Lefebvre. كتاب يَجْمَع ما بين دفتيه الفكر الاستراتيجي من أجل خط جماهيري موحَّد، ونضالي، غير انتخابي، وإن كان يحوز على الواقعية، والذي بقي مع الأسف دون غد. هذه المتابعة ستظهر من جديد، من جهة ثانية، من حيث هي في الظاهر رؤية تاريخية أكثر من غيرها، من خلال دراسة يخصُّها لابيكا لماكسيميليان روبسبيير Maximilian Robespierre ، والذي يصدر حينذاك مع اقتراب الاحتفال بمرور قرنين اثنين على الثورة الفرنسية.
 
مرة أخرى يركِّز لابيكا هنا على الصلة الوثيقة ما بين الفلسفة والسياق السياسي اللذين يلتقيان في حيِّزٍ يقف عنده القائد اليعقوبي (أنصار الدولة المركزية القوية) ماكسميليان روبيسبيير، وذلك في عمل له تحت عنوان "روبسبيير السياسة تقود إلى الفلسفة". الفلسفة هنا هي فلسفة القانون الطبيعي حيث يَستنِبط منها لابيكا، على منوال أرنست بلوخ ما تحوز عليه المساواة والديمقراطية من احتياطي هائل عبر حركة "صيرورة الشعب" التي تفشل بالوصول إلى هدفها حسب ما يَتَجسِّد عبر سيرة حياة "الحارس المُزْعِج" روبيسبيير. غير أن ما هو جوهري هنا هو، بخلاف ما يذهب إليه إرنست بلوخ، يُعْثَرُ عليه في قلب وصميم سياسة تقود إلى الفلسفة، (أو حسب ترجمة أخرى "سياسة الفلسفة") ما دام لابيكا يضع عقيدة الحكومة الثورية، وما يرافقها من حالة استثنائية مؤَسِّسَة لنظام جديد، في صميم وقلب سياسة الفلسفة (السياسة التي تقود إلى الفلسفة) . لابيكا هنا أقرب ما يكون إلى قِراءة أندري توزيل للفيلسوف الألماني كانط،، وقراءة زيزيك لكانط. إذ إن لابيكا يعيد مناهضة القانون بصورة جذرية في فكر/ممارسة روبسبيير، الى القطيعة مع الإيديولوجية القضائية: الديكتاتورية الثورية هي تعليق للقانون، وقطيعة جذرية، جوهرية، مع الحق حسب ما كان عليه في عهده السابق، وهي أيضا مخرج قاتل نحو ديمقراطية حقَّة. ذلك أن الحق لا يأتي من خلال الحق، طالما يبقى العنف الثوري ضرورة لا مفر منها، بل وإن هذا العنف الثوري ضرورة تأسيسية لتشييد نظام من نمط آخر، نظامٌ متحرر. إلى ذلك، فإن المختبئين وراء الإيديولوجية القضائية، على نقيض من روبسبيير وكانط، هم الذين يرون تناقضاً لا وجود له في الواقع، ما بين الديمقراطية والديكتاتورية الثورية، كما يرون تناقضا آخرا لا وجود أيضا له في الواقع، بين الديمقراطية والعنف المؤسِّس لعهد سياسي جديد بصورة جوهرية جذرية.
 
إن مقدرة نظرية الإحداث اللينينية ستشهد تطورا توضيحيا لها في نص تقرير عُرِضَ أمام ندوة كانت عُقِدَت تحت عنوان "لينين والممارسة العلمية"، بدعوة من مركز الأبحاث والدراسات الماركسية CERM التابع للحزب الشيوعي الفرنسي، وذلك في جامعة أُورسيOrsay  في العام 1970. شَهِدَت الندوة تعارضا ما بين التقرير الذي كان لابيكا قدَّمه أمام الندوة، وتقرير كان قدَّمه فيلسوف الحزب الشيوعي الفرنسي لوسيان سيف Lucien Sève الذي يتبوأ منذ طُرد روجيه غارودي Roger        من الحزب Garoudy مركز الفيلسوف الرسمي للحزب. لوسيان سيف هنا يشدُّ الحبل لجهة الموقع العلمي للفلسفة الماركسية والمادية، ليبلغ بحثه أوجهُ عندما يبلغ ذروته على عتبة قوانين الجدل ومقدرتها على التكوُّن. لابيكا من جهته كان يركِّز بحثه حول المادية والتجريبية النقدية في ضوء تأثُّره بأفكار لويس التوسير. فلقد شدَّد، على نقيض من لوسيان سيف، الإشارة إلى المفارقة الزمانية في مسعى لينين بين الممارسة العلمية، وبين ما تتركه هذه المفارقة من أثار في النضال الإيديولوجي والسياسي. 
 
ها هنا لابيكا يسلِّط الأضواء على "المقولات الإرشادية" التي تأتمر بها نظرية الإحداث، وفي مقدِّمة ما تأتمر به تأتي "المادة" التي تأمر "المادية" التي يدافع عنها لينين، ثم تندرج في الميدان الفلسفي من حيث هي مفهوم عن المصارعة، أو من حيث هي مصارعة في الميدان الفلسفي، حيث أن ما يميز الماركسي في ميدان الفلسفة هو "عقل الحزب". هنا تعود "العصبية" لدى ابن خلدون بالظهور مجددا بعدما تكون اندرجت ب"الدعوى"، هذا، إن لم تكن الدعوى منقادة للعصبية: فإذا كان "عقل الحزب" عاجز عن الانفصال بصورة كلية عن الدعوى، فإن "عقل الحزب" لا يشكِّل في الواقع توكيدا للتضامن العضوي للمنظمة، وهو غير مهتم بالدفاع عن "خط الحزب" أو "خطَّه الرسمي"، أو "خط القيادة"، لكنه مُلزَم بالضرورة باستيعاب خاصية "عقل الحزب"، وتوكيدها من حيث هي (الخاصية) بصورة لا مفر منها، وأنها منحازة للمعرفة ومدافعة عنها، من حيث هي معرفة موضوعية و"مطلقة"، مندرجة في الوضع الذاتي لإنتاجها من حيث هي الحقيقة.
 
إن المادية والتجريبية النقدية ما هي سوى مداخلة أو رد كان يراد منه إنجاز مهمة لعامة الشعب ضمن منازعة فلسفيةُ، وذلك بصرف النظر عن الرهانات التي ترافق هذه المنازعة، والتي تتخطَّاها، ثم لا تلبث أن تدخل في حالة الغيبوبة. وعلى هذا النحو أيضا، فإن لينين يقرأ من حيث هو مادي الجدل لدى هيجل، ويسجِّل ملاحظاته التي شُوِّهَت من قبل الناشر السوفياتي عندما أعطاها عنوانا دخيلا عليها، وهو "الدفاتر الفلسفية". هذه المدَوَّنات تأخذ مكانها لدى لينين في الممارسة من حيث هي إحداث لا يميِّز بين النظرية والممارسة. لابيكا، من جهته، يبيِّن في ما بعد أن هذه المدوَّنات شأنها شأن فقرات من "أنتي دوهرينغ" التي غالبا ما تعتَبَر نصوصا فلسفية، نصوصا حول "المادية الجدلية"، وغالبا ما كان الناشر السوفياتي يدرجها عن غير وجه حق في أنساقٍ لنظام كانت تُجْمَع لتُنشَر تحت عنوان "جدلية الطبيعة". ثمة هنا، عبر "جدلية الطبيعة" للينين شاغل ذات صلة بعمل تأملي لمكتسبات العلوم الحديثة المهتمَّة بإحباط محاولات المثالية لانتزاعها منها كعلوم، بما في ذلك تلك التي يأتي بها العلماء أنفسهم.
 
إن المحصِّلة السياسية لهذه التطورات تُقرأ ما بين السطور في النقاش الذي كان يدور حولها في مطلع السبعينات من القرن الماضي. إنها ستظهر إلى العيان في نصوص نُشرت ما بعد القطيعة مع الحزب، وبوجه خاص في "الماركسية اللينينية" لجورج لابيكا. هذه النصوص تردُّ على الهزيمة، هزيمة داخلية في المقام الأول، طالت الحزب الشيوعي في نهاية السبعينات. فقد ظهرت "الفلسفة الماركسية" كمؤسسة، إلا أنها لم تكن في واقع الأمر سوى تحول ل/"عقل الحزب" إلى أُرثوذكسية تنظيمية، وعقيدة رسمية تُسمَّى "الماركسية اللينينية" يُراد منها منح المجموعة القائدة في الحزب شرعية يَفِيد منها الأمين العام للحزب جورج مارشي. هذا التحوُّل الذي يطرأ على "عقل الحزب"، وهو يشبه هيجيلية الفقراء، يُقَلِّص "عقل العصبية" و"الدعوى" حسب ابن خلدون إلى دعاية رخيصة. دعاية يراد منها السيطرة على عقل الشعب تحت اسم "المادية الجدلية، وتَستخدم وحدة النظرية والممارسة بالاعتماد على صياغة تبرِّر بصورة بَعدِيَّة (نقيض القَبْلِية) الخيارات التكتيكية للقيادات الحزبية. هذا هو ما حَدَثَ من جراء "مادية جدلية" و"قوانين للجدل"، وغيرها من أسس الفلسفة الماركسية، شكلية وعقيمة، تَخْنُقُ بأغلالها الطاقة الهائلة لمعقولية النظرية.
 
إن تحويل الماركسية إلى فلسفة ما هو سوى الوجه الآخر ل/"عقل الدولة التبريري". هنري لوفيفر هو صاحب هذه الأطروحة التي تحظى لدى لابيكا على معناها العميق والواسع، طالما هي تسمح بالكشفَ عن القطيعة العظمى ما بين لينين وستالين، إن لم يكن الخراب الذي يفصل ويقطع ما بين لينين وستالين. إنها، بوجه الدقة، هي التي تسمح بتفحص موقع النظرية دون أن تقع في "انحراف نظري" على حد قول لويس ألتوسير الذي يَعْتَبِرُ الستالينية انحرافا فلسفيا، وسقوطا جديداً إلى التطورية اللاهوتية، وعودة إلى المذهب الاقتصادي (أو الاقتصادوية) التي كانت شائعة خلال الأممية الثانية. فما هي الظروف التي تَحدُّ هذه القطيعة ما بين لينين وستالين، أي معرفة الهزيمة التي تشكِّل مسمَّى هذا الخراب، والتي انتهت إلى انهيار الأمل الذي كان يعوَّل عليه من وراء أكتوبر 1917. 
 
3)- مـاركـســـية مـخـــتبئة تحـــت الأرض: الماركسية والشيوعية لا تنفصلان
إلى هذه الفترة أيضا يعود تاريخ الإعداد للمعجم النقدي للفلسفة، والذي صدر في طبعنه الأولى في العام 1983 قبل أن يُترجم إلى العديد من اللغات، منها اللغة العربية. ويَسَبق هذا العمل من حيث توقيته "قاموس التاريخ النقدي للماركسيات" Historiches Wörterbuche des Marxismus  قيد الإنجاز، والذي يصدر تباعا في ألمانيا تحت إشراف صديقه. إن "معجم الماركسية النقدي" يستحق اليوم، كما يقول لابيكا نفسه مخاطبا فولف فريتز هوغ بلهجة ممازحة، اسم قاموس لاببكا، أسوة بلاروس، وليتري، طالما لم تُنشر مواده إلا بعد مراجعات ومناقشات مطولة في بعض الأحيان ما بين كاتب المصطلح ولابيكا الذي يتحمَّل مسؤولية الدفاع عن كل مضامين هذا المعجم بصورة كاملة، من حيث هي تنسجم مع تحليله ونقده للأعمال الماركسية. فلقد ساهم هذا المُعجم، الذي كان يُعتبر رجعيا وتحريفيا في الدوائر الرسمية بموسكو وغيرها من بلدان حلف وارسو، في إحداث تغيير جذري لقراءة أعمال ماركس وإنجلز وغيرهما، ولفهم تاريخ الماركسية والحركة الشيوعية، وذلك باعتراف مثقفين شيوعيين وماركسيين كثرٌ.
ينتقد لابيكا في أعماله الماركسية في أنماطها الأكاديمية والتحليلية والاقتصادية والفلسفية والمنطقية. ويرى أن الماركسية المُختبأة تحت الأرض Under Grund ، أو تحت أثقال مكوَّمة من الفلاسفة الماركسيين والجامعيين وغيرهم، بما في ذلك الستالينية، قد حجبت عن الحركة الثورية ما يربط أعمال ماركس وإنجلز أو الماركسية بالشيوعية من رباط وحدة. كما شوهَّت الحيز المركزي للممارسة أو لفعل الإنسان في الطبيعة والمجتمع والتاريخ في بلورة الوعي والنظرية، ورجَّحت كفة النظرية والنسقية الفكرية والمنطقية على التاريخ وما يحمله من تطور وتغيير. ذلك أن الشيوعية على حد قوله، من حيث هي أعلى درجات الوعي النظري وقد تحوَّل إلى ممارسة سياسية منسجمة مع المعطيات المادية للتاريخ، هي هدف الماركسية. إذ إن المادية التاريخية توحِّد ما بين الذات والموضوع. النظرية الواعية ومادة التاريخ ومكوناته. والوعي ينتقل مع المادية التاريخية التي تُسجِّل لثورة ابستمولوجية تقطع مع الفلسفة والإيديولوجية القضائية، والعلوم الإنسانية، لتنتقل من حيز النسقية الفكرية والنظرية، إلى المجتمع، القوى المنتجة، الطبقة العاملة، والحزب، من حيث هي مصادر المعرفة، بعدما كانت الفلسفة والإيديولوجيا تنفرد باحتكارها للمعرفة وتشويهها لأسباب طبقية. الشيوعية كما يرى لابيكا هي اليوم الحل للخروج من هذه الكثرة المتضاربة والمتنازعة من القراءات الماركسية. وقد انتقد ما بعد سقوط حائط برلين أعداء لينين مبيِّنا أن فلاديمير إيليتش أبعد ما يكون عن الجمود اليقيني الذي لحق به تحت تأثير الستالينية. وثابر عهد لابيكا في نهاية الستينات، على العمل من أجل استعادة المادية التاريخية من المثاليين والماديين الآليين والاقتصاديين، وانتقد فلسفة البراكسيس، كي يبيِّن أن الأولوية في المادية هي للتاريخ وللممارسة حسب ما يبيِّنه في عمله "كارل ماركس. أطروحات عن فويرباخ" Karl Marx. Thèses sur Feuerbach، أي لما يُحْدِثُه  الإنسان في الطبيعة، والمجتمع والتاريخ  الذي يفرض صراعاته وتناقضاته على السياسة. حتى أن نقاد لابيكا خلطوا ما بين لابيكا وألتوسير واعتبروا أن الأول كالثاني ينحرف بالماركسية في انحراف سياسي. إلا أن مثل هذا النقد وإن كان يصح في ألتوسير، طالما يَعتبر هذا الأخير أن الصراع الطبقي ذا طبيعة ثقافية وإيديولوجية، فإنه يُغفِل أن السياسة لدى لابيكا هي نفسها المادية التاريخية، من حيث هي نمط الإنتاج، وصراع الطبقات، وموازين القوى، والتجديد، والوعي المزيف أو نقد الإيديولوجية البورجوازية، والتطور، المادية، الدولة والثورة، وغير ذلك من حدود مادية متغيِّرة الأشكال عبر الزمان والمكان.  فإذا كان خيار ألتوسير للإنسان السياسي يقوده إلى دراسة "الأمير" لماكيافيلي، فإن لابيكا يسير في الاتجاه المعاكس لألتوسير، إذ هو يختار (الإنسان الدموي والمرعب)  في دفاعه عن ديمقراطية حقة وعادلة، لا تُنال إلا بالعنف الثوري التحرري، على غرار تجسُّدها في سيرة حياة روبسبيير.
 
4)- لابيكا رفيق المضطَهَدين والمُسْتَغَلِّين منبوذ من البورجوازية
إلى هذه الثورية في نشر الماركسية والشيوعية في طريق مخالف للجامعيين وغيرهم من أكاديميين وقادة أجهزة حزبية وثقافية ونقابية، يعود السبب في مقاطعة أجهزة الإعلام الرسمية وشبه الرسمية للابيكا وأعماله، لاسيما وأنه يدعو إلى ديمقراطية جذرية يُطلق عليها اسم ديمقراطية العدل حسب ما يظهر في عمل له تحت عنوان "الديمقراطية والثورة"Démocratie et révolution، ويدافع عن العنف الثوري في مواجهة كل أشكال العنف الأخرى يتقدمها نمط الإنتاج الرأسمالي، كما جاء في إنتاجه الأخير تحت عنوان "نظرية العنف" Théorie de la violence. . يفنِّد أيضاً ديمقراطية السوق ونظامها الانتخابي في فرنسا (على سبيل المثال: "في قبو الأعمى"، الحوار المتمدن، العدد 1889). ولما كان لابيكا يَنبش – إن صح التعبير - في ماركسية مختبأة تحت أرض الجامعات والأحزاب الشيوعية وغيرها من المؤسسات السياسية والثقافية، فإن أعماله لم تجد طريقها إلى الشهرة التي رافقت أعمال غيره من الماركسيين والشيوعيين. على سبيل المثال، فإن صحيفة لوموند حظرت نشر اسمه على صفحاتها منذ منتصف الثمانينات. ولم تأت على ذكر لوفاته وأعماله في مقال مختصر يعرض لسيرة حياته وإنتاجه إلا بعد مرور الشهر الواحد على 12 شباط/فبراير 2009. ولم يُنشر، علاوة على  ذلك، هذا المقال في الصفحات الثقافية، أو منبر الآراء. وامتنعت صحيفة ليبراسيون اليسارية (كذا) عن التنويه بوفاته. لابيكا بالرغم من أنه كان يقود "مركز دراسات لتاريخ الأفكار" في المركز القومي للبحث العلمي  CNRS ، وهو أستاذ ذو كرسي في جامعة باريس العاشرة طوال ثلاثين سنة، وأستاذ في إحدى أعلى المدارس العليا في فرنسا، المدرسة العليا للأساتذة ENS ، لم يَظهر على شاشة التلفزيون الفرنسي بجميع قنواتها الرسمية والخاصة إلا مرة واحدة. إن هذه المقاطعة لإنتاجه تعود، بين أسباب أخرى، إلى تبنيه لديكتاتورية البروليتاريا التي لم تجد طريقها إلى الواقع حتى اليوم بما في ذلك في عهد لينين حسب ما يبيِّن ذلك، وإلى أنه يَعْتًبر العنف الثوري الأسلوب الوحيد الذي يَفرض نفسه على المعذَّبين والمستغلَّين في مواجهتهم لعنف نمط الإنتاج الرأسمالي وأجهزته الإيديولوجية.  فلقد دافع بقوة عن حرب تموز/يوليو 2006 في جنوب لبنان كما يتضح ذلك على سبيل المثال في مقال له تحت عنوان "لبنان"(الأخبار"بيروت، 6 تشرين الأول/أكتوبر 2006). وحارب الغزو الأمريكي للعراق حسب ما يتبين ذلك من مقال له تحت عنوان "العراق هو البرهان"، يحدوه في ذلك كله اعتقاد مؤداه أن الإسلام مناهض للإمبريالية حسب الأنماط اللبنانية والفلسطينية والعراقية، وأن من السهل على الإمبريالية أن تحارب الدين، لكنها لا تستطيع أن تأتي على المقاومة، على حد قوله في الحوار الماثل بين أيدي القارئ.
 
لكن إنتاجه بالرغم من هذه المقاطعة قد شق طريقه في مجالي الثقافة والسياسة عبر الحركة الثورية بجميع امتداداتها وأنماطها، من حركة التحرر الوطني إلى مناهضة العولمة مرورا بالأحزاب الشيوعية الثورية. "كان جورج لابيكا من كبار المدافعين عن شعوب العالم الثالث، ويدعو إلى النضال بقوة وبجميع الأشكال ضد الأمبريالية"، على حد وصف صحيفة التيار الأحمر في أسبانيا له (كوريينتي روخا  (Corriente Roja " . إنه أحد أكثر الفلاسفة الماركسيين ابتكارا وموهبة في القرن العشرين"، كما تصفه الصحيفة الشيوعية في البرتغال أُودياريو   Odiario "لقد توفي المفكر البارز والمناضل المناهض للرأسمالية، الماركسي من الأصل القح. وكالمعتاد، فإن الأجهزة الكبرى للإعلام قد خرست" حسب ما كتبت باكيتا آرماس فونسيكا Paquita Armas Fonseca . وتقول من عاصمة فنزويلا كاراكاس منسِّقة "شبكة المثقَّفين والفنانين للدفاع عن الإنسانية Red de Intelectuales y Artistas en " defensa de la Humanidad  كارمن بوهوركيز Carmen Bohorquez "كان جورج لابيكا الذي يُعرَّف نفسه بوصفه مناضلا مناهضا للاستعمار والإمبريالية بمثابة الضوء الذي يقود بأفكاره وأقواله  ويُرشِد عبر هذه الأزمنة المرتبكة الحائرة إلى الماركسية، ليس باعتبارها فقط الأداة الوحيدة الصالحة لتحليل المجتمع الرأسمالي، وإنما من حيث هي أيضا تسمح باستيعاب وفهم الأسباب التي من أجلها لحقت الهزيمة بالتجارب الاشتراكية".
إن الأصالة القحة في أعماله تعود إلى أوجه الاختلاف عن غيره من الماركسيين، وفي مقدمتهم لويس ألتوسير. إنها تعود إلى كشفه من جديد عن خفايا المادية التاريخية التي اندثرت تحت ساحة الصراعات. إن لابيكا يقول بأن المادية التاريخية تشكل مخرجا من الفلسفة، في عمله "الوضع الماركسي للفلسفة"Le statut marxiste de la philosophie   . وفيما يخرج ألتوسير من الفلسفة ليدخل إلى العلم بمعناه الجامد، وليقيم فيه بصورة نهائية،  فإن لابيكا يخرج منها ليدخل إلى نقد الاقتصاد السياسي أو علم التاريخ، أي إلى العلم  بمعناه المتحرك من حيث هو إحداث الإنسان في عالم الطبيعة والمجتمع. ويترتب على ذلك، أن ألتوسير ينبذ الإيديولوجية بصورة نهائية، ما يحمل لابيكا على انتقاده طالما تظهر الإيديولوجية تحت شكل التيمية للبضاعة في نمط الإنتاج الرأسمالي، بما يؤكد أن لا مناص منها. ويتحول العلم كما يرى لابيكا في أعمال ألتوسير إلى مذهب يقيني يَزعم أنه يحوز على الحقيقة دوما. وإذا كان لابيكا يَعتبر أن الفلسفة هي الجذر التربيعي للإيديولوجية، فإنه لا يَلغي  بالمقابل الإيديولوجية طالما يبقى الصراع الطبقي ملازما لنمط الإنتاج الرأسمالي وبنياته العليا. وبخلاف ألتوسير الذي ينتهي به الأمر إلى تعريف الماركسية بأنها فلسفة علمية بالمعنى الستاليني، طالما تأخذ أعماله بالتمييز ما بين المادية التاريخية والمادية الدياليكتيكية، وتميَّز في الوقت نفسه ما بين الفكر والمادة. وهو الأمر الذي يقود، كما يذهب لابيكا، إلى شتى أنواع الانحرافات. كلا، إن المادية التاريخية تناقضات مجتمعية وصراع طبقات تلازم الواقع، وليست منفصلة عنه في نظام من المنطق. ولأنه يعطي هذه الأولوية للتاريخ وما يحمله من تطور وصراع، وكان لا يميز ما بين الوعي والمادة، وما بين الذات والموضوع، فإنه يدعو على هذا النحو إلى تغيير للعالم بلا معلم يتربع على عرش الحركة الثورية ليملي عليها وصفاته الجاهزة، لأن التاريخ هو وحده معلم الثورة، كما علَّمت الكومونة في فرنسا، وثورة عمال النسيج في ألمانيا، كلاً من ماركس وإنجلز، بأن عهد الفلسفة قد انتهى ليترك المعرفة والممارسة للمجتمع وقواه الثورية، أو كما علَّمت ما قبل ذلك الثورة الفرنسية (1789) ماكسمليان روبسبيير أن السياسة والممارسة الثورية هي مصدر المعرفة Robespierre. Une politique de la philosophie  "السياسة للفلسفة، بيروت، دار الفارابي".
 
حسان خالد شاتيلا
نيسان / أبريل 2009 – يناير/كانون الثاني  2016
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري


.. عمران خان: زيادة الأغنياء ثراء لمساعدة الفقراء لا تجدي نفعا




.. Zionism - To Your Left: Palestine | الأيديولوجية الصهيونية.


.. القاهرة تتجاوز 30 درجة.. الا?رصاد الجوية تكشف حالة الطقس الي




.. صباح العربية | الثلاثاء 16 أبريل 2024