الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وظيفة في دار العجزة..قصة قصيرة

جمال حكمت عبيد

2016 / 4 / 12
الادب والفن


كان الربيع في اوائله، والشمس في صباح ذلك اليوم تبهج المراعي والحقول بسحرها، ونسيم الهواء العذب يداعب براعم الاشجار ويهبط حاضناً حدائق القرية الخضراء، يبوس شفاه أزهار التوليب المتجمعة بدوائر الحمراء منها والصفراء... يتوغل نوافذ البناية الجميلة المركونة وسط القرية القريبة من البحر.. يدخل غُرَفها.. يبعث الأمل ويُعطِّر أنفاس من حملوا خريف العمر وبقوا في غرفهم ينظرون الى الحدائق والى العصافير وهي تتصارع على الأشجار عبر زجاج النوافذ العريضة ..

أسعدْتم صباحاً: كان صوته الخجول ينطق فيها ، وعيناه صوب الجالسات حول الطاولة المستطيلة في آخر الغرفة المُجهزّة بمطبخ صغير ودواليب ورفوف، وتلفازاً صغيراً علّق على حائطها، وطاولة مستديرة صغيرة استقرت عند الزاوية الأخرى قرب المقعد الطويل وضعت عليها صحف ومجلات ..
حينما رأته اسرعت دونه وقالت بصوتٍ واضحٍ: إنه المتطوع الجديد، جاء ليساعدكنَّ في تناول فطور الصباح..

ثمان نسوة عجائز أعمارهن تجاوزت الثمانين عاماً واكثر، نظرنَّ اليه باستغراب!! وارتفع اللغط بينهن، اِسْتَشْعَرَ فيه من كانت موافقة ومن لم توافق على اطعامها .. لم يبالِ لقد تعود على استغراب الناس منه منذ أن ترك بلده وهاجر.. كانت لمسحة الحزن الإنسانية التي رسمتها الأيام في وجهه ولابتسامته المرتبكة عوناً في ابتسامة بعضهن اليه ..

عفواً سيدتي: بعد مقابلة الأمس نسيتُ اسمكِ؟ فقالت "شاكولين " أسمي شاكولين.. صعب عليه لفظ اسمها مرة أخرى: شاكو..شاكولا واستسمحها أن يسميها شكولاتة، ابتسمت اليه وهزَّت رأسها موافقة.. لم تكن صغيرة في العمر لكنها تصغره، بدَتْ كقطعة الشُكولاتة صافية الوجه ممشوقة القوام ..أذنت له ببدء العمل وأخذ يحمل أدوات المائدة معها، يضعها على الطاولة.. يلمَحُ الجالسات في كل مَرةٍ يقترب اليهن يتفحص ما ارتدَيْنَه من زينة العُمر بشُعُورهنَّ البيضاء المجعّدة والمسبلة، يغوص في أخاديد وجوههن وما خبَّأن من المسرات والأوجاع في ثناياها.. ينظر الى جباههن حيث تشابكت خطوط العمر فيها وضاع ما انكتب عليها ، باستثناء عيونهن كانت لامعة دلالة على حسن صحتهن ...واحدة منهن تدلى لحم رقبتها وصار كجنح طائر منزوع الريش .. وأخرى تلملمَ جسمها وانحنى بأثقال سنين عمرها، صعب عليها رفع رأسها لتشكره وهو يضع الصحن امامها ؛ واكتفت النظر اليه برفع عينيها.. أعجبتهُ سيدة ممتلئة بدت تصغرهن سناً، كانت ابتسامتها العريضة الصامتة لم تفارق وجهها، امتزجت الطيبة والسذاجة فيها، وأخرى مشلولة جلست على كرسي متحرك متكئة على جنبها ، شفَتها السفلى تدلّت وخيط اللعاب اللزج يسيل منها .. تقابلها على الطاولة سيدة أخرى هي الوحيدة التي وُضِع أمامها كأساً من الزبادي، بجانبه ملعقة ، وأخرى ضَمر جسمها وصار كالعود اليابس. تدلى على صدرها شريطا اصفرا لفَّته حول عنقها، كانت في كل مرة تلتفت ورائها تنظر اليه ولم تعد تستطيع صبراً حتى قالت له: هل غسَلتَ يديك ؟ حاول اخفاء اضطرابه، وعرف كيف يجاريها فذهب يغسل يديه أمام عينيها وعاد الهدوء الى نفسها.. وأخرى لبَست الزيّ الهولندي الفلكلوري ثوبها أسود طويل، فوقه ارتدت سترة قصيرة بدون اكمام بيضاء اللون مزركشه، رفَعَتْ غرة شَعْرها عن جبهتها، وربطت خلفَ رأسها قماشاً من الدانتيل المخرم جعلته كالقبعة رفعته بأطواق رفيعة وبان كنصف محارة، وعلى طرفي جبينها تدَلتْ قطعتان صغيرتان من النحاس، وعِقداً من الخرز الأحمر مصفوفاً طوّق رقبتها... وسيدة أخرى كانت حانية رأسها، انتصف شعرها فرقاً كالخيط الطويل على رأسها وبعض شعراتها سقطْنَ على وجهها.. اقترب منها وضع الصحن أمامها ثم الشوكة والسكّين وكوب الشاي ولمّا أكمل، رفعت رأسها نحوه لتشكره .. فأهتز في مكانه!! إذ رأى فيها وجهاً يرقد فيه، افتقده منذ سنين.. وقف ساهماً عينيه نحوها، يتطلع فيها؛ وينبعث السرور المفاجئ فيه يمازجه الحنين . يبحث في وجهها، يرسم ملامح الوجه المفقود فيها وتكتمل صورة اللوحة عنده برؤية وجه أمه !!! يجول يتفحص بعينيه شعرها عسى أن يرى بقايا الحنّاء فيه .. آه يا أمي، اليوم أنتِ معي، جالسة أمامي، حمداً لله أنه لن ينساني .. سأطعمكِ بيديَّ يا أمي، ولتشبع عينايّ وروحي من وجهكِ الرحوم.. حقاً يخلق من الشبه أربعين....
اخفى انشراحه .. تمَلّكه في تلك اللحظة حُبّ جميع الجالسات حيثُ مال قلبه اليها، يكتم سره.. كاد أن يقول للمُشرِفة: انظري هي ذِي أمي التي فارقتها منذ زمنٍ بعيد في بلادي ..
أكملا وضع الصحون والأغراض الأخرى، واخذا يضعان صحون شرائح الجبن وعلب الزبدة والمربى والخبز على الطاولة.
قالت له المُشرفة: سأطعم هذه السيدة وكانت تقصد المشلولة، ودَعَته اطعام السيدة الجالسة جنبها، فهي الأخرى لا تقوى على الأكل بمفردها.. غمرَتْهُ الفرحة مسروراً!! لقد اختارت له أن يُطعم أمه؛ لا بل القدَر من اختار له هذا .. أراد أن يصنعَ شيئاً يبين فيه مدى حبه لأمه... حيث تعيش في وطنه!!! ترَكَها في ذلك الوقت واصبح بعيداً مهزوماً من أيدي الغدر؛ لكنَّ خيالها وصورتها لم تغب عنه، وباتت تلاحقه في حلمه وفي كل خطوة يخطوها ... اخذ يتمتم في نفسه الويل لي واللعنة من غربة الأوطان..
شرَعَت المُشرِفة بالدعاء قبل الأكل ، وراحت كل واحدة منهن تُشبك أصابعها وترفع يديها نحو فمها، أخفَضْنَ رؤوسهن واغمَضْنَ عيونهن يُصلِينَ داعيات بصمت أن تحل نعمة الرب وتدوم عليهن... إلاّ السيدة المشلولة صعب الأمر عليها.. عندها صاحن آمين، ومنهن من رفعْنَ أياديهن ورسَمْنَ شارة الصليب .. بعدها شرَعْنَ بالأكل .. تناوش شريحة الخبز، أطلاها بالزبدة والمربى ووضع فوقها شريحة الجبن، وأخذ يقطعها بالسكين الى قطع مربعة صغيرة. أمسك الشوكة يغرسها في قطعة الخبز ويغمسها في كوب الشاي ويرفعها الى فم أمه وتفتح فمها كالطفل تلهمها، تلوك بها، تسبّله بنظراتها وكأنها تنثر الحبّ والعتاب بعينيها وتبلع لقمتها ، ويعيد الشوكة يلتقط قطعة أخرى حتى أنهت أكلها، والفرحة لاتسع صدره.. أنه يصنع شيئا لأمه .
صوتٌ مخنون فيه نبرة احتجاج خرج من السيدة التي وُضع أمامها كأس الزبادي، تريد من يطعمها. وتصيح عليها المُشرِفة تزجرها، تأمرها بالسكوت قائلة: انتِ تستطيعين الأكل بمفردك.. لكنها لم تسكت. فتحت المُشْرِفة عينيها ورفعت اصبعها الى فمها تصيح بها: أششش أسكتي فسكتت، وعادت تطعم نفسها. وفجأة خرج صوت كركرة كأنه نقيق الدجاج من المرأة المشلولة الجالسة قرب المُشرِفة، كانت هازرة بها، استمرت بالضحك عليها حتى استفزتها وعادت الأخرى تخنّ محتجة عليها. صاحت المُشرِفة بهما واخفضن جميعهن رؤوسهن صوب الأكل وسكَتْنَ ... يا الهي: أن كَبِر الأنسان في العمر صار كالطفل في تصرفاته وخنوعه.
تَمتعَ بهذا الصباح الربيعي، وهو يُعيد اليه ملاك أمه.. انتهى الفطور.. سَحبَ الصحون من على الطاولة، واخذ يعيد كل شيء في مكانه.. اثنتان منهن طلبتا منه أن يطعمهما لو عاد اليهن مرة أخرى؛ فابتسم لهما لقد فاز برضاهن...وبينما كان مشغولا ًبإعادة الصحون. قدِمنَ الممرضات يأخذْنَ العجائز الى غرفهن. فتوقف على الفور ينظر اليهن وعيناه صوب أمه يريد أن يصيح: ابقوُها؟
انطلقنَ بهن وصار يودعها صامتاً داعياً في سِره أن يلتقيها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي


.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و




.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من


.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا




.. كل يوم - -الجول بمليون دولار- .. تفاصيل وقف القيد بالزمالك .