الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صوت انتخابي

عدنان اللبان

2016 / 1 / 21
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي



تبادلت القبل مع الرفاق الاربعة الموجودين في المقر وشعرت بان دخولي لم يكن في وقته : آسف اخاف عدكم شغل ( اجتماع ) ؟ انتظركم بالغرفة الثانية .
جليل : لا عزيزي اي شغل ؟ قابل راح اندك نعلجات للعملية السياسية . ( النعلجة مسمار ثلاثي الرؤوس يثبت تحت قاعدة الحذاء للحفاظ عليه من الاستهلاك السريع ).
وأكمل : الرفيق جبار شوية عصبي على هذا وضعنا التعبان .

جبار في العقد الرابع ومن عائلة فلاحية . كان والده شيوعيا ورغم تعرضه للاعتقال والتعذيب لم يسجل بعثيا , وقع لهم تعهد يلتزم فيه بعدم العمل في الحزب الشيوعي . جبار بعكس والده فمنذ نشأته سجل بعثيا , كان يحاول ان يقنع والده بعد ان اقنع نفسه بأنه سجل نتيجة ايمانه بمبادئ البعث , وليس نتيجة الخوف من ان يتعرض لما تعرض له والده . ورغم محاولته في ( كسب ) والده ليكون بعثيا , ونقل ما يدور في البيت او في القرية الى جهاز الامن . الا انه لم يفلت من المراقبة والاستدعاء للتحقيق حتى بعد وفاة والده في اواسط التسعينات . اي بعد ان فككت الانتفاضة الكثير من روابط النظام , وأثقل الحصار على انفاس الجميع .

بعد ازاحة صدام اخذ يردد بأنه : يتعذب كثيرا لان والده انتقل الى رحمة الله ولم يكن راضيا عليه , سمعت هذا مرارا منه . في عودتي الاولى بعد سقوط النظام عام 2003 تعرفت عليه حيث كان صغيرا عندما تركت المدينة عام 1978 . اخذته بالأحضان وأنا اعيد عليه : يا ابن النبيل , يا ابن البطل . وصادف ان كان موجودا معنا في احدى الدعوات في بيت احد الرفاق , وكان النقاش عميقا حول الفروقات في التكوين الشخصي بين الذين استمروا تحت سطوة النظام وفقدوا اغلب الممكنات للعيش مثل باقي البشر , وبين من اتخذ قراره في مغادرة العراق او الاختفاء والالتحاق بقوات الانصار في كردستان .
كان الجميع منكسرين , ووجوههم كدرة , مهضومة , مستكينة . حاولت ان اخفف من كآبة الجو الذي ساد الغرفة فرفعت كأسي ونظرت اليهم : بصحتكم جميعا . كنتم جميعا ابطالا , فقد صمدتم وثبتم ولم تهتز قناعتكم , كنتم صادقين , وفي الصدق يتجوهر الفكر بالذات . جبار قفز بعجلة وأصبح عند مدخل الغرفة , وتناول فردتي حذاء وانهال بهما على هامته وهو يصرخ : منين اجيب ابوي حتى يسمع هذا الحجي ؟! مسكه رفيقان وسحباه الى مجلسه , يبدو انه شرب اكثر من طاقته , اخذ ينوح ويؤكد : ان الذي قتل والده هو التعهد الذي اخذوه منه . احد الجالسين ويبدو انه شرب كثيرا ايضا انتقده بمرارة وبحدية : مرة ثانية من تضرب نفسك اخذ حذاءين بلون واحد مو واحد احمر والثاني اسود . التعليق امتص التوتر وتحولت الجلسة الى استذكار الكثير من المواقف الهزلية مع البعثيين .

انتعش عندي الامل وانا اسمع جبار يناقش بكل هذه الحمية , وينتقد بحدة السلوكيات غير المبدئية لبعض الرفاق وقد سحبها على سياسة الحزب ككل . ومن جانب آخر كان لأسلوبه الرافض الذي لا يقبل برأي غيره حتى من قبل رفاق والده الذين يمتلكون تاريخ حزبي ويعرفون اصول العمل السياسي ما جعلني اتحسس صعوبة طريق اعادة التنظيم , وأرجعت ذلك لفوضويته التي تندفع بدون تروي .

استغربت ان لا احدا منهم اجاب جبار عن اتهامات تساؤلاته , ونبرته التي ارتفعت اكثر ربما بسبب قدومي . وبإشارة من جليل فهمت ان لا اعير اهتماما لما يقوله .
جبار كان من بين الذين تقدموا بطلب للحصول على راتب تقاعدي , وهو فلاح , والفلاحة اصبحت مهنة كاسدة نتيجة استيراد حتى الخضروات والفواكه الطازجة وبأسعار تقل عن سعر المنتج المحلي . لم يكتف بانتمائه للحزب بل جاء بابنه الكبير ايضا , ونشط وسط الفلاحين الذين ترك اغلبهم الزراعة واخذ يتسكع في مقاهي المدينة ويبحث عن اية وسيلة لتعيين ابنه في وظيفة حكومية بعد ان اصبحت هي المصدر الوحيد لضمان العيش . احدهم باع ال تراكتور الذي يملكه وتعتمد القرية عليه في حراثة ارضها كي يدبر مبلغ الرشوة ثلاثة آلاف دولار التي طلبوها منه لتعيين ابنه شرطي , وآخر باع الثلاث بقرات التي يملكها ومعهما ثور التلقيح كي يجمع رشوة تعيين ابنه جندي . جبار لم تكن لديه هذه الامكانية , فهو من عائلة فقيرة , الا انه تمكن من اعادة الصلة الحزبية ببعض الشيوعيين ممن كان على اتصال بوالده , وشكل خلية من ثمانية رفاق , وفي احدى المرات اكتشفه احد الرفاق بأنه يدفع من جيبه على انه تبرع من اصدقاء . كان جبار رغم عصبيته خدوما ويحاول مساعدة الآخرين , فعند قدومه الى المقر يضع عقاله وكوفيته وسترته وعباءته على جنب , ويشيم الآخرين على مساعدته لكنس وغسل غرف المقر وساحته , خاصة بعد الايام المغبرة او قبل القيام بفعالية جماهيرية كأن تكون احتفالا بعيد ميلاد الحزب او بثورة 14 تموز .

بعد ذهابه سكت الجميع , ونظرت في عيني الرفيق جليل متسائلا , فتشاغل في البحث بأدراج الطاولة التي يجلس خلفها وظننته يتهرب من الاجابة , الا انه اخرج ورقة وقدمها لي وكان مكتوبا فيها :
الرفاق الاعزاء
تحية طيبة
لا يخفى عليكم كثرة ملاحظاتي وتوجيهاتي لعمل الحزب وعدم الاستجابة لها . اضافة لانشغالي بكثرة مسؤولياتي مع عائلتي الكبيرة فأرجو قبول استقالتي من الحزب وتزويدي بكتاب يؤيد ذلك ولكم الاحترام .
رفيقكم
جبار حسن عباس 19 / 3 / 2014
عرفت من جليل ان جبار حصل على تقاعد مليشيات الدمج من خلال ترشيح الحزب له , ولكن لا احدا يعرف كيف حصل على رتبة مقدم وهو الذي لم يكمل السادس الابتدائي . استمر بدفع بدل اشتراكه في الحزب بعد استلامه اول راتب لمدة اربعة اشهر بشكل اعتيادي . لكنه بعدها اخذ يدفع بدل الاشتراك ناقصا خمسة ثم عشرة آلاف , وتكررت عدة مرات . وأضاف جليل , اضطررت لمفاتحته كون هناك غلط في الحساب وأنا اعرف انه تقصدها . ثار في وجهي , واتهمني باني اخوّنه او انتقص منه , وعند خروجه أكملها : آني اذا ما اريد ادفع منو يجبرني ؟! لم نعد نراه لا هو, ولا ابنه , ولم نعرف منه اسماء الاصدقاء المتبرعين , ومجموعته من الفلاحين تبعثرت ولم تعد تلتزم . كان يأتي يوميا الى المدينة ولكنه لم يأتي الى المقر ولم يعد يدفع الاشتراك , وعندما قابلته في السوق تشاغل كي لا يسلم علي , سلمت عليه وطالبته ببدل الاشتراك , ووعدني بأنه سوف يأتي الى المقر . ولكنه لم يأت لأكثر من السنتين والنصف الماضية .
سألته : لماذا لم تطردوه ؟
جليل : عدة مرات اطرح اسمه وأسماء آخرين قطعوا علاقتهم بالحزب , جاءوا لكي يحصلوا على وظائف , وطلب مني احدهم ان اسجله مع العصاة ويقصد الانصار . طلبت طردهم ولا احدا يقبل , وفي المرة الاخيرة طرحت الموضوع على احد المسؤولين بعد ان شرحت له تفاصيل وضعية جبار . فأجابني : لالا , لا رفيق , على الاقل يبقى صوت انتخابي . علما انه في الانتخابات الاخيرة انتخب دولة القانون هو وكل عائلته , وعندما سوئل من احد الرفاق لماذا لم ينتخب الحزب ؟ اجاب : انا متأكد من ان الحزب لن يفوز , فلماذا لا اعطي صوتي الى حزب استفيد منه ؟
سألته : اذا كان قد ترك الحزب طيلة هذه الفترة , فما فائدته من كتاب يؤيد استقالته ؟!
جليل : لكي يريه لمن انتخبه , فقد وعدوه على قبول ابنه في العسكرية او كلية الشرطة . وهنا ادركت سبب مرارة جليل عندما علق : " قابل راح اندك نعلجات للعملية السياسية "؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شولتز: المساعدات الأميركية لا تعفي الدول الأوروبية من الاستم


.. رغم التهديدات.. حراك طلابي متصاعد في جامعات أمريكية رفضا للح




.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة