الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إلى مدينة نرجسية اسمها بنغازي

وفاء البوعيسي

2016 / 2 / 24
المجتمع المدني


في فمي الكثير من الكلام لبنغازي، لكنني لا أعرف من أين أبدأ، أفكر في مقدمة مناسبة لكنني حائرة، لكثرة المقدمات التي تتزاحم في رأسي، فهل أبدأ من طفولتي وشبابي فيها، أم أبدأ من اللحظة التي هجرتها فيها، لمدن أخرى تنظرإلى كل سكانها نظرةً واحدة، وتعطي لكلٍّ حقه دون أن تذكّره دائماً، أنه قد جاءها ذائحاً وأنها هي التي ربته، حين تخلت عنه مدينته أو قبيلته، لكن ربما من الجيد أن أبدأ من البداية.
منذ حداثة سني وأنا في شجار مع هذه المدينة، فهي لم تكن تعطيني ما أطلبه منها، إﻻ-;- بشرط التزلف لها، وأنا امرأة تمقت الاستزلام، هي مدينة تعاني مركّباً نرجسياً، جعلها تعتقد أنها أفضل المدن بليبيا، وترى نفسها دائماً أفضل من مثقفيها وفنانيها، لهذا لم تعطهم قيمةً كبيرةً، الصادق النيهوم مثلاً، لم يحظ منها بتقديرٍ ملحوظ، ففي جنازته لم يحضر غير قرابة سبعين شخصًا كان أبي أحدهم، لكن بعد أن مات وارتاحت من عبء صيته كرّمته، وبقدر ما تجاهلته أفرطت في تكريمه، صار اليوم شبه معبودٍ فيها، حتى إنك لا تستطيع أن تنتقده دون أن تتعرض للتجريح، وقد كان الحال سابقاً هو العكس تماماً.
أنا لم أكن سعيدةً في بنغازي، حياتي اليومية فيها كانت تشبه الجحيم، هذه المدينة تزدري نساءها، لأنها ببساطة مدينة ذكوريّة، الفضاءات العمومية فيها هي للرجال فقط، البحر، ملاعب كرة القدم والسلة والطائرة واليد، الجبال والنوادي الرياضية على قلتها، المطاعم، السينما، المسارح، الدراجات الهوائية، كلها مجرد لوحات فنية جامدة لنا نحن النساء، نتفرج عليها لكننا لا نستطيع أن نشارك بها كالرجال، فنهرب من محاصرتها لنا إلى تونس أو مصر، لنستمتع بحياتنا قليلاً بعيداً عن تلصصها الدائم علينا، حتى الرجل منها يصبح أكثر شياكةً وألطف طباعاً حين يغادرها، يترك أهله يتحركون بحرية، وقد تَخلعُ كثيراتٌ حجابهن، أو يُدخنَّ الأرجيلة، وهو نفسه يضحك مع أهله في الطريق، يذهب معهم للشواطئ حيث تسبح النساء بحرية وبملابس البحر المعتادة، يسهر معهم في المقاهي والمطاعم والمسارح، يشرب الكحول أحيانا وقد يدخن الحشيش، يعربد قليلاً ويلعب بذيله وهو يمتدح الحرية بعيداً عنها، ثم يعود إليها ويعيش دور الرجل المحافظ، ويدخل في دور النفاق والازدواجية بسرعة تبعث على الدوار، كما نتعرض في فضاءاتها لتحرش لفظي وجسدي فاقعين، حين لا نلبس عباءات الخليج السوداء التي أحبتها بنغازي أكثر من التنورة والفراشية، ولأننا لا نمشي مطأطئات الرأس في حضرة رجالها، وشخصياً لم أكن أرتدي الحجاب، تأخرت كثيراً في ارتدائه، وحين فعلت كان السبب جزءٌ منه دينياً، واﻵ-;-خر لأنني لم أكن أستطيع تحصيل رزقي فيها بسهولة، فبعض مصالحي كانت تُعطَى لي، بشرط التجاوز عن الغزل والكلمات الشهوانية والعروض الحقيرة، هذه المدينة تدفع بالنساء دفعاً للحجاب والتواري والاكتفاء بالقليل، أو العيش فيها على مضض ملازم مثل مرض الضغط.
لم أحل بمكان ما فيها، ولم يتم استجوابي من أين أنا وبنت من أنا ولمن "نعاود بالضبط"، سؤالٌ منغصٌ وحشري ولا لزوم له، وحين أقول إن أصولي من مدينة الزاوية، يرتفع الصياح في وجهي وكأنه اكتشف الذرة "هذي رباية الذايح لامة من كل تركينه".
الذايح، كلمة محلية تُطلق على من تقطّعت به السبل لفاقةٍ أو مصيبة، فدفعه حظه وقتها إلى بنغازي، وهؤلاء حسبما تقول بنغازي، هم جماعة كبيرة من غرب ليبيا، دفعهم قحط ما إليها في الأربعينات، حتى باتوا ينامون على اﻷ-;-رصفة، واختلط البعض منهم بفقراء ومتسولي المدينة، فخشيت إدارة البلدية منهم على الأهالي، فقررت جمع من لا يتحدث اللهجة البنغازية منهم، ورميه خارجها بلا أدنى شفقة أو رحمة، لكن رجلا نبيلا يقال له "بن كاطو"، لم يعجبه هذا القرار، فاجتمع بأعيان المدينة من أصول غرباوية، واقترح عليهم إغاثة أولئك الجياع بأن يترك كل واحدٍ منهم مربوعة بيته مفتوحة، ويضع فيها زير ماء أو لبن وتمرًا أو خبزًا، ويعلق فيها فتيلة ليرشدهم إليها للأكل والنوم، ولاحقاً انخرطت الأسر الميسورة من أهالي بنغازي، من أصول شرقاوية وتركية وجريتلية في هذا النشاط الإنساني، وحين انقطع الجفاف عاد عددٌ كبيرٌ منهم من حيث أتى.
رباية الذايح، عبارة مهينة كُتبت على جبين الآلاف من الليبيين، الذين جاءت بهم أسباب كثيرة إلى بنغازي، يرددها الكاتب محمد الأصفر برواياته، قالها السيد محمود شمام مرةً أو اثنتين في برنامج تلفزيوني ما، يرددها المثقفون والساسة دون أن يتوقفوا قليلاً أمامها، ليتساءلوا هل هي عبارةٌ نبيلةٌ أم عنصرية، وهل يا ترى تؤلم المقصودين بها أم لا، وهل هناك مدينةٌ أخرى بالعالم كله، تظل تردد عبارةً كهذه للجيل الثاني وحتى العاشر، من أبناء أولئك الذوايح إلا بنغازي؟
بنغازي كما عرفتها مدينةٌ تحب الغزل، تهوى المديح والتكريم الدائمين، ترى في نفسها أماً يجب على أبنائها أن يخرّوا عند قدميها دائماً، ويتمسحوا بها، أما أنا فأعترف أنني كنت بنتاً عاقة، وكان لساني سليطاً عليها، كنت أقول لها أنا لست ذايحة أنا أعمل وأجتهد، وأكسب قوتي من عرقي ولم أسرقك يوماً، أنت كأي مدينة أخرى ذكوريّة، وأنت مدينةٌ منافقة ككل مدن ليبيا، فأنت ترقصين أمام موكب القذافي، وتغنين له "معمر كيف رسول الله، اللي ما طقوا فيه اعداه"، كما رقصتِ للطليان وغنيتِ لهم "مرحبتين بكازي روما، من غيرا ما فيش حكومة"، فخففي رجاءً من تعاليك على أولادك.
بنغازي مدينةٌ عنصرية تحتقر السود، تطلق على السودانيين ممن يعيشون فيها من ثلاثة عقود تقريباً كلمة "السّوادين"، وعلى المصريين لقب "الفواله" سخريةً من فقرهم، الذي يدفعهم لتناول أكلة شديدة الرخص هي الفول، وتطلق على الليبيين الذين هاجروا ثم عادوا إليها كلمة "صاد شين"، ومنها خرجت صور تهين القذافي في مظاهرات فبراير، وتصوره على شكل امرأة، ومنها تسمع عبارات مثل "دبل شفرة" كتحقير لليبيين الذين حصلوا على جنسيات أجنبية، مع أن بعض أولادها هاجروا منها كي يصلوا إلى شطٍ آخر أكثر احترماً لهم، وتسمي المصاريت "المزاريط" ومفردها "مزرط"، وهي كلمة قميئة وطبعاً يرد عليها المصاريت بعنصرية واحتقار مماثل، غارقة حتى الثمالة في أحضان الدواخل، تبدو لك من بعيد حيةً متلألئةً بالأضواء لكنها مدينةٌ بدويةٌ خلقاً ومنطقاً، لهذا لم تستطع الخروج إلى براحات العالم، لتتعرف على المدن المتحضرة، وهي تكّرم ساكنيها دون استجواب غير لائق لهم طوال حياتهم، ودون امتنان فارغ عليهم، كروتردام التي ما إن يتنقل فيها الزائر، حتى يلحظ قلة وجود الهولنديين، فهي مدينة المغاربة واﻷ-;-تراك والسوريناميين ومواطني جزر الأنتيلز، يحكمها من سبع سنوات رجلٌ مغربي مسلم، دون أن تمتن عليه أنه ذايح، وأنه لو بقي بالمغرب لما وصل إلى ما وصل إليه، ولا لاهاي العاصمة الإدارية، التي يعيش فيها مواطنو 128 دولة بانسجام واحترام ملحوظين، وقد أحببت هذه المدينة رغم نرجسيتها، ففيها ذكريات طفولتي الرائعة، وفيها تعلمت التمرد والجدل، لكنها أبت إلا أن أحبها على طريقتها هي، فسقط حبي لها في السبخة.
بنغازي مدينةٌ تقليدية ورجعية، لا تحترم الفن ولا تلقي بالاً يُذكر للإبداع، تسخر من الفنان فضيل بوعجيلة في مجالسها الخاصة، لأنه يمثل دور امرأة، تعتبر الفنون التمثيلية والغنائية عيباً، ندوات الشعر والقصة والرواية لا تحظى فيها بحضورٍ لافت، وتحتقر بشدة الممثلات والمغنيات في الإذاعة أو الأعراس، لم تقاوم أبداً البدونة التي فرضها نظام القذافي على كل ليبيا، على العكس تسابق الكثير من أبنائها، على اللإنخراط في جوقة المطبلين للنظام في مهرجانات الشعر الشعبي لعقود.
مدينة من طراز بنغازي لا بد أن تخيف أبنائها من مغبة العقوق، وبعد انتفاضة فبراير تحوّل بعض هؤلاء إلى مريدين، بل لقد نجحت بنغازي بجدارة في إيجاد أزلامٍ خاصين بها، وخلقت عن قصد أو عن غير قصد، متطوعين إلكترونيين يعملون في خدمتها، يهاجمون كل من ينتقدها، أو يقول ما لا يوافق هواها النرجسي، وتكذيب الفكرة المغلوطة بأنها مدينة ثائرة من يومها، فقبيل اندلاع فبراير بأسابيع معدودة، تقبل عددٌ من شبابها الرشوة الرخيصة، التي رماها القذافي للجميع بليبيا، وهي الزحف على مشاريع إسكانية وافتكاك مساكنهم الخاصة، من الشركات والجهات التي بنتها بحجة أنها تسرق حقوقهم في المسكن، مع أن عدداً كبيراً من تلك الشقق، هو ملكٌ لمواطنين آخرين دفعوا فيها عربونا من سنوات، وجلسوا ينتظرون الفرج وأعداد عوائلهم تتضخم وهم يقيمون تقريباً في الشارع، هكذا انتشر شباب من بنغازي كالجراد، تسلقوا الأسوار وهجموا على الشقق سرقوا إمدادات الكهرباء والمراحيض أمام العالم كله، وبعد فبراير انقلب الجميع ثائراً فجأة، قاموا بعمليات تمشيط لبيوت بعض المحسوبين على النظام فسرقوها أو حرقوها، حتى فر أصحابها بجلودهم إلى مصر وتونس خوفاً من توسع الانتقام ضدهم، وهم اليوم مبعدين منفيين محرومين من العدالة والانصاف، وبهذا عاقبت بنغازي بأسلوب اللجان الثورية ذاته أبنائها، ونفتهم وهجّرتهم كما هجّرت مصراته تاورغاء، وكما هجّرت مدناً أخرى أولادها وجيرانها، فكل المدن الليبية هي مدن همجية متوحشة وبنغازي واحدةً منها.
بنغازي العصية كما باتت تسمى حالياً، ولست أدري سبب هذه التسمية يقيناً، فكل شيء فيها بات هشاً لدرجة مقلقة، ازدادت نرجسيتها بعد فبراير، وبعض أولادها "كبروها في خشمها"، وبدل أن يساعدوها في نقد نفسها من موقع الولاء والمحبة، وجمع الناس حولها ومصالحة أبنائها عليها، وتشريح وانتقاد عيوبها ومقاومة الجهوية المتنامية فيها، حمّلوها مسؤولية الدفاع عن ليبيا كلها، جعلوها كما لو أنها مسؤولة عن انتفاضة فبراير والمؤتمنة الحصرية على نجاحها، بالرغم من أنها لا تملك مقومات إنجاح فبراير، فهي أصلا مدينةٌ قبلية، وأبناؤها ينجذبون بسرعة للتعصب لشخصيات بعينها، وكل يوم يغنون لحفتر "حيه خليفة حيه خليفة، بنغازي ما جابت كيفه"، مثلما تغني بقية المدن، لشخصيات ترفعهم إلى مقامات لا تسمح بانتقادهم، لأنهم هم الذين سيحفظون لها فبراير، فمصراتة تسبح بحمد مجرم حرب هو صلاح بادي، وشرائح اجتماعية من طرابلس تسبح بحمد شيخ القذافي الصادق الغرياني وعبد الحكيم بالحاج وشلة تورا بورا، الكل خلق له وثناً ما وصار يعبده على طريقته، وصار هو المؤتمن الوحيد على فبراير والبقية أزلام يريدون اختطاف الثورة.
بعد انتفاضة فبراير بأقل من سنة، بدأت ملامح التعصب تظهر بكل ليبيا، فمن تعصب لقبيلته ومن تعصب لمدينته، ومن تعصب لفبراير، ومن تعصب لسبتمبر، ومن تعصب للملك إدريس، ومن تعصب للقذافي، ومن تعصب للشريعة الاسلامية، ومن تعصب للدولة المدنية، وبدأت حزمةٌ جديدةٌ من المحرمات في البروز، جرى إحاطتها بقداسة ثورية استمدت مرجعيتها هذه المرة من انتفاضة فبراير، التي لم نتفق في ليبيا بعد على كونها ثورة أم انتفاضة أم مؤامرة، وفي سباق التعصب وإنتاج المحرمات هذا، بدأت برأيي عملية نحت وثن من عظام بنغازي لكونها عاصمة الثورة، وصار أي طرح معارض أو ناقدٍ للتورم الذي بدأ يتشكل في جسدها، يقابل بصرامةٍ تصل حد التخوين، والشتم الشخصي العنصري، واتخاذ ردات فعل مفرطة، أرغب هنا بمشاركة القرّاء عدداً منها، بسبب رفضي لمحاولة تحميل بنغازي عبئاً أكبر مما تطيقه، أو لانتقادي الصريح لها.
بصيف 2011، وقد كانت انتفاضة فبراير على أشُدها، وبصفحتي على فيس بوك، قامت السيدة حنان النويصري بانتقاد عبارة رباية الذايح، واعتبرتها مثلي عبارةً عنصريةً وكلام آخر كهذا، فانهال عليها جاري وصديق طفولتي بالكلام الجارح، ولم يترك تقريباً كلمة سوء لم يرمها بها، دخلت متاخرةً لصفحتي لأجد الشتائم والتخوين قد ارتفعا، تناقشت مع جاري ذاك ونهرته على شتائمه للمرأة على صفحتي، فانهال علي هو وصديقة أخرى كانت زميلةً لي أثناء عملي بدار الكتب الوطنية، لأفاجأ بأنني ممن ربتهم بنغازي لكنهم عضوا اليد التي امتدت لهم، وأنني مثل الأفعى في الكم، عدا عن قطع العلاقة معي كلياً.
ومؤخراً قرأت مقالاً لصديق عزيز، فأحببت مناقشته في بعض ما ورد فيه من أحكام، أطلق بعضها جزافاً برأيي، وقلت له إنني أرى فيها مقالةً متملقةً تنفخ في وثنية بنغازي، فانهال علي صديقي بنعوت شخصية مهينة، معتبراً أن ما أقوله كلام أزلام، وأنني سيئة الأدب ومثل الدواعش، وأنهى صداقته معي في أقل من دقيقةٍ ونصف، وغادر قبل أن يسمع مني أن الاعتداء على الأفكار والكلام والنظريات أمرٌ مسموحٌ به، مادام صاحبها لا يحتفظ بها لنفسه، وحين يعرضها على القرّاء فإنها تصير ملكهم، ويصير من حقهم أن يناقشوها ويسخروا منها، أما شخصه هو بلحمه ودمه وكرامته وانتمائه فهو محترم ولا يجوز الاعتداء عليه، لأن افكاره عرضةٌ للتبدل عبر مسيرة الحياة.
هذه ليست قصصاً للتسلية، إنها قصصٌ تُظهر أن انتقاد نرجسية بنغازي، يمكن أن يوتّر النفوس المتعصبة، ويمكن أن يتحول إلى ساحة تخوين وطني لا يصدق، ويمكن أن يُنهي علاقات جيرة وزمالة عمل وحتى زواج، وصداقات حميمة في دقائق، ولو كان أصحاب تلك الآراء مقتنعين حقاً بما يقولونه عنها، ويقفون على أرضيةٍ صلبةٍ من الطرح، لأسعفتهم الحجج وما خذلتهم أعصابهم، لكنهم يلجؤون إلى التخوين وقطع العلاقات لتعصبٍ في شخصيتهم، وهؤلاء بظني لا يستطيعون خدمة بنغازي، في هذا الظرف المشحون بكل أشكال الاستقطاب والتزمت، وهنا يعنيني أن أسجل عدة نقاط كخاتمة:
أولاً، بنغازي كأي مدينة أخرى، أنجبت الأخيار وأنجبت الاشرار، منها الشهداء ومنها السفاحين، فلا داعي للنفخ في نرجسيتها، إذ أضر بها ذلك أيما ضرر، فقد قُمِعت الأصوات المعارضة لفبراير، وأخشى عليها من أن تتحول إلى سرت أخرى مكروهة في ليبيا، أما ما قلته عنها (باستثناء عبارة رباية الذايح)، فيمكنني أن أقوله عن مدن ليبية كثيرة، فمدن ليبيا كلها مدنٌ ذكوريّة ولا تحترم نساءها، والعنصرية اللفظية والاجتماعية تمتد من امساعد لأوزو لرأس جدير، وإن كانت بنغازي تعاني نرجسيةً برأيي، فإن مدناً اٌخرى غيرها، تعاني من بارانويا مستفحلة، حتى لتكاد تأتي على أولادها وأولاد غيرها، إنها مصراته، شرطي ليبيا، وظل الله على الأرض، وحامي حمى فبراير من السرقة والتسلق وهبوب الريح، والراعي الرسمي للكثير من المجازر وأعمال التهجير، إن مقالتي ركزت فقط على بنغازي، لأنها المدينة التي عشت فيها طوال حياتي، والتي أزعم أنني أعرفها جيداً، ولأنني أردت عمداً الاقتراب من هذا الوثن الجديد، كما اقتربت قبلها من وثن الدين، وكما سأظل أقترب من كل وثن أراه يبذر التعصب.
ثانياً، إن كلام الساسة، والشيوخ، والمثقفين، والمواطنين، والكتّاب، والمعلقين على الأخبار والأحداث يظل كلام أناس عاديين وكفى، ليسوا آلهةً لكي لا يعقّب أحدٌ على كلامهم، حتى الآلهة صار كلامها اليوم محل مراجعة، أما ضيق الصدر والأفق والتبرم بمن يطرح رأياً مخالفاً ورميه بكل التهم المعلبة، والمحفوظة لوقت خذلان الحجج، فهو لن يساعد في حل المشكلات الاجتماعية والسياسية والدينية بليبيا، لأن حلها بالذات يتطلب فك القيود عن فكر المواطن، ومنحه حق التعبير عن رؤيته الخاصة لما حوله، في نقاشٍ علني شجاع ومنفتح، وسماع كل الآراء المخالفة والغريبة وحتى السخيفة، فكل حقل معرفي بالمجتمع أو الدولة أو الدين لا يجب أن يكون بمنأىً عن النقد، والمجتمعات المتحضرة التي كفلت جميع الحقوق لمواطنيها، لم تصل إلى هذه الحالة إلا حين استمعت للكل، لكي تعرف كيف تتقي الانغلاق الفكري والتعصب، وتجد طريقةً تدير بها اختلافات مواطنيها، لهذا تسمح هولندا والدنمارك وبريطانيا وغيرها، لمواطنيها من الموالين لداعش بالخروج في مظاهرات ورفع أعلامهم، ومطالبتهم علناً باعتناق الإسلام وإلا فالخلافة قادمة، لتفتك منهم حضارتهم وتحولهم إلى عبيد وجوارٍ، لهذا فمن حق حتى الدواعش بنظري، الحصول على فرصة التعبير عما يعتقدونه وما يفكرون به، بشرط أن يتم هذا بدون عنف وأن يتم علناً بفضاءات تتيح رؤيتهم، لكي نتعرف عليهم وعلى ظروف نشأتهم ومصادر فكرهم ونناقشهم فيه، ونفتح الباب واسعاً أمام إعادة قراءة الإسلام، حتى تقوم الحجة على الجميع، ولا ندفع أحداً للعمل السري ضد المجتمع، كما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين، التي زُج ببعض رموزها في السجون وأُعدِم البعض الآخر، دون أن نفلح في إعدام فكرها المعادي للحياة المدنية، وها هي تستحيل إلى جماعةٍ معربدةٍ في العالم كله، لتعيد إنتاج العنف الوحشي الذي مورس بحقها.
ثالثاً، حين أكتب شيئاً كهذا فلأنني أرى أننا كليبيين لم نتأثر بانتفاضة فبراير بعد، ولم نفلح من خلالها إلا في إسقاط نظام القذافي، وهو أسهل شيء على الإطلاق، لكننا ما زلنا لم نفتح بعد ذلك الباب الموصد فينا، على كل صور القمع الفكري والإيديولوجي للمخالفين لنا، وهو أمرٌ يحتاج إلى ثورةٍ اجتماعيةٍ وفكريةٍ طويلة، وأنا حين أكتب شيئاً كهذا، فأنا لا أشعر بأي ضغينةٍ تجاه أحد، على العكس تماماً أشعر بفرحٍ غامر، فسابقاً كنت أتألم حين يخرج صديق أو قريب من حياتي، الآن كلما خرج أحدٌ منهم من حياتي ـ لرفضه حقي في التعبير ـ، أشعر كما لو أن أحمالي قد خفت على نحوٍ ما، إذ أتخلص من عبء مراعاة خواطرهم ومشاعرهم وأمنهم لأكتب بحريةٍ أكثر وأكثر، وأنا أعترف أنني ما زلت غير حرة، بسبب علاقاتي الحميمة التي تكبلني، فنقص حريتي كان سببه دائماً كثرة متعلقاتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيرانيون يتظاهرون في طهران ضد إسرائيل


.. اعتقال موظفين بشركة غوغل في أمريكا بسبب احتجاجهم على التعاون




.. الأمم المتحدة تحذر من إبادة قطاع التعليم في غزة


.. كيف يعيش اللاجئون السودانيون في تونس؟




.. اعتقالات في حرم جامعة كولومبيا خلال احتجاج طلابي مؤيد للفلسط