الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خابية الكنز المفقود 4

نعيم إيليا

2016 / 4 / 2
الادب والفن


وهكذا...! ما كان لأي انفعال، ولو بلغ منتهاه من الشدة والقوة والحدة، أن يلفح كياني الجديد ويمضي فيه. إن النفس إنما تعرض لها الانفعالات، ما دامت تتكسّى برداء الجسد، فإن انسرحت من رداء الجسد، باتت حرة من كل انفعال... حقيقة صادقة! لا يريبها أن صدقها لا يتبدى، على وجه اليقين، إلا لمن صارت بينه وبين الحياة وهدةٌ عميقة فاصلة. فأما الأحياء الذين يؤمنون بأن النفس تنفعل باللذات أو بما يضاد اللذات بعد الموت، مثلما تنفعل وهي في دنياها، فمن مرتقاي أقول لهم (أنا الذي أمسيت روحاً ترتع الآن في قلب هذه الحقيقة، وعما قليل ستنتهي إلى عدم ألذّ من الوجود): إنكم لا تملكون دليلاً على صحة إيمانكم، ولن تملكوه ما دمتم أحياء ليس بينكم وبين الحياة وهدة عميقة، فلا تتعجلوا أن ترموا أنفسكم في هاوية (يقينٍ) دنيوي كاذب خاسر.
وكدت أغفل عن اندراوس وأنعرج إلى أمي لأتخيلها وهي تتقصَّى أثري الضائع مفككة الألواح؛ لولا أن جدّ له على حين بغتة، ما جعل الإغفال عنه من قبلي وانتقالي إلى غيره غير مسوَّغ أو مقبول:
كان النبت الريان قد أغوى الحمار، وحرك فيه شهوةً ضارمة إليه تصعب مقاومتها، وهو الأمر الذي كان السبب في اتساع المسافة شيئاً بينه وبين صاحبه، ولكن الحمار الذكي، لم يتبلَّد، لم ينغمس بكليته في غواية العشب، فينس واجبه أن يلحق بصاحبه طوعاً دون حثّ أو نهر. غير أنه عندما حاذى تلة الأمير، كبح قوائمه فجأة، وتلبث بعناد في مكانه متمنعاً كالحرد لا يريد أن يتقدم خطوة واحدة! مما أثار لديَّ أن أتساءل - وأنا أرقبه كما كنت أرقب صاحبه - عن سر وقوفه المفاجئ. فإن الحمار كان حين يخضم عشبه يغمض عينيه متلذذاً بما يخضم دون أن يصرف وجهاً إلى ما حوله، وكان حين يسير يطرق بعنقه إلى الأرض، ويرخي إليها أهدابه الطويلة، فكيف رأى جثتي؟
أو تراه اشتم رائحتي؟
لكنَّ الحُمُر، على ما أعلم، لا تشم رائحة الإنسان عن بعد أمتار كما تشمّها الكلاب؟ إذاً، فما الذي استوقف الحمار؟ ما الذي سمّره هكذا في مكان وقوفه حذو التلة؟
ثم إن الحمار لم يلبث، بعد وقوفه المفاجئ ذاك بمحاذاة التلة، أن نهق فجأة، ومدّ خطمه نحو صاحبه وكأنه يهتف به أنْ قف، أو يناديه لحاجة عرضت له بغتة ولا بد من قضائها في التو. ومع أن نهقة الحمار، كانت وانية ضعيفة ذابلة، فإنها تأدت إلى أذن اندراوس وأيقظت انتباهه إليه، وكان قد شرد عنه.
أدار اندراوس رأسه باتجاه حماره، بعد أن توقف هو أيضاً عن المسير، فأبصر به مسمراً إلى الأرض على تلك الحال؛ فأدرك على الفور، من غير أن يضطر إلى إعمال ذهنه، أن شيئاً ما لا بد أن يكون استوقفه، ومن أدرى منه بطباع حماره وأطواره؟
ولكن ما عساه أن يكون هذا الشيء الذي حرض حماره وأغراه بنهقة غريبة ليست في أوانها ولا هي في مكانها؟
تساءل اندراوس متفكراً، ثم تلفت بحركة من رأسه ومحجريه نصف دائرية، استطلعت المكان المحيط بحماره من جهاته كلها، ومسحته مسحاً شاملاً بسرعة اتصلت بزمن لم يزد (في تقديري) على إيماض امرأة تخالس النظر رجلاً غريباً عنها، ولكنها كانت كافية لأن تتبين جثتي الهامدة فوق التلة المنخفضة.
لمحني اندراوس على أثر تلك الحركة (ولو كنت حياً لما تفارق روحي جسدي بعد، وكنت مجرداً تمام التجرد من الأثرة والحرص على المنفعة الخاصة، لتمنيت ألا يكون لمحني) لكنه إذ لمحني، خالني – حدث هذا في الوهلة الأولى - ثوباً عتيقاً وَهَى، رماه عابر بهذا الموضع بعد أن يئس من رفئه، أو حملته ريح من القرى وأنزلته هنا؛ فكاد أن يحول بصره عني، وينصرف إلى العناية بشأن حماره. ولكن ضياء الفجر كان توضح وانجلى غباره، فأمسى أن تخطئ فيه العينُ تفسيرَ الأشياء - ولا سيما إذا كانت هذه الأشياء دانية منها - أمراً مستحيلاً.
فلما ارتقى إلي بخطواته المتوجسة وبات على مقربة مني، بدوتُ له كنائم على ظهره في العراء آده سهر طويل وشرابٌ مسكر كثير.
انحنى عليّ متفرساً، ثم هتف بدهشة ممتقعة:
- أهذا أنت؟ ماذا تفعل هنا!؟
- ...
ثم بزجر:
- ما نومك في هذا المكان؟ هيا انهض!
- ...
- مَتَّى، مَتّى... !
ومتّى هو اسمي الأول.
ناداني به، ولكني لم أستجب لندائه! لم يختلج بي عضو واحد من أعضائي، ولا عضو، وهو يناديني باسمي! لم تبدر مني نأمة واحدة، ولا نأمة! إنني ساكن، صامت، بارد.. أنا راقد، متيبِّس، قد جفت الحياة في شراييني، أنا جثة!
هزّ كتفي هزاً رفيقاً ثم هزاً غليظاً؛ فلم يهتز كتفي بما يوحي إليه بأن فيّ حياة. رفع ذراعي قليلاً ثم تركها فسقطت إلى جانبي سقوط قضيب من الخشب. نزل بأذنه إلى صدري، حطها على قلبي، فلم يسمع منه دقة واحدة. فلما وضع يده تحت عنقي ورفع رأسي فارتفع، فجأت عينيه بصدمة بقعةٌ من الدم غطت الحجر ذا النتوء، وجرحٌ ملبد بالشعر في نقرة رأسي ما زال يقطر منه الدم؛ فأيقن عند ذاك أنني ميت قتيل.
إنه الموت! ودوى صداه في أعماقه...
موت محقَّق لا ريبة فيه! وامَّحى من نفسه آخرُ أثرٍ نكَته الأملُ الواهم فيها أن تكون لي وصلةٌ بالحياة تمكنه من إسعافي.
ولكن اندراوس، وإن سرت في ظهره رعدة باردة وخفق قلبه خفقاً سريعاً وغامت لثانية في عينيه مساحةُ الرؤية الضئيلة الممتدة أمام وجهه واصفرت، لم يجأش قلبه في محضر الموت من ذعرٍ أو من عاطفة محتدمة، مع أن الموت (موت الفجاءة) إذا اخترم شخصاً معروفاً على غير توقع، لا يملك المرء، وقد فوجئ به، إلا أن يستشعر بمحضره الخوف والرهبة. وحتى الذين لم يختبروا هذه الحالة من الموت عن كثب، يعلمون أنها أشد هولاً وتأثيراً في العين والقلب من سائر حالات الموت الأخرى.
بلى! إنه ليجد نفسه في موقف مرهوب شديد العسر منعصبٍ لم يبلُ مثيلاً له من قبل، ولكنه رجل صلب ذو جرز! ولا يليق بالصلب ذي الجرز أن تجأش نفسه من فرَقٍ في موقف كهذا الموقف منعصبٍ. كلا، ليس للصلب أن يفرق ويضطرب، وإنما له أن يثبت ويتمالك، له أن يتماسك فقط ليس إلا! ولقد تماسك اندراوس، واحتفظ بشجاعته، وانضباطه. بل لقد استطاع في هذا الموقف الاستثنائي - إن جاز التعبير - أن يفكر تفكيراً واضحاً بما ينبغي أن ينهض به من غير تردد وتلبك أو تشوش وحيرة.
ولكنه في الوقت الذي جمع فيه أبعاضه، ولملم قواه الروحية، وأقصى من ذهنه ما انبثق فيه من تساؤلات، كيلا تشغله فتؤخره، من مثل: "من ذا الذي قتلني؟ لماذا قتلني؟ كيف قتلني؟ متى قتلني؟" - وهي تساؤلات لن يعثر لها أحد غيري على أجوبة أبد الدهر - وهمَّ برفعي من مكاني ليضعني على ظهر الحمار ويذهب بي محمولاً إلى الضيعة، سقط نظره على قبر الأمير، وكان ذهل عن رؤيته طيلة ذلك الوقت الذي مرّ به. وما إن سقط بصره عليه، ورأى الحفرة التي حفرتها ليلاً، ورأى معولي، وكيسي – لم ير الخابية التي كانت هوت من يدي على نبتة خطمية واستقرت بين أوراقها ونجت من الحطم – حتى جحظت عيناه من الرعب، وعزف في أعماقه صوتٌ مخيف: الأرواح، الأرواح!
كنت أعلم أن اندراوس يخاف الأرواح، مثلما يخافها سائر القرويين ما عدا نفراً معدوداً على الأصابع من علية الناس، وكنت أعلم أنه يصدق بوجودها هنا تحوم ليلاً فوق قبر الأمير لتمنع الناس من انتهاك حرمته وانتهاب كنزه، على ما جاء في حكايته. ولكني لم أتوقع أن تجحظ مقلتاه من الرعب كل هذا الجحوظ حتى لتوشكان أن تقعا من محجريهما على الأرض.
إنني عندما جئت إلى التلة لأنقب القبر بحثاً عن الكنز، كان الوقت ليلاً، وعلى الرغم من ذلك، فقد استطعت - وإن بمشقة هائلة - أن أبدد خوفي من الأرواح. قد يقال إن حماقتي وقتذاك ساعدتني على تبديد الخوف منها، فأجيب: نعم، هذا صحيح! ولكنْ مهما يكن من أمر، فإنّ مغالبة الخوف من الأرواح في الليل (على وجه التخصيص) حتى لو تحققت بفضل حالة من الانفعال المجنون المستعر، ليست مما يعد أمراً سهلاً ليناً لا خشونة فيه بالقياس إلى مغالبة الخوف منها مع طلوع الفجر وهو وقت اختفائها. ولست بقولي هذا أتنفَّج فأزعم أنني كنت أشجع من اندراوس - معاذ الله! - ولست أحاول في هذا الموضع أن أظهره بمظهر المنخوب، كلا، إن هذا لأبعد ما يكون عن قصدي. وإنما قصدي أن أنوه بفكرة بسيطة – وربما ساذجة - هي أن الذي يخاف من شيء، يظل يخاف منه ولو أمن مظانه. وعلى كل حال، فلن يدثّ أحد اندراوس بعيب الخوف الشديد من هذه الأرواح والوقت فجر، لا لأن الجميع يخاف من الأرواح وحسب، وإنما لأن اندراوس شهد فعلاً من أفعالها الرهيبة تحقق بقتلي، فلا غرو في هذه الحالة أن يخاف. بل إنه هو نفسه لن يشعر من ذلك فيما بعد بخزي أي خزي.
كانت ركبتاه قد تراختا، ولولا بقية من الثبات، لانهار على الأرض إلى جانبي، بيد أن الخوف الذي تراخت منه ركبتاه، سيكون هو نفسه العامل الذي سيضخ فيهما بعد ثوان قوة تمكنه من التقهقر عن المكان حيث جثتي؛ ومن الهبوط من التلة، ومن الخوض بعدها في الحقول المزروعة اختصاراً للطريق الذاهب إلى قريتنا. وكان انتوى أن يبلِّغ المختارَ، إذ اهتدى ذهنه على ما حلَّ به من اضطراب إلى هذه الفكرة، بالحدث المروع دون إبطاء.

كان اندراوس وهو يخوض في الحقول المزروعة يحس بشيء يمشي خلفه، يتبعه، يتعقبه؛ فيزيد في سرعة سيره هرباً منه، رغم صعوبة السير السريع عبر الزروع، حتى حال سيره قبيل أن يصل إلى النهر إلى وفْضٍ أقرب إلى العدو سيجعل تنفسه كاللهاث.
وكان أنه عندما بات محاذياً لقريته تل دهب وهو يفض، فزع كلبه (شير) من مرقده، وهبّ إلى صاحبه ركضاً. على أن الكلب حين بلغ النهر، كان صاحبه قد عبره واجتازه إلى أراضينا. فسكن الكلب عند الضفة ولم يجرؤ على اللحاق به خوفاً من كلاب ضيعتنا. وبعد هنيهة شغر، ثم نبح مرة، مرتين... ولكن اندراوس كان في شغل عنه فلم يوله انتباهاً والتفاتاً.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني