الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدستور العراقي قبل الانتخابات وبعدها

فالح عبد الجبار

2005 / 11 / 15
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق



يبدو ان الذاكرة السياسية قصيرة، بل طيارة. نسي العراقيون، ساسة وجمهوراً، الدستور وشؤونه أو أشجانه، وشمروا عن السواعد استعداداً للانتخابات البرلمانية الأولى. لكن شبح الدستور يطارد الجميع، ان لم يكن الآن، فعلى الأقل بعد أيام قلائل من انعقاد أول برلمان منتخب (بعد أول جمعية تأسيسية منتخبة). ويخلو التسابق الانتخابي من أية اشارة الى الدستور. ذلك ان الولاءات السايسية والحراك السياسي، لا تزال بمجملها تعتمد أمرين.
فأولاً تعتمد الولاءات والحراك السياسي على ما يسميه علماء الاجتماعي «التفكير النمطي»، المؤلف من جملة قوالب جاهزة، يقينية، مقطوعة في الغالب عن الواقع، تخلط خلط عشواء بين تخيلات وتحيزات، وتشوهات فكرية أو لا فكرية متعددة المشارب.
وثانياً يعتمد الحراك السياسي على الولاءات التقليدية للطائفة، للعشيرة، للزعيم، للمدينة، أو للحارة (أحياناً).
لا وجود بعد لـ «خيار عقلاني»، خيار المصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا وجود بعد لخيارات «البرامج». فهذه الحال من بقايا الماضي، يوم كان العراق الحديث في العشرينات، أو في الخمسينات، منقسماً على أساس المصالح الحديثة، والأفكار والبرامج.
نحن لا نزال في مرحلة النكوص. وسط ركام الانقسام، وزحام التسابق الانتخابي، وجذام الخبل الاسطوري، يبدو تذكر حقيقة ان الدستور لم يكتمل، هو بمثابة الاستثناء الخارق.
وبحدود علمي لم تصدر إلا مبادرتان للحث على التفكير في الدستور قبل الانتخابات، والتفكير فيه بعدها. المبادرة الأولى جاءت من مجموعة الضغط النسوية المسماة «عهد العراق»، والمبادرة الثانية من معهد الدراسات الاستراتيجية.
هذا التذكر ضروري لأسباب عدة. فأولاً ان الدستور يقوم على فراغ تشريعي مهـــول. فهناك، مثلاً، أكثر من خمســين مادة دســتورية تعد العراقي والعراقية بأنها ستنظم وتحدد «موجب قانون».
وهناك المادة (140)، التي ألحقت بالدستور في اللحظة الأخيرة، لتجيز إمكان اصدار لائحة تعديل خلال ستة أشهر من انعقاد البرلمان الأول.
وهناك نحو دزينة من المؤسسات التي ستشكل استكمالاً لأجهزة الدولة وسلطاتها المختلفة.
الباب الثالث من الدستور (الخاص بالسلطات الاتحادية – أي المركزية) ينص في فصله الأول (المادة 47) على ان السلطة التشريعية تتألف من مجلس النواب ومجلس الاتحاد، لكن مجلس الاتحاد لا يزال مجرد اسم، مجرد مفهوم، بلا لحم وبلا دم. وان المادة (63) في هذا الباب الثالث، تنص على ان قوام وطرق تشكيل المجلس ستحدد بقانون. وبهذا تكون السلطة التشريعية ناقصة.
أما الفصل الرابع من الباب الثالث، فيأتي على ذكر المؤسسات التالية التي ستخلق أو ينظم عملها بقانون: المحكمة الاتحادية العليا (المحكمة الدستورية) والمفوضية العليا لحقوق الانسان، وهيئة النزاهة (لمراقبة سرقات الموظفين المستمرة على قدم وساق)، والبنك المركزي، وديوان الرقابة المالية، وهيئة الاعلام (التي تحولت الى وكر حزبي في جامع)، ودواوين الأوقاف، مؤسسة الشهداء (للأحزاب الحاكمة)، هيئة ضمان حقوق الأقاليم والمحافظات، هيئة مراقبة تخصيص الواردات الاتحادية، مجلس الخدمة العامة الاتحادية، ومجلس الدولة (هذه الهيئة لها دور في الافتاء ايضاً).
من هذا الكم الهائل من التفاصيل اختارت جماعة «عهد العراق» خمس نقاط تركزت على ثلاث مواد دستورية، وعلى مؤسستين. المواد الدستورية تمس الحريات السياسية، قانون الأطول الشخصية، والحريات المدنية، أما المؤسسات فقد اختار عهد العراق منها المحكمة الدستورية ومفوضية حقوق الانسان.
في المقابل اختار معهد الدراسات الاستراتيجية ثماني قضايا، تتناول المؤسسات والتشريعات التكميلية على صعيد المؤسسات وركز المعهد على:
1 – مجلس الاتحاد (السلطة التشريعية).
2 – المحكمة الدستورية (السلطة القضائية).
3 – المفوضية العليا لحقوق الانسان.
4 – مجلس الأقاليم والمحافظات.
ان هذه المؤسسات ذات طابع استراتيجي، بمعنى انها ستقرر الى حد كبير توازن أعلى سلطة تشريعية في البلاد، وتوازن أعلى سلطة دستورية في البلاد، وتوازن هيئات المشاركة والرقابة.
أما على صعيد اللوائح التشريعية فقد ركز المعهد على ما يأتي:
1– حماية الحريات السياسية من تعديات السلطة التنفيذية بموجب بند «الآداب والنظام العام».
– حماية مؤسسات المجتمع المدني المهددة بالتقييد (المادة 43).
– حماية الحقوق الادارية والثقافية للأقليات.
– حماية حقوق الانسان من الانتهاكات.
– حماية حقوق المرأة والأسرة.
ومهما تكن مزايا الاختيار المحدود لمجموعة «عهد العراق»، أو الاختيار الموسع لمعهد الدراسات، فإن المبادرة الى تحريك مسألة التشريع ليست في غير أوانها كما يتوهم الكثيرون.
فالفترة المقبلة ستكون فترة سجال دستوري بامتياز. ولا نغالي إذا قلنا ان البرلمان سيواجه دورة صعبة تتطلب عملاً تشريعياً متواصلاً نشك في انجازه خلال دورة واحدة، إلا اذا أراد البرلمان «سلق» القوانين على عجل، وإلا اذا خرج البرلمان عن كسله الراهن، ان كثرة الغيابات مروعة حقاً، ولا شك لو أن ضوابط المدارس طبقت على أعضاء البرلمان، لوجد الكثيرون منهم أنفسهم بلا مصدر رزق.
والمبادرة الى طرح مسألة التشريعات التكميلية، وتشذيب الدستور، راهنة بمعنى آخر أيضاً. فهي محاولة مهمة، مهما بلغ تواضعها، لربط الاستقطاب السياسي بقضايا ومصالح المجتمع.
قد لا يتحقق هذا الربط الآن، وقد لا يتحقق في الدورة المقبلة أيضاً، بسب بعمق الولاء التقليدي للمذهب، أو الزعيم، أو المدينة والعائلة، الخ، وبسبب شيوع التفكير النمطي المنغلق والمقولب، ولكن لا بد للجهود من أن تستمر لتفكيك هذه الأسس البالية في التعبئة السياسية، والاختيار السياسي.
وينبغي على كل السياسيين المعتدلين، الالتفات الى وجوب هذا الربط وأن يسندوه بالأفعال، لا الأقوال.
نعم ان العراق متشظ على أساس مذهبي (أو طائفي)، ومتشظ على أساس جهوي، وقبلي، واثني. لكن وجود قوى عابرة للاثنيات والطوائف، قوى تعتمد التعبير عن المصالح الاجتماعية على أساس الأفكار والبرامج، ليس اسطورة، ولا حلماً. والعراق غني بهذه الممكنات.
وأذكر بهذه المناسبة ما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني كالنــقابــات والجمعـــيات المــهنية، واتحادات الصناعيين والتجار، والمقاولين.
وكانت هذه المؤسسات المجتمعية قائمة قبل عهد البعث. وقام نظام الحزب الواحد بابتلاعها في جوفه. لكنها تحررت من بطن الحوت الشمولي، وانطلقت تعتبر تنظيم نفسها على أسس مدنية وحرة. حاول رئيس الوزراء الجديد انشاء مكتب خاص بهذه المنظمات من اجل احكام السيطرة عليها، فتحركت نحو 15 نقابة وجمعية واتحادا، لترد على هذه المحاولة، معترضة على عودة اللفياثان التوتاليتاري من الباب الخلفي. بموازاة ذلك، تحركت منظمات نسوية كثيرة دفاعاً عن قانون الأحوال الشخصية لعام 1959، على رغم الترهيب الأصولي المنلفت. تلقيت عشرات الرسائل من نساء شاكيات «نحن نناقش قانون الأحوال الشخصية في السر، لأن اصحاب المسدسات كثار».
ويحرص السياسيون المحافظون، أو المنغلقون، على اثارة اللبس لتمويه خطوط التمايز الفكري. فالعلمانية (أي احترام الدولة لكل الأديان والمعتقدات على قدم المساواة) تتحول عند هؤلاء السياسيين الى «كفر»، والمدنية (أي اعتماد حكم القانون) الى «بدعة غربية». ويبلغ خبل الجمهور غير المطّلع حداً مريعاً يصل الى القول مثلاً بأن قانون الأحوال الشخصية لعام 1959 شرع في واشنطن (عام 2003)، علماً ان هذا القانون يعتمد، بحسب قول أحد فقهاء الدستور، «أفضل ما في احكام الشريعة في المذهب الشيعي والمذاهب السنية»، وهو يضم أيضاً قواعد مدنــية لحماية الأسرة.ومن المزري أن نرى، مثلاً، تظاهرات نسوية، ممولة من احزاب محافظة، ترفع لافتات: لا للمساواة، نعم للعدالة. ولا يمكن للمرء أن يفهم كيف يمكن للمساواة في الحقوق ان تكون نقضاً للعدالة. هذه تظاهرة من أجل العبودية بامتياز، وهي مثال على خضوع النساء لعبودية ذكورية تنزل بهن الى مرتبة مواطنات من الدرجة الثـــانية.
ان كان ثمة من يستمرئ العبودية، فهذا شأنه، أما ان يفرض على سواه القبول بهذه العبودية، فهذه عبودية من صنف خاص.
في المقابل، وأخيراً، فيبقى من المطمئن ان نرى عشرات المنظمات النسوية تتجاوز خطوط الانقسامات كلها لمواجهة طوفان التقاليد المنغلقة. بجرأة نادرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليار شخص ينتخبون.. معجزة تنظيمية في الهند | المسائية


.. عبد اللهيان: إيران سترد على الفور وبأقصى مستوى إذا تصرفت إسر




.. وزير الخارجية المصري: نرفض تهجير الفلسطينيين من أراضيهم | #ع


.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام




.. وكالة الأنباء الفلسطينية: مقتل 6 فلسطينيين في مخيم نور شمس ب