الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بورسلان وصناعة -الديمقراطية-

عبدالله دعيس

2016 / 3 / 3
الادب والفن


عبد الله دعيس:
بورسلان وصناعة "الديمقراطية"
قد تكتنفنا الحيرة عندما ننظر إلى ما يدور في العالم العربيّ من أحداث وما مرّ به خلال قرن من الزمان. نحاول أن نفهم، لكنّنا قد نكتشف في النّهاية أنّ ما رأيناه لم يكن إلا وهما، وأنّ الأمور تجري بطريقة مغايرة لما نعتقد أو نستطيع أن نحلّل؛ فنحن ننظر من خارج المشهد، ونستقي معلوماتنا غالبا من وسائل الإعلام أو مّما نسمع من تحليلات وآراء، فمثلنا كالذي ينظر إلى الدّنيا من خلال مرآة خادعة؛ لا تعكس الحقيقة بتاتا، ولا يدري ما يدور خلف المرآة من أحداث. يحاول الكاتب أيمن العبّوشي في روايته "بورسلان* أن يخترق هذا الجدار السميك، وينطلق إلى العالم القابع خلف تلك المرآة القاتمة ليقرّب للمتلقّي الصّورة، ويضع بين يديه طرف الخيط الذي قد يقوده إلى فهم الواقع المعقّد الذي عشناه ونعيشه.
يحاول الكاتب أن يكشف ما يجري خلف الكواليس المعتمة بطريقة ممتعة جميلة وحيلة ذكيّة، فهو يستغلّ تحقيقا يجري مع وزير في إحدى الحكومات بتهمة انتحال شخصيّة رجل مهمّ، ليكشف هذا الوزير عن الأصابع الخفيّة التي تحيك بالخفاء بمهارة، وتفصّل ما تشاء لجماهير قد تخدعها وسائل الإعلام وتوجّهها كما تريد. ويخلق الكاتب شخصيّة الوزير أو (الدكتور) كما يسمّيه أحيانا، لتمثّل قطاعا كبيرا من السّياسيّين الذين يحكمون العالم. فهذا الوزير نتِنَ الرائحة، لا تفارقه تلك الرائحة التي تشبه رائحة السردين الفاسد مهما غمر نفسه بأنواع العطور الفاخرة. فإن كانت رائحة هذا الوزير بيّنة تزكم الأنوف، فروائح السّياسيّين الفاسدين يستطيع كلّ ذي بصيرة شمّها بقلبه قبل أنفه، مهما حاولوا أن يبهرجوا صورهم عن طريق وسائل الإعلام الأسود التي يديرونها بأيديهم، ولكن، أنّى للكذب أن يطمس الحقيقة؟ وأنّى للعمى أن يطمس البصيرة؟ ولهذا الوزير شخصيّة مضطربة وتاريخ عائلة موغل بالجنون والأمراض النفسيّة، وكذلك هم حكاما: أوليس من الجنون أن نبيع الأوطان بثمن بخس ونرهن أنفسنا وخيراتنا ومقدرات شعوبنا في أيدي الأعداء؟ أوليس من الجنون أن يكون هدفهم وأسمى ما يتمنونه أن لا يفارقوا كرسيّا حتّى ولو تمرّغت أنوفهم في وحل الذلّ والمهانة؟
ويبدع الكاتب عندما يبتدع شخصيّة شبيه الدكتور (المستنسخ) الذي يظهر له فجأة، ويختلط الأمر عليه حتّى لا يستطيع أن يعرف نفسه. ونرى الدكتور يصبح اثنين: أحدهما يعذّب الآخر، والآخر يحيك المؤامرات ليوقع بنفسه! بهذه الطّريقة، يكشف لنا الكاتب حقيقة أنفس أولئك السّياسيّين الذين يميلون في كلّ اتجاه ويسعون نحو مجدهم الشخصيّ بأي طريقة كانت ومن أي سبيل، لا تهمهم الوسيلة ولا تهمهم مصلحة وطن ولا أمّة، يتقلّبون كجلد الحرباء، وينهشون كأنياب الأفعى، ويميلون حيث تأخذهم الأنواء. يقفون حائطا منيعا حاميا للطّاغية عندما تكون مصالحهم في كنفه، ويركبون ظهور الجماهير عندما يهبّون مطالبين بحقوقهم، ويتسلقون جهودهم، ويغيّرون أقنعة وجوههم؛ ليعودوا مرّة أخرى لجَلد الظهور التي حملتهم، ولكن بسوط جديد، عادة ما يكون أشدّ إيلاما ولو تغيّرت الأسماء والوجوه.
ويقود الباشا التحقيق مع الوزير الفاسد، وهو الذي أتى به أول الأمر لكرسيّ الوزارة. يمثّل الباشا بكلّ عنجهيّته رجال الأعمال المتنفّذين في البلاد، والعملاء الذين لا يخطون خطوة بغير تعليمات واضحة من سفارات الدّول العظمى، ينتقون أبناء الذوات وأصحاب المصالح والمتسلّقين والوصوليّين، ويرفعونهم على رقاب الشّعب ويمنحوهم ألقابا؛ ليحققوا جاها ذاتيّا ويذللوا الطريق لمن أتى بهم من دول الاستعمار؛ لينهبوا الثروات ويُثروا الشركات والقلّة المتصدّرة للاقتصاد العالميّ، ولو على حساب عرق ودماء شعوب بأكملها. يتذرّعون بالديمقراطية أحيانا ليعيدوا إنتاج دكتاتوريّات أشدّ تسلطا وأكثر قمعا من التي سبقتها.
وإنْ كانت ديمقراطيتهم زائفة واضح زيفها، فهي ليست أسوأ من ديمقراطيّات الدول الكبرى التي تدعمهم وتتغنّى بالحريّة والمساواة. فالشعوب الغربيّة أيضا تقع تحت تأثير وسائل إعلام متمرّسة بالكذب والتضليل، والتي ترفع ثلّة من المنتفعين الذين تصنعهم الشركات الكبرى وأصحاب المصالح إلى سدّة الحكم، ويظنّ الشعب أنّه هو الذي ينتخب هؤلاء وأنّهم يمثّلونه، ولا يعي حجم التضليل الذي مورس عليه ليضع بطاقات الانتخاب في الصناديق تماما كما أملت له وسائل الإعلام، وليكون اختياره تماما كما أراد أولئك المتسلّطون.
فإن كان مرجي باشا والوزير نتن الرائحة يعيشون في بلد عربيّ، فإن هناك كثيرين أمثالهم أيضا يعيشون في البلاد الغربية ولا يختلفون عنهم شيئا، وإن كانت الشعوب العربيّة تصرّ على العبودية وتستعذبها ولا تطيق الانعتاق منها، فإنّ الشعوب الغربيّة تعيش في ذلّ من نوع آخر وعبوديةّ أخرى، ليست لرجال المخابرات وأمن الدّولة كما في البلاد العربيّة، وإنما عبودية للمرابين والتجّار ورجال الأعمال وأصحاب الشهوات، الذين يربطونهم بحبل الديون ويقودونهم به، وبحبل جماعات الضغط وأقلامهم المأجورة التي تستعبد عقولهم وتأخذها حيث تشاء.
لم يعط الكاتب أسماء لمعظم شخصيّاته، ولم يسمّ الأماكن ولم يحدّد الزمان؛ لأن هؤلاء الشخصيات موجودون في كل مكان، وهم في كلّ قطر، وهذه الأحداث تتكرّر في كل عصر وحقبة من الزمان، فالقارئ يستطيع أن يسقط هذه الأحداث على المكان الذي يعيش فيه أو على التاريخ القريب والبعيد للدّول العربيّة، ويشعر أنّ الكاتب يقوم بتوصيفها دون زيْف، لذلك فإن الكاتب أحسن صنعا عندما ترك المكان والزمان غير واضحين.
نلاحظ أن الشخصيّات النسائيّة في الرواية تكاد تكون معدومة، فأبطالها جميعا من الرّجال. ربما قصد الكاتب أن يبيّن أن الرّجال هم الذين يسيّرون الأمور، وهم الذين يصنعون الأحداث ويحمون الطغيان ويمارسونه، وهو محقّ في هذا، إلا أن للمرأة دورا كبيرا في صناعة السّياسيّين؛ فهي المربية لأولئك، وهي أيضا التي تربّي الشعب الجاهل والخانع الذي يسهل خداعه.
وكذلك فإن الكاتب جعل جميع شخصيّاته شرّيرة فلم نلمح شخصية طيبة أبدا، حتّى الشّيخ عزمي الذي كان يشقى ببيع الفول، وعطف على الدكتور (الوزير) الذي لا يستحق العطف والحنوّ، ثمّ كان مصيره أن يدفن حيّا بيد من آواه. لا يستطيع القارئ أن يتعاطف معه بتاتا، فقد كان شخصيّة سلبيّة يعيش حياة الفقر والعناء بينما يُخفي الأموال الطائلة على سطح كوخه، والتي وقعت في يد الدكتور الخائن واستخدمها ليتسلق مرّة أخرى إلى دور السيادة والقيادة، وكأن هذا العجوز يمثّل الشعب الخانع الضعيف الذي يستطيع أن يغيّر ولكنّه ينخدع بسهولة ليصبح مطيّة للمتسلقين الذين يدفنونه وهو على قيد الحياة.
بعد أن ننتهي من الرواية نعيد النظر إلى غلافها، فنرى ذاك التمثال المحطّم، وننظر إليه مرّة أخرى لنرى العبيد يعيدون ترميمه وبنائه ويهبّون إلى عبادته من جديد.
* صدرت رواية بورسلان لأيمن عبّوشي عام 1915عن دار الجندي للنشر والتوزيع في القدس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع