الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سياحة فى الدروب الوعرة لنص - الأدب القبيح- للأديب التونسى/ أحمد بو قراعة

محسن الطوخى

2016 / 1 / 27
الادب والفن


سياحة فى الدروب الوعرة لنص " الأدب القبيح"
للأديب التونسى/ أحمد بو قراعة
السالك فى دروب النص كالساعي فى مسارب جبلية وعرة, على أن وعورة ومشقة التلقي مما يبهج النفس, وبقدر المشقة التى يتكبدها القارىء فى فك طلاسم النص, بقدر المتعة التى يعاينها فى إجلاء الفكرة, وكشف مرامى السرد. وليست كل مرامي السرد مما يجوز كشفه, لذلك كانت ضرورة اللغة التى توحي وتضمر, دون أن تصرح وتكشف. على أن النص هو رحلة غاية فى العذوبة فى صميم التجربة الوجدانية التى مر بها الشيخ الراهب وصاحبته العذراء "حوذة". وأجمل مافىيه الحبكة التى بررت التحول الحاد فى شخصية الراهب الشيخ. وترادف صفتي الشيخ والراهب مع الشخصية عربية الأصل يوحى بعموم التجربة, فهى لواعج وأشواق النفس الإنسانية فى تحولاتها المسكوت عنها. وإن كان الشيخ بدا فى النص كتاجر موسر يملك من المال والأتباع ما جعله يتسيد قومه ويقوم منهم مقام الناصح الآمر إلا أنى أميل إلى اعتباره راهباً من الرهبان, وإلا فكيف يصل إلى "حوذة" الراهبة التي ضنت بنفسها أن تمنحها للطامعين فوهبتها للدير تتعبد, بل أكثر من ذلك أن يقوم منها مقام المعلم .
والنص على ذلك يبدع فى الشكل السردي الذى يشبه أسلوب أمهات التراث فى العربية, فى الحكى والإسناد. ويحتاج القارىء إلى التركيز لتتبع انتقال السرد من راوٍ إلى آخر, والانتباه إلى أن الشخصيتين الرئيسيتين فى القصة و هما الشيخ, ورفيقته "حوذة" قد تم عرض ملامحهما على لسان أكثر من راو. فنحن نرى الشيخ كما يراه صفوان, ثم نراه من وجهة نظر ابن رحال عن صفوان, ثم نراه أخيراً كما تراه حوذة عن ابن رحال عن صفوان, ثم أننا نرى أيضا الشيخ من وجهة نظر الراوى الأصلى فى مقاطعته لصفوان, تلك المقاطعة التى استحق عليها التقريع " الحقيقى فى الناس صامت , لكن السخيف مهذار ثرثار " . والواقع أن شخصية "صفوان" نفسه طبقاً للوصف الذى قدمه به الراوى الأصلى تستحق التوقف عندها, فهو ممن لا يوثق فى ادعاءاته أو حكيه, ولابد أن يستقبل القارىء ماورد على لسانه بخصوص الشيخ وتابعته حوذة بعين الشك والتحليل, فالراوى ينعته فى مستهل السرد بواحد من مجانين المدينة, ويرجع جنونه لكونه مختلفاً عن الآخرين, غير متوقع السلوك, يسخر من معتقد غيره, إذا تألم الناس انشرح وابتهج, وإذا انشرحوا غم وعبس, وكان يقول إذا سئل عن جنونه: " لا يكون المرء عاقلاً إلا إذا كسر عقله " وهى عبارة مبهمة تنحو منحى أقوال المتصوفة التى تشير فى العادة إلى معان اصطلاحية تخالف فهم العوام لها. ثم أن الغرض من الحكاية داخل النص إنما كان لتسلية الراوى الذى يبدوا من الطبقة الأرستقراطية, تلك الطبقة التى كانت تقرب إليها الحكائين وأصحاب الملكات, أو غريبو الأطوار بغرض التسلية, وإزجاء الوقت, وكانوا على علو منزلتهم يستجيبون لنزوات تلك الشخصيات, فصفوان يبدو فى النص كأولئك الصعاليك الذين كانوا يتعيشون بالتقرب من ذوى الجاه, ويحرصون على إسماعهم كل غريب مهما شط وخالف العرف, وهى حيلة بارعة من الكاتب, فهو من خلال شخصية كتلك استطاع أن يسوق للقارىء تلك التجربة, بل ويوغل فى نفس الراهب الشيخ اذ يتحول من حال الزهد والتقى إلى حال الإنكار حتى ليوغل فى الخطيئة بعد أن نجح بلسانه الذرب فى إغواء "حوذة" لتتبعة فى رحلتهما التى حفلت بكل غريب, والتى عبَّر عنها الشيخ فى أكثر من مناسبة بأقوال وافقته عليها حوذة, ونهجت نهجه. فهو يعبر عن فلسفته الجديدة قائلاً بعد أن خلع رداءه الأسود وواراه التراب إشارة إلى هجره الرهبنة : " اذا كان وعد الأناجيل حقاً, فإن الساعة أصدق " . ويقول : " لو كان الوعد كالأولى لفسد ( فى تناص مع الآية رقم 5 من سورة الإسراء ) .. " إن الكون خيال باطل . الحق مانعلمه, والصدق مانبصره, واليقين ماصدقه العقل" . وتكون آخر عباراته الدالة على تحول موقفه من الإيمان إلى الإنكار : " اليوم ما يُدرَك . وما يُدرَك يُغْنَم . والغُنْمُ أبهى مما لا يحصل " .
نص ممتع ومرهق . أعتقد أن كاتبه تكبد أضعاف ما يتكبده القارىء فى إخراجه على تلك الصورة, فالحكاية لم ترد جافة تقريرية, وإنما وردت ضمن نظم حكائى جميل ومشوق على لسان صفوان, وتنوع السرد مابين الحاكى الأصلى وغيره من الأصوات كابن رحال الذى يصفه صفوان بأنه فى قومه كمسلم والبخارى, بمعنى أنه من ثقات الرواة, وراوٍ مجهول غير بن رحال يروى عن حوذة تحكى عن الشيخ, وتعدد الأصوات التى تبادلت الحكى يعطينا فكرة شاملة عن الشيخ بطل الحكاية, وصاحب التجربة. كما أن الأجواء التى صاحبت رحلة الشيخ بمفرده, ثم رحلته بصحبة حوذة إلى مدينة التجار, ثم مدينة البلهاء, ثم جولاته, ومحاوراته الداخلية بصحبة حماره, ثم رحلته الأخيرة وحيداً مفارقاً "حوذة", تلك الرحلة التى سبق وأنبأنا الرواة فى صدر القصة بالمصير الذى لاقاه فيها . " ومن الرّواة من قال إنّ ذلك الرّجل الفرد قد استرسَل في الضّحك ثمّ الشّهيق وعلا صوتُه حتّى أضجر ثمّ صاح وندب فامتزج الضحك بالنّديب، ثمّ ركض فوقع فصدمته أحجار الطّريق فتفصّد دم رأسِه وقال : " ضرابين يا قوم، فلا تظارفوا...ثمّ عَوى كالكلب ومات. فأزبد القوم صياحًا وغيْضًا نارًا تُرْمى بالقصب والهشيم وقالوا : " مَطّاخ ولئيم يلحنُ...ثمّ جرّوه كالدّابة وتركوه للسّباع تنهش جلده وتخرق أضلعه"
حكايات توشى السرد, وتمد القارىء بمتعة السياحة داخل عقل الكاتب, وداخل نفس الشخصية إلى أعمق أغوارها. تجربة ثرية على وعورتها, تجلى النفس الإنسانية في تحولاتها, وتكشف مأزق الإنسان مابين علم حاضر يضع الثمرة بين كفيه, وبين غيب يعده بما لا يقوم عليه دليل إلا حدس يقبع بين طيات الضمير.
نص القصة
الأدب القبيح
سامرني صفوان وكان من مَجانين المدينة، صريح اللّفظ غير كتوم اللّسان، يعتقد فيما ينكره النّاس، ويسخر من معتقد غيره. و ينصرف إلى ما لا يخطر ببال أحد. إذا تألّم النّاسُ انشرح وابتهج وإذا انشرحوا غمّ وعبس. خالف غيره الفكر والرّأي والسّلوك حتّى أضحى كشاذّ الإبل تنفر من حاديها. و كان يقول :شرّ ما في الناس أهيله.ولما سألت صفوان في جنونه قال :لا يكون المرء عاقلا الا اذا كسر عقله أو كان يقول: " رَضِيَ النّاس بظواهر العقل فنُعِتُوا بالحجى، ورفضت، فوُصِفْتُ بغير ذلك... ››. أو كان يردّد : ‹‹ لعن الله النّاس من لا تُغنيهم سوى الأباطيل، ليس من أشدّ لاَمِهٍ في الحياة أن يُشاطر النّاسَ الفردُ بعد عشرتهم الرّأي، وتنبسط روحُ العبد بعد الاِمتحان لهم. شهد النّاسُ أنْ ليس كمثلهم رذيلة في الوجود. لعن الله من نطق فهذر، أو فكّر فَأَبْلَدَ، أو سلك فأخطأ، أو أعطى فأخجل أو جَاهَدَ فقال إنّي الجهاد."
قلتُ يا صفوان دَعْنِي, إنّ النّوم راود أجفاني فحدّثنِي حديثًا إذا سمعتُه طربت وأعجبني وإذا فرغتَ أخذني النّدمُ بقائِي حيًّا أصغِي وأنصِتُ, قال صفوان :
هي الأيام تُسمعكَ فتبهجَ ثمّ يَحْصُل النّدم، كالدّهر يُبْلِي يومًا فنقول كان يومًا, ثمّ نسخر لجهل ملكنا بل ربّما لعلم بسرّ الحياة...سخرية الوجود وهبل العقل ومأساة الفناء, قلتُ: حدّثنِي حديثًا أذكره غيرَ نفسي، ولكنّه قال : بل هي نفس غيرك، وأنتَ. ثمّ قال :
زعموا أنّ في أرض طاهرة كان يعيش في عصر مضى شيخ عربيّ قد تهوّد. ومن النّاس من ادّعى أنّ اليهوديّة شجرة نسبه ومنها ينحدر فهو من الكهّان. وضجّ النّاس في طلب عِرقه. و قال العَربُ ليسَ منّا، ليسَ فينا من نحا نحوه في الحياة إلاّ واحد قال : " لا تقيّدوا عليَّ كلامي فإنّ كلامِي كغيري سرّ وإيجاز الرّمز وألغاز." ومن الرّواة من قال إنّ ذلك الرّجل الفرد قد استرسَل في الضّحك ثمّ الشّهيق وعلا صوتُه حتّى أضجر ثمّ صاح وندب فامتزج الضحك بالنّديب، ثمّ ركض فوقع فصدمته أحجار الطّريق فتفصّد دم رأسِه وقال : " ضرابين يا قوم، فلا تظارفوا, ثمّ عَوى كالكلب ومات. فأزبد القوم صياحًا وغيْضًا نارًا تُرْمى بالقصب والهشيم وقالوا : مَطّاخ ولئيم يلحنُ...ثمّ جرّوه كالدّابة وتركوه للسّباع تنهش جلده وتخرق أضلعه.
كان الشيخ صاحب مَال وفير، تضرب قوافله في الأرض شرقًا وغربًا، وربّما ملكت الجهات أجمعها دون أن تشهد الضّياع أو الخسران. كان له من الرّجال عدد ابتاع جهدهم بما يُغنيهم عن الجوع فزاد الثّراء وضجّت الخزائن. و كان على رزقه الكثير وماله الوفير بخيلا سحاب صيف لا يُمطر وغيَّمَ وحمّل السّماء مَا لاَ تطيق. سيَّدَهُ المالُ قومَهُ وادّعى القسطاسَ فحكم. فأمسى قدّيسًا في أرض مُباركة و مقدّسة. و صاح في قومه حتّى غرَّ ريقه : " ظلفُ النّفس فاتّبعوني أهدكم اللاّحب ". ثمّ ادّعى الحكمة فعلّمها النّاس قال : "متى تزوّجت السّماء الأرض أزهرت فاسلكوا هذا النّحو و لا تكونوا من الجاحدين". و بَات ليالِيه يهذر بحكمة الربّ في الأكوان ويطوف الأيّام الشوارع حتّى أعياه الجري، ثمّ شاخت أيّامه وبلت ساعاته ، أقعدته، اتّخذ حمارًا يركبه.
و مضت السّنون حتّى كان عامٌ سَادَهُ القحط والجدب والحمار بين الدّيار يضرب وجلده العود يخز تآكل وهزل وكَادَ يهلك. قال النّاس: أيّها القدّيس الكبير أقعدتك أيّامك, حملك فهلاّ أطعمته ؟ فكان يقول : " تبًّا للنّاس أبناء الحمير. أأطعمه وتزهّدتُ في كلّ طِيبٍ وطَيّبٍ، ومسكتُ عن نفسي لَذَائذَ الحياة ! ويل للحمار ألاَ يُغنيه التّراب "
عند ذلك صحتُ :
"تبًّا للمال ألّهَ فأبلد، ثمّ كَثُرَ فزهَّدَ، وامتُلِكَ فسيَّدَ، أَهَانَ. مَا أحمق أن يتربّع على العرش ذو مال كثيرٍ و جودٍ زهيدٍ وعطاءٍ قليلٍ وفكرٍ سقيمٍ.تالله ان الناس من الغافلين.أما غثت أنفسهم فأهلكوه ليس كالمال نكر و شقاء وخديعة في الوجود، جالب السيادة والألقاب دون علم يكون به العبد سيّدًا، بل إنّه ربما ليس كالسّورة نعيم وكَحُبِّ الأمر سعادة وليس كالمال جالب لهما".
و لمّا أيقنت من الأمر ما أغضب صفوان وذهب بسكونه خفتُ أن يضجّ ويرعد فينقطع الكلام وتزول المتعة قُلتُ : " إنّما أردت أن أُذْهِبَ عنّي سخافة العقل فكان النطق حمقا والكلام جهْلاً ". فقال صفوان : " الحقيقي في النّاس صامت ولكن السخيف ثرثار مهذار...أساطين الزمان حمقى يهذرون ". ثمّ قال " خرج الشيخ يومًا وقد أعنقت النجوم في السّماء وكان الفجر. اعتلى ظهر الحمار مغرّبا فأدركه الأقرح في أرض جرى سيعها وسبد عشبها وزمخرت أزهارها وذفرت فيها روائح الطّيب وتضوّع منها المسك، واستحرت فيها الطيور, كانت قحًّا من الجمال والرّوعة والفتنة سحرته أنزل وزرَه مِنْ على الحمار ثمّ سبسب بين الأشجار والخمائل، وتهادى بين زرابي الورد والرّياحين ينعم النّفس. و اعتلى رَبْوَةً وراح يقلّب طرف بصره في السّماء ويُلقي به في الفضاء، و لوّح به نحو الشرق فأبصر سحابًا داكنًا يُنذر بالعواصف والرّعود فغيّمت سماؤه وارتعدت قوائمه كالآثم، ثمّ تمتم بكلام مُبهم وجَدَّ نحو حمار أنحله الجوع وأضناه اليُبس أمسى للرّياحين والأعشاب يثأر للجسد الطّاهر حاجته فأمسكه واعتلاه ثمّ ضربه ولكزه ووخزه وخوّفه والحمار لاَ يتحرّك شَدَّ إلى الأرض.
نزل الشيخ و الغيض يقتله، تجهّم وجهه واستفاقت تجاعيده فاحمرّت واضطربت وارتعش جسده كالمحموم وانتفض خائفًا وخفقت روحُه بين أضلعه حتّى كادت تنفلت وأضحى يُبصر حماره يدوس العشبَ وتداعب فكّاه الأزهار، ثمّ دفع الحمار فجرّه لكنّ الحمار توقّف وأنكر الصوت يشكو فتركه. و التفت الشيخ فإذا الأزهار تتداعب كالعذارى، والورود تتهادى العطور، والطيور صبيان تتغنّى والأشجار تدانت قطوفها، وماء السّيع خمرًا يجري فخفّ وانتفض ثمّ أمعن البصر وقال : "لعمري إنّه العاقل.أتُترك نعمة حاضرة ويُحمل وزر ثقيل ؟ ثمّ صاح : " لِمَ لا يأكل العبد كالحمار دون أن يُفكّر أو يُخادع ؟ نِعم الحياة عيش الحمير لا زهد ولا دين أو خيالاً عقيمًا. " ثمّ خلع رداءه الأسود ووَارَاه التراب. كلْبًا يُوَاري بقايا عظامٍ. و سار بين الزهور فأذهلته المناظر، أطرق،و قال : " أنسكن جنّة ثمّ نزهد ونهجرها منخدعين! أما تراها الحقّ يا نفس فهلاّ تغنمي. قد يكون الغد بهيًّا وعذبًا ولكن الحاضر أبهى وأعذب. إذا كان وعد الأناجيل حقًّا فإنّ السّاعة أصدق...ثمّ هَمَت عيناه وقال : " والصدق، لو كان الوعد كالأولى لفسد. لعن الله الزهد والنّسك إنّهما من الشيطان أو الأباطيل، لبّيك أيّتها النفس لبّيك لبّيك يا حاجتي لبّيك. " و انصرف.
و لمّا أدرك الدّير صاح أنْ تَعَاليْ يا حَوْذَة وكانت راهبة الدّير، عذراء وبلغت الخمسين، قتلت ناسًا عشقوها فضنت بالحبّ وقالت : ‹‹ قتلتُ ناسًا عشقوني. فلأقتلنَّ نفسي عشقا في الربّ وفناء, كذلك متى خلُص، قتَل الحبّ.".
و خرجت حوذة من محراب خلت به تتهادَى كالواله أثقله الهيام وأسكره الهَوَى، أقبلت نحو الشيخ وقالت : " سيّدي، تبارك من علّمنِي العشق والفناء ما الحاجة ؟ " فقال الشيخ : " يا حوذة إنّ الحقّ متى أصبناه أصابنا، واليقين متى أدركناه أذهلنا، والنعمة متى تغافلناها أنكرتنا، و النفّس إذا عُوقِبتْ بالزّهد هلكت.". فقالت حوذة : " أيقول هذا من ماتت نفسه عشقًا، والله لعلّه العشق أضناك. فارزقه يا ربّ فؤادًا لا يقصر".
قال الرّاوي : عن الأسلاف قالوا : قالت حوذة : " لم يكن شيخ الأرض وقدّيسها يُغرب أو يُنكر وإنّما استغربتُ الكلامَ. وساءَنِي أنْ أرَى الشيخ على تلك الحال. فقدتُه للمحراب فعبس وقال : " أعَلَّمَكِ هذا أنْ تكوني مريم ؟ أم الرّوح كزيف السّراب ؟ أمرٌ يُلْحَظُ ولاَ يُدرَكُ. إنْ ذاك إلاّ وهَم العين وأباطيل القلب. لقد وجدتُ الفناء والزهد في النّفس أشدّ حموضة من ثمر السمّاق وأنكر ريحًا من شجر السّذاب. ليس كالعشق أباطيل في الحياة وكزيف العبادة وبهتان الزّهد رفض للنعمة ونبذ للتفكير. إنّ ما عشقناه أوهام بل لعلّها الأوهام ما نعبد".
و لمّا سمعتُ من صفوان هذا فزعتُ غيضًا أقول : " ما أحقرَ هذا الشيخ ! أيقول كفرًا. لعنة الله على الكافرين...أيعبدُ النّاسُ كافرًا ملحدًا و كنودًا:لعن" . فنظر إليّ صفوان نظرة جمْرًا ثمّ سكت قليلا ليقول :
" وزعم راوٍ آخر قال: " كانت حوذة من أجمل نساء الأرض وأشدّهنّ أنوثة وأنعمهنّ أطرافًا، وأرقّ نفسا، وكانت تقول : ‹‹ ليس في الأرض من يحمل جمالِي وروعتِي وفتْنَتِي. لقد خفتُ على النّاسِ الخبل فماتوا هيامًا وقلت لاَ يقدر على حمل الشيء سوى خالقه. فضننتُ بالجمال والحبّ عليهم فظلمتهم ووهبتُ نفسي للّه فظلمتها. والربِّ لولا رقّة نفسي ما نزلتُ ديرًا أعبد. إنّما تصعّدتُ الدّير حتّى لا ترقّ لهم نفسي ويرهف شعوري وحسّي، وكنتُ، فيملكونِي. " , ثمّ ألقت بصوفها وخرجا.
وقال ابن الرّحال وكان في قومه كمسلم والبخاري، ثريّ الرّواية وقويّ الحديث وصحيح السّند حتّى قال أحد النّاسِ : " لستُ أرهب شيَّا كاغتيال القدر ابن الرحّال فلو مَاتَ ضاعت أخبار الأرض وضاعت حكايات السّماء. " أو كان يقول : " كنتُ إذا جالستُ ابن الرحّال خِلْتُ أنّي الزمن يروي أخبار العالمين أو خِلتُ أنِّي خُلقتُ يوم خُلق آدم وأعيش حتّى آخر الزّمن"
...أجمع الرّواة القدامى وحقّق اللاّحقون أنّ الشيخ وحوذة قد سَارَا حتّى أعياهم التَّسْيَارُ وضَرَبَا في الأرض زمنا حتّى أضناهما الجوع : فلمّا سأل الشيخَ أصحابُه في ذلك قال : " إنّما وددت أن أجعل نفسي أشدّ من أرض سَنَةَ السّنة وعام القحط والجدب حتّى إذا غيّمت السّماء قالت : " وابلاً أو اُمسكي" .
ثمّ نزلا حيًّا به ناس أناَخوا جِمالهم وحطّوا رحالهم، وفرشوا الأرض توابل وحاجات لهم والقوم في صخب شديد. قال : قال الشيخ : " علمتُ أنِّي وحوذة نزلنا أرضًا اجتمع أهلها لبيع وشراء : فقلتُ يَا حوذة هؤلاء أنكرُ النّاسِ. فقالت : أنَّى لنا بعلم أحوالهم ونحن غرباء فيهم ! قلتُ أغناهم يا حوذة. فقالت : لعلّهم أكرم النّاس. فقلتُ : هم تجّار، وأبخل النّاسِ وأقبحهم نفسًا تجّارهم، ربّهم النّقد وشريعتهم الفضّة ودستورهم الزور والخديعة والمكر حتّى إذا خدعوا فتيسّرت حالهم جهلوا. وليس كالخداع والبخل طريق ليُسر الحال. إنّما النّاس يا حوذة ثراء ووحشة ودهاء ونكر ودَعْوَى. "
ثمّ مكثنا فيهم ساعة نسير فإذا بقومٍ قد اجتمعوا يفقهون وقد تدلّت لِحَاهُم وكساهُم الصّوف وصاح أحدهم : " إنّما الله يا قوم حبيبِي وهَبْتُهُ شعري " وصاح آخر وقد أمسَك بذراع فتًى : " لتكونَنَّ كشمس لا تنآى مشرقها، ونهارًا لا تبلو ساعاته ولا يموت سناه. " ثمّ قال ثالث : " الله ربّ الوجود ومرسل الأعاصير، وهالك النفوس وباعثها وهو إن شاء خلّدَها لكن الخلود عليه مقصور. اليوم جَهد وجوع وقتل نفس والغد راحة ليس فيه نَصب أو ظمأ. تلك طريق الله فاسلكوها " ، فقلتُ : " إنّ الحبّ بَاطل والشعر صناعة عاطل كاذب، والحبّ في الشعر كثير والصّدق فيه قليل. كذبوا يَا خوذة الصّوف كالهمّ ثقيل يورثُ الوَجَعَ. فلا والصّدق لا يزال المرء ينشد الخيالَ ويُسائل الشعور ويَرْوِي أغانيهما الحسان حتّى تحرقه عذوبتهما. و يُصْلى بنار زيفهما. إنّ الكون خيال بَاطل إلاّ ما يكون وصدق الحياة في زيف السّراب. الحقّ ما نعلمه والصّدق ما نبصره، واليقين ما صدّقه العقل. كذبوا يَا خوذة هم تجّار. إنّ الغَدَ أَمْرٌ لا يحصل كذلك، واليوم ما يدرك، وما يُدركُ يغنَم، والغُنْمُ أبْهَى مِمّاَ لا يحصل" .
عن ابن الرحّال أنّ الشيخ قال :
سرنا زمنا حتّى طالعتنا أحياء يغشاها الكرى. وبانت لنا أراضٍ جرداء قاحلة قد زالت خضرتها إلاّ من أشجار جرداء فوقها غربان والنّاس في صخب كالهبل، وكذلك بدَا الأمر ولعلّه أجمل ولكن ما في النّفس غيّر. و صاح فينا قوم وقد أنكرناهم لِحالهم وأنكروا حالنا : الحيّ نزلتما فماذا عسَى يكون مأتاكما ؟ فقلتُ يا أهلَ الضرّ : أحيانا المغربُ فقتلناه. و هلكنا الجهات إلاّ المشرق مقدمنا. فقالوا : كيف تقتلان من أحياكما ؟ فقلتُ : أغربت وكانت روحِي يداعبها العشق ويلاطفها الحبّ ويلامسها الخيال ويُضنيها الهيام حتّى نزلت أرضا خصبةً وكنتُ كالعذراء قتلها الوَلَهُ في رجل مجّده النّاسُ حتّى إذا لقيته زال بَاطل العشق وكانت متعة اللّذة. ثمّ قال : لن تعلموا أنّ الرّوح قائم فيكم حتّى تقتلوه في نفوسكم. و قالوا : قتلتما المغرب وقد أحياكم ثمّ هلكتما الجهات فما خبر المشرق ؟ قلتُ : أن تكونوا حماري هذا. فتهلّلت أسارير وُجوههم لكنّهم قالوا : إنّه الهبل. و مكثنا فيهم زمنا حتّى استأنسوا عشرتنا وطاب لهم جوارنا فلمّا سألتهم في حالنا قالوا : إنّما الهبل أن ندرك الحاجة فنقول بشرنا بالأفضل : فتركناهم وقد علمنا أنّهم بلغوا الجنون.
ثمّ سرتُ وحوذة حتّى نزلنا الدّار فإذا هي أزكى من الجنان. و لمّا أطلقتُ فيها الحمار تسارع يركض يُريد البابَ. ثمّ نفضتُ أكياس الذهب والآسِ وقد جمعت الكلّ تجارةً وأموالَ نَاس جمعتها أيّام تعبّدي حيلة. و غبتُ ساعة عدتُ فيها بأكواب خمر وطعام عَدَدٍ وقلتُ يَا حوذة والربِّ لو كان الإنجيل خَمْرًا لذهب وناله الفسادُ.
قال ابن الرحّال : قالت حوذة :
كان الشيخ كالحمار إذا نفذ الطعامُ طلب الطعام أو إذا نفذ الخمرَ طلب الخمر. و قال : هاتِي خمرًا يحرق بقايا الزهد فيَّ. لقد كان كالجوع لا يشبع حتّى إذا سكر وسدر قال : حقّ الساعة حاضرها. ثمّ يَضمّنِي قائلاً : أيّهما أصدق العشق أم الضمّ ؟
و دخلتُ يومًا داره، وكنتُ تركته لبعض شؤونِي تسْعى إليّ النّاسُ كالحجيج و كالسيّارة الظمآى يُريدون داري فلا أضِنّ وأطلب. و أبكي حسْرةً وأرجو المزيد، فوجدته الرّضى حتّى إذا أبصرنِي قال : أأضناك الهوى أم عاودك جنون العشق ؟ فقلت أريد وأطلب. لقد أصابني الهوى ثمّ صدق فارتقى، فحالي ما تبصر وترى، لهفة لتربتِي...
قام الشيخ يمشي ثمّ ضحك ضحكة فلقا رعْدًا وتفل نحو المشرق وقال : " ويل لِلنّاسِ يعتقدون ! " ثمّ سكن وقال : " العبء هذا وأثار إلى رأسه والحمل هذا ووضع يده على صدره. " وزفر ريحًا تكاد تنفصم لها الأضلع فتطير.
قالت حوذة : كان الشيخ صخرةً إذا رَفعتها لا تُرفَعُ يقول : " كذا الكنه صخرة يا حوذة. لا تنفطر. هل فيها ماء يُسكن فيهدأ مَا بين الضّلوع ؟ لا أدري لعلّه يحرق أو لظًى. إنّما السّعي بَاطل، وسيّد القوم أنكرهم عقْلاً وأرفعهم خبلا، وأملحهم جُلوسًا يهذر سُكْرًا أو يُغنّي عَتَهًا. العقل شقاء صمْتٌ والسّعي عجز مقتٌ والفرد عارُ الوجود يصَّعَّد فيهوي ووهما يلتمس ويجني السّراب، ويلهث كلبا ولا ماء ويعوي والصّدى المُخيف. خير ما في الدّنيا الإدراك و خير الإدراك الهبل.
قلتُ: أيّها الشيخ، وقلبِي ؟ قال : أوهام تبرّر الرغبة وقيل ماء زلال لو ركد استحال فهبيه ولا تمنعيه. فقلتُ : و ما يلثمه الحرير ؟ قال : أخبث ما فيك حقيقة لكن عيشك حسرة دونما فعل. أنثى تصرخين، حقيقتك الذّكر. أنتِ حمق الوجود فأطمعي وأطعمِي واشربِي واسقيْ عَدَدًا. فعْلٌ كلٌّ، ونداء دعوة وصرخة رغبة. أنتِ أبلدُ ما في الوجود وقيل إِلْهَامُه وصوته الشّجيّ وخير ما فيه وحقّه.
قلتُ لا حريرَ فاضربنِي ولن أعشق بعدك سواك. ثمّ فعلت فكان أشدّ ضِرَابًا مِمّا عهدتٌ. فأبكانِي و طَلَبت. و خِفْتُ إن أَمْسَكَ أو كَلَّ ذهبتُ وضُعت وضيّعتُ. فأدعوه فيشدّني ساعة و لا يخذل وأطلب وأستَزيد. و أضمّه قوّة حتّى يصير فيَّ ومِنّي شدّة. وكنتُ كلّما ضربني أبكي، فيقول أأفعل وتبكين فأقول بكاء الرغبة والحنين. فكان يقول أصدق الفعل البكاء.
قالت :
ثمّ مكثنا على تلك الحال دَهْرًا كان فيها حماره، حتّى كان صباح يوم دعوته بسَم عن ثغر بديع ثمّ تغيّر حتّى كادت عينه تَهْمِي واستحال كآبة ثمّ أطرق ونهض وانتفض. فخفت الذهاب والانصراف.
و قالت : ثمّ حَفَرَ في رماد موقد فإذا بقيّة جمْرٍ مُحمَرّة العين تنظر في صمت ثمّ ركب حماره وانصرف.
قال الرّاوي : حدّثنا ابن الرحّال أنّ الشيخ حين ذهابه كان يلعن الحِمار.
قالوا. وحوذة ؟ قال : تدعو النّاس للضراب وقد شاخت. و كانت تقول : كان بعض المتصوّفين يقول : ما تحت الجبّة سوى الله...
ثمّ سكت صفوان قليلا وقال : هذا حديث قديم من أحاديث الخلود. فقلتُ ما أنكر هذه الأحاديث ! نكر وحمق وبلاهة. أصحابها كلابٌ تعوي وقالوا ترتيل موسيقى وشبه قرآن. ثمّ نِمنا على أن نستفيق جديدًا وبقينَا حياةً لا تنام تنكشف عن الحياة وتكشفها. ونرى الله يقينًا يسري في عروقنا وفي أكبادنا وأفضل مِن كلّ ذلك كان الله في عُقُولِنا يبسط لنا الأمل و الحياة والفعل ويقين الآخرة.
أحمد بو قرّاعة
الدائرة الثامنة.كتاب العاصفة و الماشية و الصنم









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان هاني شاكر في لقاء سابق لا يعجبني الكلام الهابط في الم


.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي




.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل