الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متى تعامل لينين مع الصهيونية كطليعة ماركسية: فى مراجعة المسلمات العربية

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2016 / 4 / 24
القضية الفلسطينية


أثار كتابى "نبوءة خرب الصهيونية: العدمية فى الأدب الصهيونى بين الأزمة الوجودية وصحوة العربى"، النقاش حول المسألة الصهيونية وعلاقتها باليسار الماركسى فى أوربا وروسيا تحديدا، مرجع الجدل عدم اطلاع الجماهير العربية وكذلك بعض النخب العربية على معظم وثائق وتاريخ البدايات المبكرة للصهيونية وعلاقتها بالحالة الأوربية من خلال الرأسمالية والماركسية، مما يجعل الأطروحات العلمية التى تكشف عن تاريخ الصهيونية وعلاقتها باليسار الأوربي واليسار العربى صادمة إلى حد ما..!
مثل موقف لينين من تيار "الصهيونية الماركسية" نفسه، خصوصا الاشتراطات التى وضعها لينين لهم للمشاركة فى الأممية الدولية (أو تبسيطا التنظيم الشيوعى العالمى آنذاك) فى عشرينيات القرن الماضى..

• المسلمة العربية: التناقض فى الموقف من الصهيونية

ذلك يضعنا فى موقف ضرورة مواجهة الذات ومراجعة المسلمات العربية والمواقف التى كثيرا ما تم الخلط فيها بين الرئيسى والفرعى (الاستراتيجى والتكتيكى)، خاصة مواجهة الواقع بأن اليسار الفلسطينى فى بواكير القرن الماضى تربى على أيدى اليسار الصهيونى وتنظيماته، ورغم تفتح الوعى الذاتى العربى عدة مرات متوالية مرت بعدة انشقاقات تنظيمية على الصهاينة، إلا أن نقطة الفصل هنا هو استمرار ترديد بعضهم للأطروحات القديمة للصهيونية الماركسية، عن دولة مشتركة تجمع العرب والمستوطنين فى إطار تقدمى عمالى مثلما كانت تقول الصهيونية الماركسية! وهو نقطة المراجعة والفصل فى المسلمات العربية التاريخية ومصدر المواقف الملتبسة حتى الآن، بما يستوجب ضرورة المواجهة بالبحث العلمى الموضوعى والجاد..
لأننى أعتقد أن الموقف القائم على التعايش مع الصهيونية المعدلة أو اللطيفة أو التقدمية المزعومة، مرجعه يعود إلى شقين: اليسار الفلسطينى وكلاسيكياته الفكرية من جهة، ونشأة اليسار العربى فى علاقته مع الصهيونية من خلال اليهود العرب والأجانب، وفكرة الموقف الملتبس القائم على نقد الصهيونية الدينية أو العنصرية، والتسامح وقبول الصهيونية المعدلة التى تتعاطف مع العرب وتنادى بالاحتلال التقدمى عن دولة تحافظ على حقوق الضحية العربى الفلسطينى!
هنا مكمن المراجعة فى المسلمات العربية وموضع النقد وطلب التوضيح واستبيان جذور الموقف العربى اليسارى من الصهيونية..!
وقد سعدت مؤخرا بالنقاش الجاد مع الصديق العزيز د. أحمد الخميسى، وسعدت أكثر بمقاله الذى كتبه فى مراجعة أطروحتى ونقدها والذى نشر فى جريدة الدستور بعنوان: "عدمية وخراب الأدب الصهيوني"، وفيه طرح عدة نقاط لزاما علىّ بيانها، وبيان أحداثها ومسارها التاريخى..


• الحدود الفاصلة والتداخل:
ماركس/الماركسية/ الصهيونية الماركسية/ الماركسية اللينينية/ الماركسيون العرب



بداية يجب التمييز بين عدة مواقف ومستويات فى تناولنا للمسألة اليهودية والصهيونية وعلاقتها بما يلى:

- "ماركس" نفسه ورؤيته فى مقاله الطويل "فى المسألة اليهودية"، حين اعتبر أن الديانة اليهودية والعقائد الخاصة بها هى العائق أمام اندماج اليهود فى العالم، ورأى ضرورة التحلل منها فى سياق رؤيته للتحلل من دور الدين عامة فى الحالة المسيحية الأوربية، فلقد رأى ماركس التناقض فى علاقة المركزية المتبادلة والمتضادة بين اليهود وبين المسيحية، ورأى أن الخلاص سيكون بالتحلل من الدين عامة، وموقف الصراع والندية بين العهد القديم اليهودى، والعهد الجديد المسيحى.
- وبين"الماركسية" ذاتها ورؤيتها للعالم من خلال الصراع الطبقى؛ وانتظام البشر فى تمثلات للصراع المادى تعكس تضاربا مستمرا وأبديا فى المصالح يقوم فقط على العلاقة بنظام الإنتاج، وموقع كل فرد فى نظام الإنتاج السائد، ومن الذى سيستفيد أكثر بعوائد العمل الإنسانى وتحويل المواد الطبيعية والتجارة فيها.
- وبين سعى "الصهيونية الماركسية" إلى عمل علاقة مع "النظرية الماركسية" الطبقية نفسها (وليس مع ماركس وأطروحته فى المسألة اليهودية)، وذلك بهدف دمج اليهود فى البنية التاريخية للعالم وتحويلهم لمجتمع قومى داخله كل الطبقات وله نظام إنتاج خاص به، على حساب فلسطين، بادعاء التقدمية فى دمج العرب فى الدولة الصهيونية تحت شعارات عمالية طبقية مدعاة!.
- وبين "الماركسية اللينينية" وما وقعت فيه من أخطاء فى التعامل مع "الصهيونية الماركسية، وباعتبار أن الماركسية اللينينية عند البعض هى التطبيق الرئيسى للنظرية، وعند البعض هى الواقع الذى اشتبك مع النظرية وأخرج منها أيديولوجيتها الرئيسية وليست مجرد تطبيق وفقط.
- وبين العمل السياسى "للماركسيين العرب" وعملهم من أجل فكرتهم ومن أجل شعوبهم، لكن فى الوقت نفسه عدم وقوفهم على الحقائق الكاملة لدور اليسار الصهيونى فى بناء دولة الاحتلال، وكذلك دوره فى علاقته باليسار الفلسطينى الذى نشأ على يديه؛ عن دولة مشتركة بين الاحتلال والعرب وفق رطانة طليعية ماركسية مزعومة، لم يتم الالتفات لها بالشكل الكافى بعد.


• فى البديهيات: الفصل بين النظرية وتطبيقاتها المدعاة


يقول الصديق العزيز د. أحمد الخميسى فى المقال: " كنت أتمنى أيضا لو قام د. الجوهري بفك الارتباط المتكرر بين الصهيونية والماركسية على الأقل بعرض وجهات نظر أعلام الماركسية الذين فضحوا ذلك التيار الصهيوني بصفته تيارا انتهازيا لا يمت للماركسية بصلة."
وفى الحقيقة تلك بديهية واضحة فيجب الفصل بين النظرية السياسية والتطبيقات التى تدعى الانتماء إليها! سواء نجحت أو فشلت تلك التطبيقات، والنظرية ليست مسئولة عن توظيفها أو توريطها فى أحد التطبيقات الواقعية، وهذا هو حال "النظرية الماركسية" فى علاقتها بأيدولوجيا "الصهيونية الماركسية"! الماركسية ليست مسئولة عن التيار الصهيونى الذى استمد مرجعيته النظرية منها وقدم نظرية للاحتلال التقدمى أو نظرية لطليعة ماركسية صهيونية فى المنطقة العربية من خلال فلسطين!
اعتمد "بيير بورخوف" اليهودى الروسى ومنظر الصهيونية الماركسية، على فكرة البناء الطبقى فى أزمة يهود أوربا والعالم، واعتبر أن حل المسألة اليهودية يكمن فى خلق بنية طبقية لهم داخل مجتمع قومى خاص بهم (فلسطين)، وبعد خلق البنية الطبقية للمجتمع ووضعها على الأرض بما تشمله من عمال وفلاحين ورأسماليين ومهنيين (عرب ومستوطنين يهود)! يدخل المجتمع الصهيونى الوليد فى مرحلة الصراع الطبقى الداخلى (داخل المنطقة العربية)! ثم يشارك فى العمل السياسى الدولى أو الصراع الطبقى العالمى ضد الرأسمالية ومن أجل دولة العمال العالمية!
لكن ما فعلته الصهيونية الماركسية لا يحسب حقيقة على النظرية الماركسية الأم فى الصراع الطبقى؛ لأن مؤلفات بيرخوف تشى بتبنيه لـ"طبقية قومية"، تختلف عن أطروحات الماركسية الرئيسية.


• دور الصهيونية الماركسية فى وضع فكرة الصهيونية على الأرض:


ويقول فى المقال نفسه: "أيضا فقد أعطى د. الجوهري للفكر الصهيوني المقنع بالماركسية وزنا أكثر من حقيقته في إقامة الدولة الصهيونية، ذلك أن العامل الرئيسي في إقامة تلك الدولة لم يكن ” النظريات” والأفكار بل المصالح الاستعمارية المحددة التي كانت ستقيم ذلك الكيان تحت أي دعوى فكرية أيا كانت"
هنا يجب التوقف قليلا لمراجعة الحقائق والمسلمات؛ الصهيونية كفكرة سياسية طرحها هرتزل فى كتابه "الدولة اليهودية"، كانت فكرة فوقية لا تملك أرجلا على أرض الواقع، دار بها على أبواب الملوك والرؤساء وأرباب المال فى أوربا الغربية! لكنها لم تجد لنفسها سوقا واقعيا عندهم..! ولم تتحول من الفوقية والأفكار المجردة؛ إلا عندما تبناها اليسار اليهودى المنظم فى روسيا، هنا تحول الأمر لصهيونية حقيقية لها تنظيماتها على أرض الواقع.
فتم اعتماد المستوطنات الجماعية المسلحة كأداة للمستوطنين الصهاينة فى فلسطين، وتم اعتماد التنظيم السياسى العمالى النقابى المسمى "الهستدروت" كأهم شكل نقابى للصهيونية فى فلسطين المحتلة! وكان التنظيم المسلح للمستوطنات هو النواة التى خلقت القوة المسلحة للصهاينة فى فلسطين المحتلة.. كانت الصهيونية الماركسية القادمة من روسيا هى الأب الحقيقى للصهيونية السياسية؛ ولولا الصهيونية الماركسية لما استطاع الغرب الاستعمارى خلق المشروع ولا الاستفادة منه، وتحويله إلى مسمار فى نعش الشرق العربى العدو التاريخى فى حقبة القرون الوسطى، ولكن يؤخذ على لينين أيضا محاولة توظيف الصهيونية فى الصراع ذاته، عندما تعامل مع الصهيونية الماركسية كطليعة ماركسية فى المنطقة العربية، ولكن الخطأ لا يقع على الغرب الاستعمارى الرأسمالى ولا على الشرق العمالى الجماعى، لكنها كانت لحظة ضعف وانهيار للذات العربية، يجب عليها تجاوزها فى علاقتها مع الغرب الرأسمالى أوالعمالى، ويجب علينا أن نلتف حول لحظتنا المفصلية التاريخية مع الثورات العربية الوليدة، وبحثها عن نموذج حضارى خاص بها يكون هو المشروع الجديد للعالم.


• لينين والصهيونية الماركسية:


ويقول الصديق العزيز د.أحمد الخميسى فى المقال ذاته: "أخيرا يجدر القول أن ما يسميه د. الجوهري” الماركسية الصهيونية” قد وجد انتقادا عنيفا لدي مجموعات كبيرة من الماركسيين العرب، وكان البحث جديرا بعرض ” الماركسية الصهيونية” أيضا من وجهة نظر الماركسية التي عرت ذلك التيار ووقفت ضده. "
والحقيقة أن لينين – باعتبار الماركسية اللينينية هى القياس- قد وقع فى الخطأ الفادح، خطأ الخلط بين الاستراتيجية والتكتيك، حينما اعتبر الصهيونية (المعدلة أو التقدمية أو الماركسية!!) تكتيكا يمكن من خلاله اعتبارها خلية طليعية فى الشرق العربى! أخطأ لينين حينما قبل التعامل مع رجال "الصهيونية الماركسية" فى "الكومينترن" (الأممية الدولية)؛ مع اشتراط التزامها بعدة شروط وضعها لينين لهم!! هذه الشروط كانت ظنا من لينين أنهم سيتحولون لطليعة ماركسية فى فلسطين، وربما فى المنطقة العربية بأكملها! اشترط لينين عليهم التخلى عن الشعارات الصهيونية، وتعريب الحزب وتصعيد بعض الكوادر العربية التى تربت على يد رجال "الصهيونية الماركسية" وأحزابها فى فلسطين (وخصوصا حزب بوعلى تسيون أو عمال صهيون.. أهم الواجهات الحزبية لتيار الصهيونية الماركسية!! ).
وبشكل أوضح وأكثر صراحة؛ تعامل لينين مع مجموعة الصهيونية الماركسية؛ كرأس حربة للماركسية اللينينة (الشيوعية) فى فلسطين، تستقطب من العرب الفلسطينيين كوادرها، وربما كانت مركز انتشار فى المنطقة ككل! تعامل لينين مع الصهيونية كخلية شيوعية فى فلسطين وربما فى الشرق العربى بأكمله.. وهنا وقع لينين فى شباك أيدولوجيا "الصهيونية الماركسية" كما وضعها "بير بيرخوف" المنظر الروسى الصهيونى اليهودى الذى وضع أسسها..


• ما الأدب! وسؤال طبيعة الأدب الصهيونى


ويقول الصديق العزيز فى المقال: "الكتاب تجربة مهمة تستحق التحية وإن كنت آخذ على د. الجوهري أنه لم يعالج بعض الأسئلة المهمة ومنها : هل يمكن للأدب أن يوجد خارج الأمة والقومية؟ المعروف أن نحو سبعين عاما هي كل عمر إسرائيل لا يمكن أن تبلور قومية ليكون لها أدب."
وبالطبع هذا سؤال مهم؛ لكن الإجابة عليه ستحتاج إلى سؤال أكثر بساطة: ماذا كان يفعل أدباء اليهود فى أوربا قبل ظهور الصهيونية؟ كانوا يكتبون بالطبع ومنشغلون إلى حد ما بالسياق العام للتجربة الأوربية وموضوعاتها شكلا ومضمونا! ويكون السؤال الجديد كالتالى: ماذا سيستجد على أدباء يهود أوربا حين يتبنون الصهيونية فى فلسطين! وتكون الإجابة أنهم كانوا على صلة بالأشكال والأجناس الأدبية المتنوعة فى تلك الفترة، ولكن ما جد عليهم كان فى المضمون وتبنى الفكرة والمشروع الصهيونى!
فالصهيونية هى مشروع بالنسبة للصهاينة الذين يكتبون الأدب، من ينطلق من خلفية ماركسية يرى فى الصهيونية مشروعا للاحتلال التقدمى ويكتب عن ذلك، ولكنه سرعان ما انكسر وتحول للعدمية مع قرار تقسيم الدولة وحرب 1948. ومن يرى فى الصهيونية مشروعا للقومية، يكتب عن الأرض واللغة والدين والعرق باعتبارهم القاسم لمشروعه وتصوره للصهيونية. ومن يرى فى الصهيونية الدين يكتب عن الأرض الموعودة وشعب الله المختار وأرض الآباء وملوك بنى إسرائيل.. ومن يرى فى الصهيونية الامتداد للمشروع الغربى الليبرالى يكتب عنها بوصفها واحة الديمقراطية فى محيط الاستبداد الشرقى العربى، ويكتب عن الحرية الجنسية وربما المثلية كذلك!
الخلاصة ولأجيب ببساطة على سؤال الصديق العزيز، الأدب الصهيونى هوغطاء واسع وفضفاض لكل صاحب مشرب فى تصوره للصهيونية، ماركسية أو دينية أو قومية أو ليبرالية أو أيا كانت.. والأدب الصهيونى، يختلف عن مصطلح الأدب اليهودى، عن مصطلح الأدب العبرى، عن مصطلح الأدب الإسرائيلى، فالأدب اليهودى هو الذى يكتبه من يدينون باليهودية سواء ناصروا الصهيونية أو هجروها، والأدب العبرى هو الذى كتب باللغة العبرية سواء قبل ظهور الصهيونية أو بعدها، الأدب الإسرائيلى هو الذى كتب بعد إعلان الدولة وداخل فلسطين المحتلة..
ولكن يتميز الأدب الصهيونى بأنه مظلة واسعة فقد يكتبه كل من كان يؤمن بالصهيونية؛ سواء كان يهوديا أو غير ذلك، سواء كان بالغة العبرية أو غيرها، سواء كان من داخل إسرائيل أو من خارجها! الأدب الصهيونى هو فكرة تجمع المؤمنين بالمشروع.


• أيدولوجيا "الصهيونية الماركسية" والأرضية الملتبسة:


ملخص نظرية "الصهيونية الماركسية" عند "بيرخوف" قائم على "طبقية قومية"! حيث يرى أن مشكلة اليهود تاريخيا هى تشوه "البنية الطبقية" لهم، فالمفترض أن المساحة الأكبر من اليهود -التى تمثل قاعدة للهرم السكانى- تعمل فى الزراعة والصناعة؛ وقلة منهم تعمل فى المهن المتخصصة والنوعية كالتجارة والسمسرة والصرافة والطب والهندسة وخلافة! لكن الواقع كان يقول بالعكس أن القاعدة من اليهود تعمل فى مهن متخصصة ونوعية والقلة تعمل فى الزراعة والصناعة؛ فى حالة من التشوه الطبقى تستدعى الصراع بينهم وبين الأمم الأخرى التى يعيشون بينهم، بسبب منافسة اليهود للهرم الطبقة الخاص بكل بلد فيهم، وبالتالى ما يسببونه من تشوه طبقى سياسى أينما حلوا..!
ورأى بيرخوف أن الحل يقوم على تجميع اليهود فى وطن قومى خاص بهم؛ ساعتها سينعدل الهرم الطبقى الخاص بهم كأى "جماعة قومية" الغالبية تمثل قاعدة الهرم وتعمل فى الزراعة والصناعة، والقلة تكون فى قمة الهرم بالمهن المتخصصة والنوعية..
وقال بيرخوف أن اليهود إذا حاولوا اللجوء إلى أى دولة فى العالم فسيتعرضون لما يشبه "متوالية الطرد" المستمر حتى يصلوا إلى فلسطين، التى اعتبر أن لهم الحق التاريخى فيها!!


• لينين والمرحلتين فى سياسية "الصهيونية الماركسية":


وقد وضع بيرخوف فى استراتيجيته للصهيونية الماركسية هدفين متراتبين! أو مرحلتين متواليتين، المرحلة الأولى: وهى تجميع اليهود فى دولة فلسطين، وفق بناء اقتصادى ماركسى جماعى عمالى (وهو ما مثلته المستوطنات الجماعية بمختلف أشكالها)، وتنظيمات حزبية قوية تستقطب من الفلسطينيين العرب البدو المؤهلين لاستقبال الحضارة الغربية على الطبعة الماركسية! فى دولة ترفع شعارات عمالية بين العرب والصهاينة!
ثم فى المرحلة الثانية تنتقل هذه الدولة الهجين بين العرب الفلسطينيين واليهود الصهاينة، لمرحلة النضال الأممى، والمشاركة مع فى النضال العالمى من أجل إقامة الدولة العمالية العالمية!!
وهو بالضبط ما اشترطه لينين عليهم فى اجتماع "الكومينترن"!! "الصهيونية الماركسية" هى أول من بشرت بمرحلة "ما بعد الصهيونية" المزعومة! هى أول من راجعت نفسها مبكرا قبل "المؤرخين الجدد" وقدمت النقد المبكر "لمرحلتها الأولى" وإقامة الدولة.
لينين لم يشترط على "الصهيونية الماركسية" سوى ما اشترطته هى لنفسها، ورسمه "بيرخوف" لها بعناية!


• والآن ما العمل!


"الصهيونية الماركسية" هى التنظيم الحديدى الحقيقى وراء بناء دولة "إسرائيل" فى واقع الأمر، المسكوت عنه فى التاريخ النقدى صاحب الدعاية الرنانة لليسار الصهيونى والعالمى؛ أن "هرتزل" صاحب كتاب "الدولة اليهودية" كان سيظل يهوديا هائما آخر لو لم يتلقف فكرته "اليسار الماركسى" اليهودى فى روسيا!
دار هرتزل على الملوك والسلاطين شرقا وغربا؛ ولكن "الصهيونية" لم تتحول من فكر طوباوى حالم ليهود أوربا سوى على يد اليسار فى روسيا! اليسار اليهودى الروسى هو الذى وضع الأساس النظرى والتنظيمى للأحزاب والمستوطنات الجماعية ونظم الهجرات لفلسطين! وكان "الهستدروت" كنقابة عمالية كبرى تعبر عن المستوطنات الجماعية الماركسية الصهيونية من أقوى المؤسسات السياسية والاجتماعية الصهيونية المبكرة فى فلسطين! إن لم يكون أقواها.. وظل اليسار الصهيونى بتنوعاته فى السلطة قبل وأثناء وبعد إعلان الدولة، حتى عام 1977 عندما اعتلى اليمين مقعد السلطة لأول مرة.


• هل العبثية والعدمية هما العمل والحل:


العبثية والتوجه العدمى فى المشروع الصهيونى، ذلك ما يسلط الضوء عليه كتابى وأطروحتى للدكتوراة: "نبوءة خراب الصهيونية" الضوء؛ حيث مع قرار تقسيم فلسطين ومن بعده نشوب حرب عام 1948 بين العرب والصهاينة! وما صحب الحرب من مذابح وفظائع؛ أصيبت نخبة اليسار الأوربى اليهودى –وورثتها- القادمة لتبشر بالماركسية على طبعة صهيونية بالصدمة! كانوا يحسبون أنفسهم ممثلين للحضارة الغربية ممثلين للحداثة وإعمال العقل لحل مشاكل البشر.. ولكن أصابتهم الصدمة مع فشل أسطورة دولة تقدمية تجمع العرب واليهود؛ بقرار التقسيم، هنا وفى تلك اللحظة ظهر الاختيار العدمى والعبثى ما بعد الحداثى فى المشروع الصهيونى!
تحول قطاع كبير فى تيار "الصهيونية الماركسية" لحالة اليأس من الوجود، ومثل له قرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود نهاية العالم! وظهرت فى كتاباتهم الأدبية والسياسية "نبوءة خراب" الدولة؛ وكتب "الأدب الأبوكاليبسى" الذى يتوقع انتفاضة الفلسطينى والعربى ضد الهيمنة الوجودية للمشروع الصهيونى فى طبعته غير الماركسية التى كانوا يزعمونها!
وظهرت عند تيار "الصهيونية العدمية" صورة جديدة للعربى تختلف عن الصورة التقليدية لليمين الصهيونى الذى صور العربى فى صورة بربرى همجى، وتختلف كذلك عن الصورة التى شاعت عند اليسار الصهيونى الماركسى بعد حرب 1948 والتى صورت العربى كضحية!! ظهرت عند تيار "الصهيونية الماركسية" صورة العربى كمصدر للخطر والغضب الكامن والمؤجل..!


• يسار ما بعد إعلان الدولة الإصلاحى:


كما أوضحنا انقسم اليسار الصهيونى الماركسى بعد إعلان الدولة وقرار التقسيم على نفسه، قطاع لا بأس به تحول للخيار العبثى؛ ولكن ظل قطاع من "الصهيونية الماركسية" على اختيار العمل السياسى؛ فى محاولة لحفاظ على الدولة من المصير الذى تنبأ به لها تيار "الصهيونية العدمية"، وهو القطاع الذى أعاد إنتاج أفكار "الصهيونية الماركسية" القديمة فى تمثلات عدة مثل "تيار المؤرخين الجدد" ، حالة "مابعد الصهيونية"..
كما استمر تيار "الصهيونية الماركسية" فى العمل ولكن بعد ان طور من شعاراته قليلا لتناسب حل الدولتين، والدعوة للسلام والتعايش..


• معيار الانتقال ما بين الإصلاحية والعدمية فى الدولة:


أصبح الصدام الوجودى الحتمى الذى خطه المسار التاريخى لوقائع الصهيونية على الأرض هو الجرس الذى يوقظ الإصلاحيين من محاولاتهم! كانت حروب الصهيونية المستمرة واعتداءاتها المستمرة هى لحظة تراجع اليسار الإصلاحى داخل الصهيونية عن مشروعه، فكان يختار العدمية الفردية والخراب الفردى للمشروع فيهاجر من "إسرائيل" مثل "إيلان بابيه" عضو تيار "المررخين الجدد"..
أو يختار التحول لليمين والعنصرية مثل بنى موريس مؤسس "تيار المؤرخين الجدد"، والذى مع اندلاع انتفاضة الأقصى، قرر أن يراجع مراجعاته وتأكد من استحالة التعايش بين الصهاينة والعرب والفلسطينيين، واختار الصدام الوجودى بين الطرفين حتى لو أدى ذلك لخراب منتظر.. فى تمثل آخر لنبوءة الخراب فى المشروع الصهيونى.
وكذلك هناك محاولة شهيرة لإصلاح المشروع والتعايش بين العرب والصهاينة قام بها "حاييم جورى" وفق فلسفة التعايش الوجودى التى قدمها "مارتن بوبر" الفياسوف الصهيونى التعايشى فى السبعينيات؛ ولكن جاء الاجتياح الصهيونى للجنوب اللبنانى ليضع النهاية المأساوية للمشروع وينتهى بالخراب أيضا..
لتصبح صدمة حروب الصهيونية التوسعية، وحتمية ارتداد المسار العنصرى للصهيونية فى وجه رجاله؛ هى لحظة التحول والردة فى تبنى مفهوم الإصلاحية عند يسار ما بعد إعلان الدولة؛ ومن ثم تبنيهم للعدمية واختيار الصدام الوجودى أو الهجرة والخراب الفردى بالرحيل عن دولة "المشروع الصهيونى".


• خاتمة: فى نقد العقلية العربية


نحن فى حاجة لمراجعة الكثير من المسلمات التى جعلتنا ندور كالنداهة فى دوائر مفرغة؛ لم نلتفت إلى أن الصهيونية وضعت على الأرض من قبل تيار "الصهيونية الماركسية"، ولم نلتفت للخطأ الذى وقع فيه "لينين" فى تبنيه للصهيونية الماركسية وتعامله مع الصهيونية كطليعة ماركسية فى فلسطين والشرق الأوسط..
وجذر موقف اليسار العربى المنقسم حول ذاته، الذى يرفض الصهيوني الدينية العنصرية، ولكنه يقبل بدولة احتلال تقدمى تنادى بحق الضحية وقد تشركه فى بنيتها السياسية كما كان يقول بيرخوف منظر "الصهيونية الماركسية"!
هناك أزمة تخصنا كعرب فى طريقة التعاطف مع الأشياء وتبنيها، وفى هذه السمة يتساوى اليسار واليمين، نفرط فى تبنينا لفكرة ما ونتطرف فيها لنحولها إلى "لفائف مقدسة" غير قابلة للبحث والمراجعة! وهذا لا ينصرف على "فرق الدين السياسى" العربية والمصرية فقط، بل يطول تنظيمات اليسار التى أصبحت تحج إلى "النصب التذكارى" للحداثة الأوربية..
ويرفض جلها أى لحظة تغيير مفصلية أخرى فى التاريخ البشرى كحالة الثورة العربية فى الألفية الجديدة، وسعيها لتقديم نموذج خاص بها، يعيد صف الأشياء وترتيبها من جديد..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غرقُ مطارِ -دبي- بمياهِ الأمطارِ يتصدرُ الترند • فرانس 24 /


.. واقعة تفوق الخيال.. برازيلية تصطحب جثة عمها المتوفى إلى مصرف




.. حكايات ناجين من -مقبرة المتوسط-


.. نتنياهو يرفض الدعوات الغربية للتهدئة مع إيران.. وواشنطن مستع




.. مصادر يمنية: الحوثيون يستحدثون 20 معسكرا لتجنيد مقاتلين جدد