الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعنافوبيا

حسن عجمي

2016 / 4 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


المعنافوبيا هي الخوف من المعنى. اليوم تسود المعنافوبيا على المجتمعات العربية الإسلامية ؛ فنحن نخاف من المعاني و البحث فيها و اكتشاف معان ٍ جديدة. هذا أدى إلى عدم مشاركتنا الحالية في إنتاج العلوم و الفلسفة فأمسينا خارج التاريخ و الحضارة الإنسانية.

بما أننا نعاني من الخوف و الرعب من المعاني و البحث فيها , و بما أن العلوم و الفلسفة عملية بحث في معاني المفاهيم و كشف و اختراع معان ٍ جديدة للمفاهيم اللغوية , إذن من المتوقع أن نتجنب العلوم و الفلسفة و أن لا نشارك في صياغتها. هكذا ابتعدنا عن البحث في المعاني و الدلالات اللغوية من جراء المعنافوبيا التي أدت بنا إلى عدم الإنتاج الفكري و الفلسفي و العلمي ما حتم بدوره انحطاط حضارتنا. فالخوف من المعاني خوف من التفكير ؛ فالتفكير هو دوماً تفكير فيما هو معنى هذا المفهوم أو ذاك. على هذا الأساس , المعنافوبيا كمرض سيكولوجي نعاني منه حالياً مصدر أساسي من مصادر انحطاط حضارتنا اليوم و انعزالها عن مجرى التاريخ المتجه دائماً نحو اكتشاف و اختراع ما هو جديد في الفكر و العلم و الفلسفة. فلا حضارة حقيقية من دون علوم و فلسفات على أساسها تنبني المجتمعات و تزدهر و ترتقي. و بما أننا نخاف المعاني فالبحث فيها , إذن من الطبيعي أن نتمسك بالمعاني المُحدَّدة سلفاً في ماضينا فنغدو بذلك سوبر ماضويين لا نؤمن و لا نعتقد سوى بمعاني المفاهيم المُحدَّدة في هذا الجزء من التراث أو ذاك. هكذا أمسينا سجناء المعاني الماضوية من جراء المعنافوبيا التي تمنعنا من التقدم الحضاري و إنجاز النهضة الحقة.

يوجد سببان أساسيان وراء نشوء المعنافوبيا و سيطرتها على العقل العربي الإسلامي. و السببان مرتبطان بالثقافة العربية الإسلامية كما نحياها اليوم. السبب الأول هو التالي : العقيدة المهيمنة على عقولنا حالياً هي أن اللغة العربية هي لغة الله بما أن القرآن وحي من الله , و اللغة العربية لغة القرآن. لكن بما أن اللغة العربية هي لغة الله , إذن الله وحده يعلم معاني المفاهيم و المصطلحات العربية و دلالاتها. و لذا من الخطأ كما من المستحيل علينا أن نكتشف و نعلم الدلالات و المعاني الحقيقية و الدقيقة. لذلك نخاف المعاني و الدلالات كما نخاف الله و لا نخوض فيها فلسفياً و علمياً لأنها مُلك الله وحده. من هنا , عقيدتنا المسيطرة اليوم أدت إلى المعنافوبيا فانهيار عقلنا العلمي و الفلسفي. فاعتبار أن لغتنا مقدَّسة جعلنا نخشى لغتنا فالتفكير بها و فيها ما أدى إلى رفضنا للتفكير في أي قضية علمية أو فلسفية.


السبب الأساسي الثاني وراء المعنافوبيا هو أننا نخاف التغيير و نرفضه لأننا نخشى أن يؤدي أي تغيير إلى تهديد أو تدمير واقعنا المعاش و ماضينا التراثي و العقائدي المُعتمَد. فكل من خوفنا من أن تتغير هويتنا و أن نخسرها و خوفنا من خسارة تراثنا و ديننا أدى بنا إلى أن نخشى و نتجنب أي تغيير. و خوفنا من أي تغيير محتمل أو ممكن سَبَّب خوفنا من المعاني و الدلالات و البحث فيها أو من خلالها لأن التفكير في المعنى و الدلالة قد يُنتِج معان ٍ و دلالات فلغات جديدة تؤسس للتغيير على المستويات كافة. من هنا , رفضنا لأي تغيير حقيقي هو سبب من الأسباب الرئيسية خلف نمو المعنافوبيا و سيادتها على عقولنا و مشاعرنا. فمثلا ً , إذا بحثنا و اكتشفنا أن مفهوم الحرية يعني إعادة توزيع الثروة و المعرفة بشكل متساو ٍ بين الناس , فهذا البحث اللغوي الفلسفي سوف يُسبِّب تغيراً جذرياً في المجتمع في حال انتشاره و قبوله. على هذا الأساس , البحث في اللغة و معانيها يُشكّل خطراً على ما نعتاد من واقع متخلف. لذا نخاف اللغة و ما تحتوي من معان ٍ و دلالات ممكنة و جديدة.

بالإضافة إلى ذلك , المعنافوبيا سبب أساسي من أسباب الحروب الدائمة التي نعاني منها اليوم. فخوفنا من المعنى و البحث فيه و من خلاله جعلنا نكتفي بالمعاني التراثية المُحدَّدة مُسبَقاً فإتخذناها كيقينيات معرفية لا تقبل الشك و المراجعة و الاستبدال. و بذلك تعصبنا لمعتقداتنا الحاوية على المعاني الماضوية فرفضنا الآخر الذي لا يؤمن بما نؤمن ما سَبَّب لا محالة إلى اقتتالنا الطائفي و المذهبي و العرقي. أما إذا اعتبرنا أن اللغة عملية بحث مستمرة عن معان ٍ و دلالات جديدة فحينها لن نتعصب لمعان ٍ ماضوية , و بذلك يزول سبب أساسي وراء صراعاتنا. خوفنا من المعاني يؤسس لليقينيات. و اليقينيات تؤسس للحروب الدائمة. فاليقينيات تؤدي إلى رفض الآخر الذي لا يؤمن بما نؤمن. على هذا الأساس , التجسد الأول للمعنافوبيا هو تجسدها في الحروب المستمرة ضمن مجتمعاتنا العربية الإسلامية.

للمعنافوبيا تجسدات عديدة و مختلفة منها : أولا ً , تجسدها في اقتتالنا و حروبنا الداخلية. فحروبنا حروب على المعنى كأن نختلف حول هل معاني الإسلام كامنة فيما قال إبن تيمية أم فيما قال إبن رشد. أتباع الاتجاه الأول هم الأصوليون أما أتباع الاتجاه الثاني فهُم الليبراليون و العلمانيون. خلافنا خلاف على معاني الماضي لأننا نخاف البحث في معاني الحاضر و المستقبل. ثانياً , تتجسد المعنافوبيا في دعوتنا إلى عدم القراءة و التفكير و الكتابة عن العلماء و الفلاسفة و الإكتفاء بما يوجد في القرآن و حديث الرسول. و في هذا خوف شديد من الخوض في معان ٍ و دلالات لغوية ففكرية لم نعهدها سابقاً.

ثالثا ً , الرفض الصريح للعلم و الفلسفة و اعتبار نظرياتها كاذبة لأن الكون بناء عقلي مجرد في عقل الله وحده. و في هذا تعبير عن الخوف المرضي من معرفة معاني اللغات البشرية و دلالاتها المتجلية في الفلسفات و العلوم. رابعاً , اختزال نظريات العلماء و الفلاسفة الحديثة و المعاصرة إلى هذا القول الشِعري أو النثري التراثي أو ذاك. و في هذا تشويه للفلسفات و العلوم و تشويه للتراث في آن. و يدل هذا طبعاً على الرعب الذي يصيبنا في مواجهة الجديد من المعاني المُعبَّر عنها في الفلسفات و العلوم الحديثة و المعاصرة.

أما علاج هذا المرض العقلي الذي يُدعى المعنافوبيا فيكمن في اعتبار أن اللغة و معانيها و دلالاتها غير مُحدَّدة بل تعتمد في تحديدها و تكوينها علينا نحن بالذات. فعندما لا تكون اللغة و ما تتضمن من معان ٍ و دلالات مُحدَّدة منذ الأزل أو في الماضي , تحتاج حينها إلينا لكي نحددها فنكوِّنها , و بذلك يزول خوفنا من المعنى و البحث فيه. فالمعنى لا يوجد أصلا ً من دون إنتاجنا له. هكذا نتحرر من المعنافوبيا ما سوف يدفعنا نحو المشاركة في بناء علوم و فلسفات جديدة. فحين نتخلص من خوفنا من المعنى و البحث فيه سنتمكن من الإقبال على التفكير في معاني المفاهيم و دلالاتها. و كل من الفلسفة و العلم ليس سوى عملية بحث في معاني المفاهيم و دلالاتها. من هنا , سننجح في العودة إلى الحضارة و إنتاج العلم و الفلسفة حين نتحرر من المعنافوبيا فنقبل على التفكير في المعاني و الدلالات لكونها مجرد نتاج تفكيرنا و لا ترتبط بأي مُقدَّس أزلي أو دنيوي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي