الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خابية الكنز المفقود 2

نعيم إيليا

2016 / 3 / 19
الادب والفن


(تل دهب) قرية مجاورة لقريتنا (عين وردا) قريبة منها. إن المسافة بينهما لقصيرة جداً، يقطعها السائر المترجل المتمهل في سيره بزمن لا يكاد يتعدى ثلاثة أرباع الساعة. فهي إذاً أدنى إلينا من جميع القرى المسيحية والكردية التي تحيط بعين وردا من الجهات الأربع. ولن يخطئ المرء إن عدّها حياً من أحياء قريتنا الكبيرة – هي كبيرة بالقياس إلى تل دهب - لا بسبب قربها الواضح منّا فحسب؛ بل بسبب ما بين أهلها وأهل قريتنا من القرابة والتواشج والتزاور والاختلاط والاجتماع؛ وبخاصة في المناسبات الدينية: الأعياد، عقد القرانات، المعمودية، الصلاة في الكنيسة. إذ لا توجد في تل دهب كنيسة، وليس لها مختارية. وهي قائمة فوق ربوة رمادية التربة – يعتقد من لون تربتها، أنها دهرية مغرقة في القدم بنيت مرة بعد مرة - مرتفعة حتى لتبدو لعين الناظر إليها من بعيد، جزيرة يحف بها بحر ولكن من طين أحمر – أراضينا طينها أو ترابها أحمر – تقع، من جهتنا، خلف النهر الصغير الذي يشكل حداً طبيعياً فاصلاً بين أراضيها وأراضي قريتنا. ولعلَّةِ وجودها غرباً على الطريق الممتد إلى المدينة مركز المنطقة - وهو طريق ترابي ضيق يتعرج مثل ثعبان كسول كالح إذا زحف - ليس لمن ألزمته الحاجة أن يزور المدينة من أبناء قريتنا والقرى التي خلفها، من معدى عن المرور بها أولاً.
في هذه القرية ولد اندراوس شماس، في أسرة قليلة العدد مقارنة بغيرها من الأسر. عرف بذكائه العملي. وهو الذكاء الذي سيؤهّله لأن يتبوّأ في أعين الناس معارفِه رتبةً اجتماعية أرفع من رتبة فلاح عادي بسيط. تعلم اندراوس صناعة الشبابيك والأبواب الخشبية بموهبته الفطرية من غير معلم، وأجاد صناعته حتى وثق به وبها الناس؛ فصار له من ذلك دخل إضافي، استطاع بفضله أن يرتق فتقاً في ثوب حالته المعيشية التي كانت رثة من قبل. لقد أمكنه هذا الرتق من أن يسمو بنفسه من لعنة العوز إلى نعمة الاكتفاء في زمن لم يكن فيه ذلك متاحاً بيسر لفلاحين من منطقتنا تغمرهم حتى أعناقهم متربةٌ فظيعة تقشعر العين منها. ومما اشتهر عنه أيضاً، نزوعه إلى الاستقلال والتفرد، واعتماده في تدبير شؤونه على نفسه قدر مستطاعه؛ فكان من ذلك أن استقل عن والده وأخوته بنصيبه من الأرض، ولمّا يمضِ على زواجه سوى شهرين تقريباً. وكان هذا أمراً من الأمور التي لا تحدث في بيئتنا إلا فيما ندر.
ثم إن اندراوس، يومَ بارك (أبونا) يوسف إكليله في كنيستنا، وعقد قرانه على عروسه (لَيَّا) كان في سن التاسعة عشرة أو في نحوها، أما عروسه (ليّا) فكانت في السادسة عشرة، فهي سنِّي، بحساب أمي، ولدت في السنة التي ولدتُ فيها.
ولعلي أذكر هنا لفائدة ما أن أمي لم تستطع أن تضمر في نفسها تعجّبَها من زواجه بها؛ لم تستطع أمي أن تخفي تعجبها طويلاً عمن حولها إلى الأبد. لقد سمعتها تبقُّ هذا التعجبَ الذي بدا كأنه كان من مدة حبيساً محصوراً في داخلها أمام الخالة (شيرينِه) أم (خالص) صديقي المقرب مني. وكنا في تلك اللحظة قد عبرنا مع رهط من أبناء قريتنا الجسر - وهو كناية عن ثلاث صخرات ضخمة اجتمعت متقاربة في مسيل النهر الصغير فربطت بين ضفتيه – عبرناه بهرج ومرح عائدين إلى بيوتنا، عقب انتهاء حفلة العرس التي شهدناها هناك بمسرة مقتطعة من عين زماننا على غفلة منه؛ وكان شهدها معنا أيضاً خلق كثير جاءها مدعواً، وغير مدعو، من قرب ومن بعد مرتدياً أحسن ما لديه من أردية، وعلى وجه أكثر أفراده، قناعُ بهجةٍ عابرة، وقد ربما زائفة... قناعٌ غطى آثار الخصاصة والجوع ونكد العيش الرديء الضنك إلى حين.
قالت لها أمي باللغة الكردية:
- أتدرين؟ فليغفر لي الرب! لقد حاولت طيلة الوقت أن أجد توافقاً بين العروسين.
سألتها الخالة شيرينه:
- ماذا تقصدين بالتوافق بين العروسين؟
ردّت أمي:
- أعني التوافق!
ولكنها ما عتمت أن أتبعت ردَّها المضحك بسؤال جلي صريح:
- أعني: أترين (ليّا) زوجةً مناسبة لشاب في كفاءة اندراوس ووسامته؟
أجابت الخالة شيرينه متسائلة:
- وهل غصبه أحد على الزواج منها؟
- لا...
فقالت أم خالص:
- إذن فهو الذي اختارها لنفسه زوجة برضاه!:
- والمغزى؟ تساءلت أمي.
فأضافت أم خالص عند ذاك قائلة بلهجة من يسقط عن كاهله تبعات ذنب مفترض:
- إن كان اندراوس هو الذي اختارها برضاه، فما لنا نحن؟ وماذا علينا؟
ضحكت أمي، وقالت مازحة:
- علينا ثيابنا. هيء، هيء، هيء...
إن مما لا ريب فيه أن أمي، لم تكن لديها نيّة باطنية شريرة تُجاه (ليّا) فهي تحبها. ومن يحب، لا يحسد محبوبه ولا ينقص من مزاياه. أمي ليست واحدة من الصبايا أترابِ ليّا اللواتي يمكن أن تتحرك في قلوبهن (سراً) غيرةٌ أو حسد أنِ اختار اندراوس لدتَهن ليّا من دونهن. هؤلاء الصبابا قد يكون لديهن سبب للغيرة والحسد، ولكن أمي...! هل لدى أمي سبب واحد يسوغ لها أن تحسد ليّا؟
كلا!
إذن فهي بريئة من مظنة الحسد.
وإنما الراجح، بل الثابت بلا مريّة، أن أمي إنما أحبت في تلك الساعة أن تظهر إعجابها بشخصية اندراوس الناضجة، رغبت في أن تظهر افتخارها بخصاله الحميدة الكريمة؛ فسلكت إلى هذا المعنى المرغوب الجذاب المحبوب طريقة في التعبير مشتبهة، طريقةً جاءت – مع الأسف – ملتوية مبتورة فظة؛ ولذلك (فلربما) لم يقيض لها أن تنال بظاهر لفظها حظاً من دقة الإصابة، وفضل الإبانة عند من سمعها، وإن كنت معتقداً اعتقاداً يكاد يكون جازماً، أن من سمع كلام أمي وقتذاك، لم يظن بها، لحسن الحظ، ظنوناً منكرة مكروهة.
بهذا المنطق عللت كلام أمي، وبه فسرته مبرِّئاً موقفها من ليّا أمام نفسي، وليس أمام من سمع كلامها.
على فكرة، فإن ليّا، طغى جمالها يوم عرسها وتلألأ، فاغت فتنتها، زهت زهواً صارخاً، حتى أنها لم تؤثر فيها سلباً الدموعُ التي ذرفتها لفراق بيت والديها، على عادة العرائس عندنا، ولا الخجل المذعور الذي اعتراها في ذلك اليوم، والذي بدلاً من أن يضرج وجنتيها بلون وردةٍ جورية، على ما هو معلوم من أمره حين يعتري وجنات العذارى، صبغهما لبعض الوقت بصفرة ولكن باهتة ما اتضحت إلا لعين المتفرس.
وإذا كان الأنف من ليّا بارزاً له نبوة في منتصفه، وانحدار طفيف في مقدمه بما لا يلتئم تماماً مع تقاطيع وجهها البيضوي النقي، وإذا كانت قامتها أميل إلى القصر منها إلى الطول، فإن عينيها الواسعتين المظللتين بأهداب سميكة طويلة، عينيها اللتين يسكن في أعماقهما البعيدة معنى لطيف مؤنس ضاحك أحياناً، وإن رشاقتها، وشعرها البني الكثيف الغزير، وكشحها الضامر، وتوتة ثغرها الحمراء، بالإضافة إلى الصفات الأخرى الممتعة المعجبة التي اختصت بها قطع من جسدها حساسةٌ مثيرة للرجال – وهي قطع مما لا يجوز لي تصور أوصافها فذكرها فامتداحها؛ لئلا يطعن في عفتي إذ يُظن أنني بتصورها في ذهني ثم ذكرها بترتيب مفصل إنما كنت أشتهي امرأة رجل غيري - لتأتلف ائتلافاً يمنحها سمة الملاحة بلا اعتراض.
والأهم – وهذا بتقديري الخاص - من كل الذي سبق ذكره ووصفه من تكوينها الخارجي، والأوفر منه جدوى لشاب مثل اندراوس شماس، أن عروسه لم تكن هادئة الطبع، نشيطة الحركة، مغرمة بالترتيب والنظافة فقط، بل كانت فوق ذلك تحبه حباً قوياً جارفاً كالسيل، كما يقال، في عهد لم يكن يؤبه فيه بحب النساء؛ أي لم يكن ينظر فيه إلى أحوالهن العاطفية باعتبارٍ واكتراث إلا لماماً، وبمعنى أدق، لم يكن حب النساء لأزواجهن عهدئذ شرطاً ضرورياً من شروط الزواج المتكافئ. الذكر يختار أنثى، وأبوها يصادق على اختياره أو يرده رافضاً إياه. وغالباً ما كان الذكر يعوّل في اختياره للأنثى على قوتها البدنية:
أسرَت إلي أمي يوماً، أن أبي اعترف لها بأنه أحبها في اليوم الذي رآها تحمل على ظهرها كارةً مما كانت النساء يقمشنه من البرية وقوداً للتنور والتدفئة وسائر الاستعمالات الأخرى،؛ فاقت في عظمها كارات الأخريات من نساء القرية اللائي كن خرجن معها في ذلك اليوم إلى البرية للقمش.
فلعمري! إن فوز الرجل بامرأة تحبه، كنزٌ... سعدٌ يجعل حياته تستحق أن تعاش. لقد كنت، يوم كنت حيّاً يرفّ جناحي الغض على وجه الدنيا، أموت توقاً إلى أن تحبني (أراكسي) ولكن حظي من حبها، لحرقتي وبلائي، كان عديماً مفقودا!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه