الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن وطن

محمد صالح الطحيني

2016 / 2 / 29
الادب والفن


طلقة في الصدر ويهوي الطائر الذي كان في مقدمة السرب ... وفي نفس اللحظة يسقط شهب من السماء ويتابع السرب طيرانه باتجاه نور القمر بسرعة أكبر.
لماذا قتلوه ولماذا اختاروا تلك الليلة بالذات ... كنا سعداء جدا بقدوم مولوده الجديد مس مـن الجنوب أصابه بعد ذلك النبأ، بدأ ينتقل بيننا يرقص كالطفل يقبل هذا ويشد شعر ذاك .. أخيراً لقد أتى انتظرته طويلا ... تصوروا أني عندما فقدت الأمل من نفسي على إنجابه طلبت من جارنا أبا أحمد أن يفعلها لكي يأتي فانا لا تهمني الطريقة أنا أريد أن أراه فقط أن أضعه بصدري أن أغرسه بتربة الحديقة وبمكان شجرة السنديان التي زرعها والدي والتي قطعها هؤلاء الكلاب بمكانها تماماً كي يأتي مثلها قوياً صلبا، عندها نظر إليّ أبا أحمد ببله وقال لي استغفر ربك أيها الكافر فلن ترى ولداً ما زلت كافراً لكنه ها هو قد أتى رغم عن الله وعن جارنا أبا أحمد، إني سأسميه ....
وفي نفس اللحظة دخل أكبر الكلاب حجماً فقد كنا نخشاه جميعا فه لا يأتي إلا للمهمات الكبيرة فقاطعه بلكمة على صدره وجره أمامه ... دقائق من الصمت سادت بيننا كان كل واحد منا يخاف أن ينظر إلى الآخر، وفجأة بدأ ضوء الغرفة يخبو قليلا ويعود للتوهج مرة ثانية ... صرخاته كانت تمزق أفق السكون رغم أن لم نسمعها عندها علمنا أن فهد لم يعد إلينا مرة ثانية.
في منتصف الليل سمعت نشيج مكتوم بحثت عن مصدره كان عبد القادر يكتم بكاءه بوسادته التي كانت ملطخة ببقع من الدم ... ما بك يا رجل علام البكاء فهو ليس الأول وليس الأخير أي واحد منا ينتظره هذا المصير في أية لحظة حتى أنت لن يعفيك هذا السل من أن يفتكوا بك إنهم أخطر من مرضك نفسه.
- أبكيه لأني الوحيد من يعرفه جيدا بينكم إنه والله مظلوم فهو لا يعرف يمين من يسار كل همه في دنياه عمله وزوجته ووليده الذي كان ينتظره ... لماذا هو بالذات فهو لا يشكل أي خطر عليهم ... هو الوحيد بيننا من كان عنده الأمل بالخروج إلى زوجته وولي شقاءه المنتظر، لم تكن تخيفه هذه القضبان وهذه الكلاب المتوحشة خلفها.
- أخي قدور كلنا يعرف لماذا هو بالذات فهو لا يملك أي شيء لا يعرف أي شيء كان كبش الفداء لنا كي يخيفونا بمصيره لنسحب معنا كثير من الأعزاء لدينا إلى هنا ليلاقوا نفس المصير لذا أريدك أن تجفف هذه الدموع ولا تدع الضعف يدخل إلى قلبك فمصير فهد سيزيدنا تصميما على موقفنا بالكتمان لكل ما يريدون معرفته.
بدأوا يستيقظون واحد تلو الآخر وكأن عصب يربطنا معا، ومن زاوية مظلمة تحركت أوتار عود لتتوحد مع ظلمة المكان وأصوات تنشد بهدوء نشيد الحرية.
بعد أن وقت تنازلي عن إنسانيتي وكرامتي خرجت إلى عالم آخر رأيت فيه الأزقة والشوارع مليئة بسيول بشرية تبحث عن لقمة العيش وفي رأس كل واحد منهم تتضارب أفكار عدة كأن متناقضات العالم حشرت برؤوسهم لتتعبهم وتوصلهم إلى هذه البلادة في التفكير فهم أضعف بكثير مما يقاسون.
قلة منهم تمرد على كل شيء فهذا يقتل ليشرب نخب حبه آخر الليل وذاك يتاجر بعقول البائسين وآخر هناك جمع فئة يخطب بهم بصوت عال يدعوهم للسجود خاشعين أمام خالقهم ليسكت صوت الثورة في نفوسهم.
والسيل يجري ليصب في معامل تحول أرواح هؤلاء الذين يدعون بشرا إلى ذهب أصفر لتمتلئ به خزائن سادة مدينتي مدينة الشيطان الأصفر.
تركت هذه السيول البشرية وتلك المدينة وحزمت أمتعتي متجهاً إلى المحطة أبغي الرحيل ... وصلت إلى هناك صعدت القطار وابتعدت ملوحاً بيدي لنفسي التي بقيت على رصيف المحطة، بدأت المسافات بيننا تكبر شيئاً فشيئاً ويغيب الوطن عن عيني فتنهمر دمعتان أعجل بمسحهما محاولاً عبثاً أن أبعد عن مخيلتي أشباح من الماضي.
بالأمس كنت أناقش نفسي التي كانت دائماً تعارضني فكرة الرحيل لم يبقى لي سبب واحد للبقاء هنا ضغوط كثيرة تمارس عليّ تجبرني على حزم أمتعتي والرحيل إلى أي مكان بعيد عن هذا الوطن.
- لقد قررت الرحيل.
- ولكن هذا ضعف منك يجب أن تبقى متحدياً كل هذه الضغوط وتثبت وجودك وانتمائك إلى بيتك ووطنك الذي أعطاك وجودك أعطاك أسباب بقائك أعطاك كل شيء.
- هراء كل ما تقولين يا نفسي أنت وحدك تعلمين بكل شيء حتى البحر في وطني أصبح سراباً ضاعت كل الحقائق في متاهات ماضينا فجلسنا نبكي عليه، عمالقة وطني باتوا أقزاماً تعبوا من الركوع أمام خنافس يدعونها دول عظمى وتعبت أنا.
- ولكن يجب أن تبقى لتعيد ماض هم اكتفوا بالبكاء عليه يجب أن تبقى فليس الحل بالرحيل كما تعتقد.
- هل أنت واعية لما تقولين كيف لي أن أبقى متحديا، حتى أنفاسي حبست في سراديب تعفنت من الظلمة، كل الرؤوس دفنت في تربة هذا الوطن خائفة مذعورة وبقيت المؤخرات شامخة كيف لتلك المؤخرات أن تواجه كل ما نحن فيه، لقد أصبحت في وطني سلعة رخيصة مستهلكة، حتى الكلمة أصبحت بغي فقدت شرفها أما الله فقد سقط في معيار التقدم وقيم رجعيا ... وتريدينني أن أبقى وإن بقيت ماذا أنا بفاعل في وطني كل النفوس فيه تمشي واطئة الرأس تبحث عن كرامة مفقودة فقدتها منذ زمن بعيد، تريديني أن أبقى لأثبت وجودي أنا منذ خلقت في وطني لا وجود لي، عليّ أن أجد إنسانيتي وكرامتي في وطن آخر.
أجابتني متنهدة:
- أنا راضية بما أنا فيه سيأتي يوم أمشي فيه عالية الرأس مستعيدة كرامتي أبقى معي ولنبحث عن تلك الكرامة الضائعة فسنكون خير عون لبعض.
- كلا لن أبقى بل الأجدر بك أن تذهبي معي ... فتراجعت مذعورة وقالت:
- أنا لن أغادر هذا الوطن فأنا كالسمكة إن فارقت محيطها ماتت غرقا.
- ابق إذا وحيدة أنت والرعب الذي خلق فيك عله يواسي وحدتك ... فانهمرت دمعة من عينيها وقالت: أتسخر من شقائي ... قلت:
- بل أنت التي تسخرين من نفسك ببقائك في هذا الوطن.
- إذا هذا قراراك الأخير...
- بل هو قراري الأول أنا لم أقرر شيء منذ خلقت سيكون هذا قراري الأول الذي تتلى بعده القرارات فأنا لا أستطيع أن أقرر مصيري سوى خارج حدود هذا الوطن الذي لا حدود له في قلبي.
في زمن التصحر يمتد الجفاف إلى كل شيء حتى البحر يصبح كثبان رمال ... عطش قاتل يصل إلى الجذور ليحيل جميع الأشياء إلى بقايا حطام ورماد ... في هذا الزمن نبحث عن ظل نتفيء به عبثا نحاول حتى الظلال هجرتنا مع الطيور بعيداً.
عطش لكل شيء ... عطش للحرية ... للحب – للحياة عطش يمتد منذ النشأة الأولى ... في هذا الزمن يتبوغ أصل الحياة منتظراً لحظة الطلق لتكون الولادة ... ولادة قيم أهلكها العطش والجفاف.
زمن تضيع فيه الحقائق ويصبح الاغتراب حقيقة نعيشها مرغمين، إن أصعب حالات القهر تلك التي يشعر بها المرء أنه غريبا حتى عن أقرب الناس إليه، حينها يصبح الوطن سفينة ضائعة تلفظها كل الموانئ ونضيع فيه بين صفحات جواز السفر ... حدوده مرسومة فينا تقسمنا وتفصلنا عن أجمل ميزة فينا تنزع منا كبريائنا إنسانيتنا تنزع منا انتمائنا.
إلى متى سنبقى غرباء في وطن قلعنا منه ومن جذورنا ... متى سنجد ذلك الوطن الذي نمد به جذورنا بتربته ونشمخ به عاليا نتحدى جميع رياح الأنانية والضعف والتفرقة لنعيد أمجاد اكتفينا بالبكاء عليها.
متى سيعود ذلك المنفي من نفسه إلى داخل الوطن الذي لا حدود له في قلبه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أشرف زكي: أشرف عبد الغفور كان من رموز الفن في مصر والعالم ا


.. المخرج خالد جلال: الفنان أشرف عبد الغفور كان واحدا من أفضل ا




.. شريف منير يروج لشخصيته في فيلم السرب قبل عرضه 1 مايو


.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح




.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار