الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إناسة البيت العراقي

محمد لفته محل

2016 / 4 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


البيت هذا الوطن الصغير الذي يأوينا كالحضن، ويأمن خصوصيتنا وحريتنا، وبه نرتاح من هموم الحياة وتعبها، ويكون أكله ومنامه مختلف عن كل ما عداه، ونحّن إليه كلما ابتعدنا عنه، والذي لا نسمح بدخول الغرباء إليه إلا في مرات ضرورية ومحدودة، وتكون له خصوصية حين يكون مولدنا به، وهو يسمى (دار) نسبة لان البيوت كانت تبنى مدورة كما يقول (يوسف شلحت)، ويسمى (سكن) تمييزا عن الدار المهجورة، أما تسميت (بيت) فهي المبيت فيه ليلا. فمن أين اكتسب البيت هذه الخصوصية الاستثنائية؟ هل الراحة أم الملكية الخاصة هي الجواب؟ هذا ما كنت أظنه ويظنه ربما أي شخص لم يطلع على الإناسة ونظرة الشعوب البدائية إلى البيت، وأول من لفت نظري لمكانة البيت الروحية هو مؤرخ الأديان (مرسيا الياد) حيث يقول (فالبيت، شأنه شأن المدينة أو الحرم، يُقدس جزئياً أو كلياً بواسطة رمزية أو شعائرية متصلة بنظرية تكون العالم.)(1) فوجدت في كلامه ما ينطبق على المجتمع العراقي حيث البيت مكان مقدس عندنا كقولنا (حرمة البيت) وكلمة (حرمة) تطلق على المسجد والمصحف والشهور المقدسة، وهناك مثل عن البيوت تلمح لقداسته هي (البيوت أسرار) والأسرار ترتبط بالمقدس والمقدسين الذين تقدس أسرارهم (قدس سره، أسرار الملكوت)، ولا ننسى أن احد أسماء البيت هو (منزل) الكلمة الرديفة للوحي؟ وفي نظام العشائر فإن (دوسة العتبة) لها عقاب ومقام كبير يتطلب دفع دية، ولازال هذا التقديس حتى في المجتمعات الحديثة حيث يعتبر اقتحام دار بدون إذن قضائي انتهاك أنساني كبير حتى لو كان خاليا من أصحابه، وهذا واضح أيضا في دخولنا للبيت عندما نخلع الحذاء أو النعال عند العتبة كما ندخل المسجد أو الضريح ليس من باب النظافة كما يظن كثيرون وإنما هذا معتقد بدئي سحيق لازال ساريا في الذاكرة البشرية، فنحن لا ندخل البيت بالحذاء حتى لو كانت نظيفة، ونخصص لها موضع بالدار حتى لا تختلط مع غيرها، وعند الباب نقول عادة (يالله) أو البسملة، وعند الباب يجب أن يكون أداء التحية (السلام عليكم) يقول (مرسيا الياد) عن الباب "ويضرب مثلا عن باب كنيسة" انها تمثل انقطاعا في المكان (وتدل العتبة التي تفصل المكانين في الوقت ذاته على التكون بين عالمين: العالم العادي والعالم الديني: إن العتبة هي بآن واحد حد، جبهة تميز وتعارض عالمين)(ومثل هذه الوظيفة الشعائرية تعزى إلى عتبة المساكن البشرية، ولهذا فإنها تتمتع بمثل هذا الاعتبار. إن شعائر كثيرة تواكب المرور بحركات المرور فوق عتبة المنزل: فالمرء يقوم بحركات إجلال وانحناء أو سجود) وعلى العتبة تقدم الاضحيات(2) وللعتبة قوة سحرية تجلب الخير أو الفقر كما يقال بالعراقي (بيت عتبته خير أو عتبته ﻔ-;---;--ﮕ-;---;--ر)، وعلى الباب تعلق التمائم أو الآيات القرآنية، التي تحميه من الحسد والسحر والشياطين والجن، والملائكة لا تدخل البيوت القذرة، ولا ننسى إن بعض المزارات تسمى بعتباتها (العتبة الكاظمية، العتبة العباسية، العتبة القادرية الخ) وتحضى بالقبل والبركة والطهارة في حين لا تحضى الجدران الداخلية للضريح بهذا الامتياز، وحتى الله والسماء تكون الباب فاصلا بيننا وبينها (باب الله، أو أبواب السماء) وعندما نقول (بابة عرب) فهو إشارة لعالم آخر من التقاليد مختلف عن تقاليدنا، حتى أن الله لا يمكن تجسيد شيء يمت له بالأرض سوى البيت (بيت الله). وجميع آداب الضيف المفروضة كعدم تحركه دون أذن وتحفظه بكلامه وتخصيص مكان محدد له (الاستقبال، أو المضيف أو الديوان) هي بسبب قداسة المكان، فحتى لو كان المكان بدون نساء يجب الاستئذان بالحركة، وما تقديم الشراب أو الطعام الواجب للضيف ما هو إلا رفع صفة (الغريب) عنه بمشاركته من شرابنا لتكوين رابطة روحية (الزاد والملح) عندها لا يغدوا غريباً عن الدار، وتحرم عليه نساء الدار لأنه آخانا بالطعام (لاحظ مثلا حرمة صداقة أخت الصديق بدون زواج) وحين يرفض الضيف تناول الشراب فهو إشارة لطلب يرجوه منا ولن يربط روحه معنا إلا بوعد تحقيق طلبه. وهذا يؤده ردنا على الأقارب عندما يعتبون بعدم تقديم آداب الضيافة لهم، فنقول لهم (قابل انت غريب؟ البيت بيتك). وإذا دخل شخصا مستنجدا بيتنا يجب علينا حمايته لأنه (دخيل) وهذا واجب أيضا في المزارات الدينية يجب عدم الاعتداء على الدخيل في الأماكن المقدسة وهذا دليل آخر على قداسة المنزل، صحيح أنه ليس مقدسا كالمزار والمسجد لكونه كما يقول (الياد) نسخة عن أصل. وقداسة البيت تتأثر بالجوار لان الجيران إذا كانوا سيئين الخلق يجب بيع البيت أو مقاطعة التواصل معهم، مثلما يجب احترام محيط المسجد أو المرقد بعدم السماح للمراقص أو التسجيلات أو الحانات بمجاورتها ولذلك قيل (سل الجار قبل الدار). والبيت هو كالنسب للشخص فنقول عنه (انه من بيت فلان) وأصبحت بعض العوائل يشار لها (من بيت النجار، بيت القصاب، بيت القاضي الخ) وانتقل هذا النسب للبيت إلى السياسة (البيت الشيعي، البيت السني) أو (بيت الحكمة، بيت الشعر) وهذا كما قلت لتمتع البيت بالقداسة وهذا ما يجعلنا نسأل الشخص الغريب (وين بيتكم؟)، ولا زال امتلاك دار هم أساسي يقاس على أساسه نجاح الرجل، فهو كالوطن كما يقال، والناس تفضل العريس الذي يملك بيت على الذي لا يملك، وعند السكن في دار يجب ذبح كبش، وعلى الناس مباركته وتقديم الهدايا لصاحب الدار، ويفسر (الياد) سر قداسة البيت بقوله (أن المرء لا يبدل مسكنه بدون أسى، إذ ليس من اليسير عليه هجر "عالمه" والمسكن ليس شيئا، ليس "آلة سكن" بل انه الكون الذي بناه الإنسان لنفسه بتقليده الآلهة في خلقها بدءاً جديدا، يعدل حياة جديدة. وكل بدء يكرر البدء الأولي الذي ظهر فيه (الكون) للمرة الأولى. وأن الأعياد والأفراح التي تواكب سكنى منزل جديد لا تزال تحتفظ حتى في المجتمعات الحديثة التي سلخت عنها صفة القداسة إلى حد كبير، تحتفظ بذكرى الاحتفالات الصاخبة التي كانت في الماضي تسمى "هنا تبدأ حياة جديدة")(3) (فلئن وجب أن تقضي الآلهة على (وحش) بحري أو على (كائن) أولي وتمزيقه إرباً إرباً ليصبح من الممكن أن تستخلص منه العالم، فإن على الإنسان بدوره أن يقلد عملها عندما يبني عالمه الخاص، مدينة أو بيتا. ومن هنا تنشأ ضرورة القرابين الدامية أو الرمزية بمناسبة البناء)(4) فالأضحية ليست سوى تقليد رمزي للأضحية الأولى التي كونت العالم(5) وبهذا فسر قداسة الدار والاحتفالات والأضحية التي تقام له.
إن ملاحظات (الياد) عبقرية بكل معنى الكلمة لكن التفسيرات التي يقدمها ليست بأهمية ملاحظاته رغم براعتها أيضا، فمثلا الأضحية التي فسرها بتكرار لفعل الهي كما بينت، لا أراها مقنعة، فالآلهة ضحت بالكائن قبل خلق العالم وليس بعده كما في حالة أضحية الدار، ثانيا أن العالم تكون من جسد الضحية بينما البيت لم يتكون من جسد الكبش بل الغرض منه جلب البركة الإلهية له بتقديمها للرب، فهي مؤاكلة الإله بالأساس للتقرب منه، والآلهة أخيرا لم تأكل الوحش؟ وعليه يجب أن تطرح تفسيرات أخرى على ملاحظاته، وبتصوري أن قداسة الدار مصدرها ملكية الأرض وليس محاكاة الإله عندنا، فالأرض كالعرض مقدس لا يمكن تدنيسه من الغرباء، وكل أرض هي ملك الله (ارض الله الواسعة) كما يقال، والمرأة والأرض عند العربي شيء واحد وتاريخيا أن استعباد المرأة تزامن مع ظهور الملكية كما تقول المادية التاريخية فأصبحا شيئا واحد، وبما أن العرض هو عفة المرأة وحظر المساس بجسدها أمر مقدس كذلك الأرض والدار لا يمكن تدنيسها من الغرباء وهما مقدسان، ولذلك عندما يقال للرجل (بدّل عتبتك=بدّل زوجتك) ونستخدم كلمات (يطأ، داس) على الذي يدخل البيت أو الذي يدخل بالمرأة، لهذا يقال على الاعتداء على الدار (دوسة عتبة=تدنيس حرمة البيت) تقول (صوفية السحيري) عن البيت (ولأنه احتوى جسد المرأة فقد اكتسى البيت صبغة مقدسة، فكان عبارة عن حرم بما تحتويه الكلمة من معنى المقدس والممنوع)(6) وكما للبيت حرمة تسمى المرأة (حرمة، حرم)، ويمكن تبادل أسماء مثل (بطن، رحم، خصوبة، بور) بين الأرض والمرأة على حد سواء، وما جملة (عقر داره) إلا هي عقر المرأة أي دية فرجها(7) وهذا (التصور الأسطوري الذي قاد العقل القديم إلى إسباغ هوية الأرض (الأرض الأم) على الفرج وإسباغ هوية الفرج على الأرض وتصور الجِماع كعملية حرث الأرض، شائع في العديد من الثقافات. وقد تصور العرب ركوب الذكر للأنثى لجماعها ك"حرث" لها) (وقد يشير ذلك التوحيد، أو الربط في المخيلة الجمعية، للفرج بالأرض، إلى ترسخ ضارب بجِذوره في تلك المخيلة للوجه الجنسي من أسطورية الإلهة الأم.)(8) ولا ننسى أن ملكية الأرض تسمى (طابو) وأتصور أنها من كلمة (تابو=المحرم) وعلى الفرد الحفاظ على طهارة البيت لأنه مقدس حتى يسمح له بالاختلاط بالجماعة، وإن لم يحافظ على طهارة البيت بتدنيسه بالغرباء يصبح نجسا كما يفترض الحرام النوعي، فهو محط دخول الملائكة أو الشياطين أي بين الطهارة والنجاسة، وهذا كله عبر المدخل (العتبة) التي يجب أن تكون نظيفة وخالية من النفايات والتي منها يحكم على أهل الدار بالطهارة والنجاسة، فالجماعة حين تمنح فسحة للفرد بالابتعاد عن سطوتها فهي تحاول حتى عبر هذه الفسحة أن تتحكم به كي يبقى مقيدا بضوابطها.
_____________
1_مرسيا الياد، المقدس والعادي، ترجمة عادل العوا، التنوير، ص94.
2_نفس المصدر، ص62،63.
3_نفس المصدر، ص95.
4_نفس المصدر، ص89.
5_نفس المصدر، ص93.
6_صوفية السحيري بن حتيرة، الجسد والمجتمع، دراسة أنتروبولوجية لبعض الإعتقادات والتصورات حول الجسد، مؤسسة الانتشار العربي، دار محمد علي الحامي، الطبعة الأولى 2008، ص113.
7_نفس المصدر،ص157.
8_نفس المصدر، ص151.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: اجتماع أمني تشهده وزارة الدفاع حاليا


.. القسام تعلن تفجير فتحتي نفقين في قوات الهندسة الإسرائيلية




.. وكالة إيرانية: الدفاع الجوي أسقط ثلاث مسيرات صغيرة في أجواء


.. لقطات درون تظهر أدخنة متصادة من غابات موريلوس بعد اشتعال الن




.. موقع Flightradar24 يظهر تحويل الطائرات لمسارها بعيداً عن إير