الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرية.. هذه الكلمة الغامضة

سعد محمد رحيم

2016 / 2 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الحرية التي تبدو، للوهلة الأولى، من أكثر المفاهيم الإنسانية وضوحاً، تغدو عصيّة على التحديد حين نفكر بها، ونحاول ضبط فحواها وأبعادها. وهي وإن كانت قديمة في التداول، وربما يرجع جذرها إلى المراحل المبكرة من عمر البشرية إلا أنها اكتسبت بمرور الحقب والأزمان مضامين ودلالات مختلفة شتى، فضلاً عن أن كل جماعة بشرية عرفتها بحسب سياقها الاجتماعي السياسي والثقافي. وأسّسَ كل حقل من حقول الفكر والمعرفة زاوية نظر خاصة به في تناوله لها. فالفلسفة وضعتها في صميم علاقة الإنسان بالوجود ورؤيته له، في مقابل الدين الذي شرّع محرّمات لضبطها والحدّ من غلوائها.. أما علم النفس فقد ربطها بالميكانزمات الخفية لدخيلة الإنسان، ولا وعيه، وتطلعاته. ليجعلها علم الاجتماع موضوعة تقرر محتواها تقاليد المجتمع وقيمه، ونمط علاقات أفراده بعضهم ببعض.
وإذا كانت الملاحم القديمة قد أعطت إيحاءات عنها، بعدِّها فطرة بشرية، فإنها أصبحت في المحاورات التي أنضجت الفلسفة الإغريقية، قبل أكثر من اثنين وعشرين قرناً، معضلة لابد من توظيف العقل لحل إشكاليتها.
وفي التاريخ العربي الإسلامي، لم يكن هذا المفهوم غائباً، وقد تباينت طرق النظر إليه. فالحرية عند أخوان الصفا هي غيرها عند الفلاسفة ( من ابن سينا إلى الفارابي وابن رشد ). وإذا كان الجبريون قد أنكروها فإن المعتزلة جعلوها شرطاً في طبيعة علاقة المخلوق بالخالق والوجود.. غير أنه بعد ذلك السؤال الإنساني الكبير، في فجر الإسلام، والمفعم بتهكم ممرور: "متى استعبدتموهم وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟" والذي تعزز بالنداء الوجودي النقي والعميق: "كونوا أحراراً في دنياكم"، تراكمت، عبر قرون، جبال من المصدّات الفقهية والسياسية، التي اقتضتها لعبة المصالح الفردية والفئوية، وجذّرها سوء الفهم، وقصر النظر، وخطل القراءة، وفساد التأويل، في شبكة معقّدة من علاقات المعرفة بالسلطة، لتلجم انطلاقة البدء الجبارة المذهلة تلك، ولتفضي لاحقاً إلى قرون من التخلف والظلام والتطرّف والتعصّب، وأخيرا؛ التخندق الطائفي والإرهاب.
الحرية كانت إلى جانب العدالة أكثر القيم الإنسانية العليا غياباً، ولمدد طويلة، عن مسرح الوجود البشري، وبقيتا، على الدوام، أطيافاً تتلاعب في أفق الأحلام.
الحرية هي غاية الكائن لأنها قوام إنسانيته، وملعب فطرته السليمة.. وهي فضيلة أخلاقية، وتوأم الوجود وماهيته إن نظرنا إليها من زاوية فلسفية، لكنها لغز غير قابل للانكشاف التام في الأدب والفن، مهما اشتطت المخيّلة الإبداعية للأدباء والفنانين.
ليس مفكرو عصر التنوير الأوروبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر هم من اكتشفوا فكرة الحرية، لكنهم كانوا السباقين في ربطها بمفهومي العقل والعقلانية، وبالذات الإنسانية المتحررة والمتطلعة إلى المستقبل، وفي تصوّر تجسداتها السياسية الواقعية في آليات أنشطة الدولة، وعلاقة المجتمع بها.
صار الإنسان ذاتاً مذ أدرك معضلة الحرية وضرورتها.. الذات التي لا تتشكل إلا في أفق الحرية.. الحرية التي تأخذ الذات على عاتقها بوصفها كياناً في العالم ووعياً مركّباً، ومشروعاً منفتحاً على آخرها. إذ في جنة الكائن سيغدو التفكير بآخرك واضحاً ومصدر سعادة. فأن تكون حراً يعني أن تكون إنساناً.. الحرية هي شرط ذلك ومفتاحه.. في مقابل أن المرء لن يحقق شرطه الإنساني ما لم يؤمن بحرية الآخرين وينشغل من أجلها.
لن تكون حراً وأنت تكره.. قد تكون كذلك وأنت ترفض لاسيما إذا ما انصب رفضك على ما يقف حائلاً بينك وبين الحرية.. وتكون كذلك وأنت تحلم. ولن تكون حراً باستبعاد الآخرين.. السلطة تكون محكومة بأوضاع من تتسلط عليهم. ومن يزرع الخوف يبقى هو خائفاً أيضاً.. الدكتاتور في النهاية هو الشخص الذي لا يخشى حرية الآخرين وحسب، وإنما يخاف حريته في الوقت نفسه، ولذا لن يستطيع ابداً أن يذوق طعم الحرية.
الحرية وحدها لن تحقق السعادة، بيد أن السعادة لن تتحقق من غير الحرية. والسعداء في قيودهم إما أنهم موهومون، أو ثمة خلل في جهازهم العصبي لم يتنبهوا إليه بعد.
بانعدام الحرية يولِّد المجتمع كائنات مستنسخة متشابهة، لا متفردة. فمن السهل أن تشبه الآخرين وتمتثل لما يقولون، حتى وإن كان ما يقولونه لا معقولاً وعبثياً وقاتلاً ويفضي إلى التهلكة. فأن تتفرد، وتنظر إلى العالم بموضوعية وصفاء، من غير إكراهات، وأن تقرر بلا إرغام، يمنحك امتياز أن تكون إنساناً مسؤولاً أمام نفسه وضميره وأمام الآخرين. فالحرية كما قال التنويريون هي التحرر من الخوف، وهي، بالمقابل، حرية الضمير.
نعرف أن الحرية، منذ بزوغ شمس الحضارة، لم تتحقق بشكلها المثالي قط، وإذن لم تتحقق السعادة كما يجب قط إذا ما ركنا إلى المعايير العليا لهما.. ولكن في حدود المستطاع البشري نحن نتحدث عن مستوى نسبي مقبول يكفل الكرامة ويتيح الفرصة لتفتح الذات وتحققها.
ليست الحرية مطلقة، أو سائبة.. إن لها حدوداً.. الحدود التي تراهن على التعقل، وتضمن حرية الآخرين، وتفرض السلوك السوي، وتمنع الأذى، وتنظم الحياة لتكون عادلة ومنتجة ومفرحة.
حين نقول الحرية فإننا إنما نتحدث عن الإنسان الحر والمجتمع الحر.. الإنسان الحر الذي لن يكون إلا في مجتمع حر. ولن يخلق الإنسان الحر إلا في إطار علاقات اجتماعية محدّدة بقوانين وتقاليد وأعراف ومؤسسات، وفي سياق تطور تاريخي حاصل.. حين تكون الحرية امتيازاً فئوياً على حساب فئات أخرى ستبقى مثلومة، ولا أخلاقية، ومهدَّدة في كل لحظة. وإذن لا يمكن بناء دولة حديثة منتجة، محترمة من غير أن يكون رائدها مبدآن: العدالة الاجتماعية، وخلق مواطنين أحرار متساوين في الفرص وأمام القانون الذي يمتلك السلطة العليا.. من هنا، فالحرية ليست مقولة مجرّدة، وإنما هي وليدة الحياة وتوأمها، ولن تكون واقعة حية في عصرنا الحديث خارج إطار علاقات سويّة داخل المجتمع. فالحرية تضمنها قوانين ومؤسسات وآليات عمل وعلاقات إنتاج جوهرها العدالة، وإنْ بالحدود الدنيا. هنا نخرج من غموض المعنى الفلسفي لها إلى وضوح تجسّدها في دولة حرة وعادلة.
ربما نتفق مع أولئك الذين يقولون إن الحرية فطرية، لكنها أيضاً نتاج تربية وتعليم.. الحرية تُعلّم، ويتربى المرء على تقاليدها وأعرافها ومبادئها.. فالإنسان الحقيقي هو الكائن الذي لا يخاف الحريةن ويعرف أن الحرية عبء، والحرية مسؤولية، والحرية هي نبذ الاتكالية، ومواجهة تقلبات الظروف بشجاعة، والسعي لأجل تغييرها. وللأسف فإن المرء في بيئتنا، غالباً، ومنذ نعومة أظفاره يتعلم كيف يخضع، لا كيف يتساءل ويختار. فما يزال الفكر الجبري هو السائد عندنا، وهو الذي يبث أنساقه في لاوعي الأفراد.. بيئة تعلِّم الخنوع والتردد والخوف والاتكالية أكثر مما تعلِّم إعمال الفكر، وقول الحق، والصدق، والجرأة في اتخاذ القرارات، والحفاظ على الكرامة. فالحرية، من زاوية نظر أخرى، قيمة أخلاقية، وأي خدش في جلدها يترك أثراً ضاراً في لحم الكرامة.. بغياب الحرية تتجرح الكرامة.
واليوم، فإن تاريخ الحرية سردية مضببة في مرآة عقلنا.. شيء لا يكاد يعنينا لأننا لا نفهمه. فلطالما قاتلنا من أجل أشياء أخرى، ولم نقاتل من أجل الحرية حتى وإن ادّعينا ذلك. وحتى لو فعلنا، فيبدو أننا كنا نفعله بطريقة خاطئة، وإلا لماذا ابتعدنا عن فردوسه بهذه المسافة المخيفة؟.
كافحنا لأجل التحرر من نير سلطات مختلفة، لا لنكون أحراراً، بل لنراهن على الخضوع لسلطة أخرى نتوسم فيها الخلاص، قبل أن نكتشف، بعد دفع أثمان باهظة، أن علينا ان نتحرر ثانية، ومن غير أن نستفيد من الدرس، لأننا سنراهن مجددا على خضوع آخر خاطئ، وهكذا.
والسؤال الآن هو: كيف علينا أن ننشد الحرية ونكون كائنات حرّة تختار شكل وجودها، ونمط علاقاتها بعضها ببعض. وتصوغ بحرية عقدها الاجتماعي العصري المدني الجديد ليكون ناظم دولة عصرية مدنية جديدة؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحقيق مستقل يبرئ الأنروا، وإسرائيل تتمسك باتهامها


.. بتكلفة تصل إلى 70 ألف يورو .. الاتحاد الفرنسي لتنمية الإبل ي




.. مقتل شخص في قصف إسرائيلي استهدف سيارة جنوبي لبنان


.. اجتماع لوكسمبورغ يقرر توسيع العقوبات الأوروبية على إيران| #م




.. استخراج طفلة من رحم فلسطينية قتلت بغارة في غزة