الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرموز والدلالة وجدل المعرفة الباطنية- مقاربة ابستمولوجية

فكري آل هير
كاتب وباحث من اليمن

(Fekri Al Heer)

2016 / 2 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لازالت الأفكار الشمولية التي تقدم حول "المطلق" واللانهائي و"الأبعاد المتعددة للفكر والوجود"، تحاول إثبات نفسها في الوقت الذي أثبتت فيه هذه الأفكار أن الفلسفة والعلم والفكر الديني لازالت ترفض الاعتراف بأن هناك طرق أخرى غير الطرق التي اعتمدتها للتحقق من صحة أفكارنا أو عدم صحتها.
على مر الدهور وفي كل الثقافات، قدمت المدارس والحركات الصوفية والعرفانية والغنوصية، رؤيتها المتقاربة بشأن المعرفة الباطنية، والتي لطالما اعتبرتها مدخلاً ضرورياً لإدراك الحقائق الشمولية الكبرى، ولكن لا أحد من الفلاسفة العقلانيين أو رجال الدين الحرفيين أو علماء الطبيعة الماديين قبلوا بالاعتراف بهذه المعرفة، بل أنهم جميعاً توجهوا ووجهوا نحو القطيعة التامة معها، رغم أنها تقدم نموذجاً للتفكير في الوجود والميتافيزيقا يستحق على الدوام أن يحظى باحترام ونظرة موقرة.
تضعنا المعرفة التقليدية بكل أطيافها أمام شعور بالعجز في فهم ما يتحدث عنه غالبية البشر.. كيف جاءت كلمة (الله) الى عقولنا، وأيهما أسبق الكلمة أم الفكرة؟ هل فكر الناس حتى اهتدوا الى فكرة (الله) أولاً ثم أطلقوا عليه هذا الإسم؟ أم أن ما حصل هو العكس- أي أنهم توصلوا الى الاسم أولاً، ثم من التفكير في الاسم وفي أمور أخرى توصلوا الى كل أفكارهم التي سجلها التاريخ عن الله؟- في الحقيقة أن هذه التساؤلات تقودنا الى وضع محرج أمام تساؤلات أخرى أكثر إحراجاً: أيهما كان أولاً الفكر أم اللغة؟! وما الذي يمكن أن يكون صلة جوهرية بينهما؟ ثم أين يمكن لعقولنا أن تتعامل مع كل شيء بشمول وعمق مجردين؟
الإجابة تكمن في عبارة واحدة: الرموز [نموذج التفكير الرمزي].. مع التنويه الى أن هذا سيقودنا في نهاية المطاف الى التفكير الرياضي والهندسي.
إننا لا نستطيع أن نهتدي بعقولنا الى كل شيء وما وراء كل شيء بصورة شاملة بالطرق المباشرة، بالعكس كل طرق التفكير المتبعة من قبل البشر، تضعنا أمام وظيفة المماثلة أو التمثيل الرمزي.
للأشياء التي يمكن ادراكها بالحواس نحن نطلق عليها الأسماء ويكون بمقدور عقولنا إدراك صورها كونها بالأساس واقعة تحت نفوذ حواسنا.. لكن ماذا عن تلك الأفكار التي تتمحور حول ما لا يمكن إدراكه بحواسنا أو تبلغه عقولنا، ونعتبره خارج حدود الوجود أو فيما ورائه؟- من الواضح أيضاً أنه لا مناص من أن نتعامل معها بطريقة الرموز.
ربما من المناسب القول هنا، أن اللغة كظاهرة صوتية وتعبيرية شفاهية قد وجدت في بداية الأمر لتؤدي دور الوعاء الذي تنتقل فيه معرفتنا بكل ما هو في حدود الإدراك الحسي، أما الكتابة واستخدام الرموز فقد وجدت لتعبر عن تصوراتنا، خاصة بتلك الأمور التي لا يقع في مجال حواسنا وتفكيرنا.
ربما نحن بحاجة الى تطوير فكرتنا هذه نفسها ومناقشتها جيداً..
في الحقيقة أن الكتابة هي وسيلتنا الوحيدة لتوثيق ما يدور في عقولنا، قبل أن تمتد وظيفتها الى توثيق كل شيء فكرنا به .. فهل نفترض أن ثمة اتفاقاً كان موجوداً بين الناس حول دلالات الكلمات والرموز .. ومع مرور الزمن واختلاف اللغات والثقافات والمعتقدات، فقدنا هذه الخاصية وصارت أغلب مشاكلنا نابعة من اختلافنا في الدلالات والمعاني، كما هو عليه حالنا اليوم؟!
إننا لا نختلف كثيراً حول ضرورة الإقرار بوجود (الإله الخالق).. ولكننا مختلفون في تسمياته وما تحمله تلك التسميات من تصورات متباينة.. فإذا ما شئنا بلغة جامعة أن نتحدث عن "الخالق" فمن المؤكد أننا سنتحدث عن الخالق الذي يؤمن به الجميع، ولكنهم ليسوا على اتفاق فيما هو خاص باسمه وصفته وماهيته.. الخ!!- وبالطبع، فإن هذا ينسحب على كافة القضايا الأخرى.
وإذن، لن نتفق، طالما وأنه لا يوجد بيننا منهج وطريق نسلكه معاً من بدايته الى نهايته، يحمل معه اختلافاتنا وتبايناتنا حول كل شيء، ومن المنطقي جداً أن نفترض أنه لابد وأن يكون هناك منهج من هذا النوع، أو أننا قادرون على إيجاد مسلك ـيجمع بيننا لذات الهدف، ولعلنا نفترض أيضاً أن هناك دائماً قاسماً مشتركاً أصيلاً وجوهرياً بين كل معتقدات وتصورات وعلوم ومعارف البشر... ولكن ما هو هذا القاسم المشترك؟! وما مدى أصالته؟
كل الأديان تقريباً، حملت في جانب منها أو احتضنت ذلك النوع من المسالك المعرفية، التي عرف على الدوام بأنها مرفوضة ومحرمة، مما أدى الى اعتناقها بشكل سري، أو التعامل معها في نطاقات غير معلنة، وغير معترف بها رسمياً، الأمر الذي حال دوماً دون أن تكون شائعة بين الجميع. نتحدث هنا عن المعرفة الباطنية "السرية"، إنها ما نجده في عقائد قدماء المصريين والسومريين والبابليين وعقائد الشرق القديمة، ونجده في البوذية والهندوسية وفي الأديان السماوية الثلاثة أيضاً.
لطالما اعتبرت المعرفة الباطنية وكل أدواتها، نوع من السحر والشعوذة والدجل- وصحيح جداً أن كثير من ممارساتها كانت كذلك بالفعل- ولكن هذا لا ينفي إطلاقاً أن لها أصل، وأن هذا الأصل هو من يخبرنا أين بدأت هذه المعرفة وكيف سارت واتجهت، والى أين آلت، ومتى ولماذا ضلت طريقها وانحرفت عن مسارها، وأين احتفظت بأصلها ومسارها الصحيح.. فمن المحتمل جداً أن التداول السري لهذه المعارف كان قديماً جداً، وأن قنواتها السرية لابد وأنها حافظت على امتداداتها الزمنية التي نقلت عبرها بشكل أمين.. ولكن أين نجد هذه المسارات الأمينة بالضبط؟!- هذا السؤال يجعلنا نقرر أن ننهج منهجاً مقارناً بين سائر الأديان والعقائد التي احتفظت بهذا النوع من المعارف، ومن المهم جداً – كما قررنا آنفاً- أن نبحث عن القواسم المشتركة، ونقاط الاتفاق، فلنرى ماذا سنجد في هذا الشأن.
ببساطة تتفق جميع المضامين السرانية في كل الأديان على أمر واحد، يكاد يكون بديهياً ومن المسلمات في عرف أصحابها، وهو أن الأسرار حفظت في الأبجدية وفي الكلمات والأسماء، وأن الأصل في هذه الأسرار أنها ذات دلالة كمية وعددية، فكل حرف يقابله عدد، وكل كلمة يقابلها مجموع أعداد حروفها، وبالتالي فإن ما وراء اللغة والكلام ليس إلا معارف رياضية وهندسية لا طائل لحصرها، كما أنها معرفة مجردة ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينزلق في مزالق التعدد والتباين في معانيها ودلالاتها، وبالطبع فهذا يبدو أمراً أكيداً، طالما وأن جميع البشر مهما اختلفت رموزهم سيظلون على اتفاق بأن:
1+1= 2
كما أن البشر مهما اختلفوا في تسمية المربع فإنهم لن يختلفوا أبداً في رسمه على النحو الذي ثبت عليه شكله وصورته.
إذن، فالحديث عن الحروف الأبجدية المقدسة- كأصوات- ليس هو كل شيء في هذا المجال، فهناك لغة أخرى فوق - أو ربما تحت - لغة الصوت، إنها لغة الرموز.. (+، ×، !، ؟، #)... الخ.
لهذه الرموز معاني ندركها، بمعنى أن للكتابة والرسم مجالاً وظيفياً أكبر من مجرد أن تدرك عقولنا معاني الأصوات فقط، وفي هذا المقام يمكننا فقط اعتبار اللغة (الصوتية) هو أول مستوى تجري فيه وتتناقل أفكارنا ومعارفنا المشتركة، أي إنها البعد التواصلي/ الإتصالي الأول.
صارت فكرة الأبعاد في الوقت الراهن، مثيرة ومغرية بل وساحرة للكثيرين من المبتدئين، ويمكن الاستقرار هنا على ما نعنيه هنا بالأبعاد، بأنها تلك المستويات التي يمكن تصورها متدرجة أو متوازية أو منتظمة بشكل ما، والتي تظهر فيها الفروق في قدراتنا العقلية والفكرية، بحيث يمكننا أن نتساءل:
إذا كانت اللغة (الصوت) هي البعد الأول لاستظهار أفكارنا والتعبير عنها وتبادلها، فهل الكتابة بعد آخر للتفكير؟ وهل التفكير العددي بعد ثالث؟ وهل التفكير الهندسي بعد رابع؟
حسناً، كان ذلك مجرد سؤال وحسب، ولكن إذا قررنا بأن ما يتحرك في هذه الأبعاد الفكرية والمعرفية ليس إلا "المعنى والدلالة".. فماذا عن أبعاد الزمان والمكان حيث تتحرك الأشياء الملموسة؟!
وإذا كانت كل هذه الأشياء الغير ملموسة والملموسة تجري في نطاق أفكارنا، فما هو المجال (البعد) الذي تتحرك فيه أفكارنا الكلية.. أين بالضبط تعمل وتتحرك عقولنا ذاتها بحيث تكون قادرة على إدراك كل شيء؟- في الحقيقة أن هذا هو السؤال الذي لازلنا نبحث فيه منذ أقدم العصور وحتى اليوم.
إن أفكارنا الميتافيزيقية عن الله والخلق والوجود، كلها كانت ولازالت اطاراً لتقديم إجابات عن هذا السؤال، تماماً كما أن العلم الحديث قدم محاولاته وإسهاماته في هذا الشأن من خلال النظرية النسبية ونظرية الأوتار فائقة السرعة.. وكذلك فعلت أيضاً الفلسفة، من حيث تبنت اقتراحاتها المقابلة، وفي جميع الأحوال كانت اللغة والكتابة هما الوسيلتان اللتان وجدناهما أمامنا لتوثيق وتبادل كل معتقداتنا وفلسفاتنا وعلومنا..
ولكن، سيكون من غير الصحيح القول بأن هذا هو منتهى كل شيء.. بل الصحيح أن هذا هو بداية كل شيء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استقطاب طلابي في الجامعات الأمريكية بين مؤيد لغزة ومناهض لمع


.. العملية البرية الإسرائيلية في رفح قد تستغرق 6 أسابيع ومسؤولو




.. حزب الله اللبناني استهداف مبنى يتواجد فيه جنود إسرائيليون في


.. مجلس الجامعة العربية يبحث الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والض




.. أوكرانيا.. انفراجة في الدعم الغربي | #الظهيرة