الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استقالة الشاذلي بن جديد 1992 وتحول الحياة السياسية في الجزائر

حسام أبو النصر

2016 / 4 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


المقدمة :
الشاذلي بن جديد (14 أبريل 1929 - 6 أكتوبر 2012 )
ولد في قرية بوثلجة بولاية الطارف كان الرئيس الرابع للجزائر منذ التكوين والاستقلال من 9 فبراير/شباط، 1979 وحتى 11 يناير/كانون الثاني 1992. انضم بن جديد إلى الجيش الفرنسي كضابط غير مفوض وحارب في الهند الصينية. في بداية حرب الاستقلال الجزائرية من فرنسا عام 1954، انضم بن جديد إلى جبهة التحرير الوطني (FLN) ونتيجة لذلك، كوفئ بمنحة القيادة العسكرية لمنطقة وهران الجزائرية عام 1964. بعد الاستقلال، ترقى في الرتب حتى أصبح عقيد في 1969.
كان بن جديد وزيرًا للدفاع من نوفمبر/تشرين الثاني 1978، وحتى فبراير/شباط 1979. وأصبح بعد وفاة هواري بومدين رئيسًا للجزائر خلافًا لما كان يعتقد أن يخلف بومدين في الرئاسة مرشحون مثل عبد العزيز بوتفليقة أو محمد صالح يحياوي. حيث كان بن جديد يحسب على أنه تحرري موالي للغرب.
أثناء فترة رئاسته، خفف بن جديد من تدخله في الاقتصاد وخفف المراقبة الأمنية للمواطنين. في أواخر الثمانيات، ومع انهيار الاقتصاد بسبب انخفاض أسعار النفط بسرعة، اشتدت حدة التوتر بين أجنحة النظام الداعمين لسياسة بن جديد الاقتصادية من جهة. ومن المعارضين لسياسة بن جديد والمطالبين بالعودة إلى النهج المؤسس. في أكتوبر/تشرين الأول 1988، اندلعت احتجاجات شبابية ضد بن جديد احتجاجا على سياسات التقشف مما أدى إلى انتشار اضطرابات هائلة في مدن وهران، و عنابة، وأخرى أدت إلى أن يقوم الجيش بقمعها بشكل وحشي وأدى هذا إلى مقتل المئات. وفي سعيه للبقاء سياسيًا، دعا بن جديد إلى الانتقال للديمقراطية والسماح بالتعددية الحزبية. على أية حال، تدخل الجيش الجزائري لإيقاف الانتخابات الديمقراطية من جلب حركة الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) إلى السلطة. مما أدى إلى استقالة بن جديد ودخول البلاد في حرب أهلية دموية وطويلة.
اولا : استقالة "الشاذلي بن جديد"
عنون (علجية عيش) استقالة الشاذلي بن جديد : شهادة وفاة "الديمقراطية" في الجزائر ، وكشفت وثيقة سقطت بين أيدينا أعدتها الجماعات أفسلامية في الجزائر سميت بوثيقة وهران أن استقالة الشاذلي بن جديد كانت بمثابة شهادة وفاة "الديمقراطية" في الجزائر، و هذا يعتبر عندهم انتصارا ل: "الإسلاميين" الذين كانوا يرون أن الديمقراطية " شجرة لا تنبت في البلاد المسلمة خاصة بالنسبة لأولئك الذين اعتبروها كفرا.
لقد مهد ظهور هذه الوثيقة الصراع الذي كان يدور بين أعضاء جبهة التحرير الوطني وهي تعقد مؤتمرها الخامس، انقسمت فيه الى جناحين: "بن جديد" و "مساعدية" و كان الضوء لا يمر بين الطرفين لدرجة أن الشاذلي قال يوما : " لقد تعبت من مساعدية و أنا أنبهه"، يصرح أحد الإسلاميين في مذكراته أن الجميع كان معارضين لمساعدية حتى الجيش و المواطنين و هذا يعني أن الإنسجان كان غائبا تماما و مفقودا داخل الجبهة و في المؤتمر السادس أصدر مساعدية "بيانا" و هو البيان الأول من نوعه منذ الإستقلال يقولون فيه أن "صمتهم" قد استغلته السلطة الحاكمة لإفراغ الجبهة من محتواها و عناصرها الوطنية المخلصة، و كان جناح "مساعدية" يرى أن أحداث أكتوبر لم تكن إلا مؤامرة على الثورة أو على الخط الثوري في جبهة التحرير الوطني.
و تتهم الحركات الإسلامية جبهة التحرير الوطني في هذه المذكرة بأن صراعاتها الداخلية منذ المؤتمر الخامس كانت أهم العوامل التي حركت الشارع ليلة الرابع من أكتوبر، كذلك الصراع الذي كان بين اعضاء مجلس الثورة و جماعة ال: 19 مارس 62، فالثوريون كانوا لا يرون ضرورة استمرار الجبهة بعد الإستقلال و يجب أن تدخل متحف التاريخ و كان انقلاب 19 جوان يحمل في طياته هذه الفكرة.
كان الشاذلي بن جديد يتمتع بالذكاء و الدهاء بدليل أنه كان يعطي الأوامر بغير وثائق و لا توقيع و كان يسير البلاد " مشافهة" و للبحث عن مخرج له ألقى خطابا "تحريضيا" وجهه للأمة يوم 19 سبتمبر 1988 يقول فيها حسب ما جاء في الوثيقة: " إن الشعب ثار في بعض الأقطار المجاورة من أجل زيادة في سعر الخبز و آخرون ثاروا لزيادة في سعر اللحم و نحن لا نريد أن نصلح من أحوالنا"، و استغل الشيوعيون هذا الخطاب للضرب على الحديد و هو ساخن ، فأشاعوا أن انقلابا سوف يحدث و كرست الدعاية الشيوعية أن يوم 03 أكتوبر هو يوم الإنقلاب، فكان الإنفجار ليلة الرابع من أكتوبر استغلت فيها "البراءة" ( الأطفال) لجس نبض الساحة فحدث ما حدث من سرقات و تخريب و حرق في غياب الشرطة، ليبرز الصراع الحقيقي بين الجيش و الإسلاميين في المسيرة التي دعا اليها الشيخ علي بن حاج يوم 07 أكتوبر 88 مما زاد الوضع توترا ، تحولت فيه الأجواء من انتفاضة غضب الى مواجهة دموية مع الجيش بعدما أعلن الجناح الإسلامي "الجهاد" ، فكانت مجزرة "باب الواد" الفتيل الذي فجر الثورة بين شعب أعزل و جيش مدجج بالسلاح.
في ظل هذه الأجواء الساخنة آثر "الشاذلي بن جديد" الصمت حتى هدأت الأوضاع ليخطب أمام الشعب بأن الذي حدث كان مجرد "خطأ" و هو يتحمل نتائجه و تمكن بخطابه ذاك من إسكات الشعب و بهذا انتصر الشاذلي على مساعدية الذي اختفى بعد ذلك عن الوجود، و بعد خمسة اشهر جاء دستور 24 فيفري 89 لإعلان الديمقراطية في الجزائر..، والظروف مهدت لإعلان وثيقة وهران مع بداية 1990 أصدرها رجال غيورين على دينهم ووطنهم يمثلون ( رابطة الدعوة الإسلامية، جبهة الإنقاذ، حركة حمس ، النهضة و الأحرار) أي حوالي 86 رجلا من دعاة الجزائر و علمائها و أدمغتها و بمبارك الشيخ " سحنون" رئيس رابطة الدعوة الإسلامية، اجتمعوا على مدار يومين مغلقين ناقش فيها المجتمعون الواقع الجزائري برمته و خلصوا الى جملة من التوصيات و المقترحات، و عرضت الوثيقة على الأحزاب الإسلامية الثلاثة : الإنقاذ ، حمس و النهضة. تقول الوثيقة ما يلي:
إن الدعاة المجتمعين بمدينة وهران يومي الجمعة و السبت 3/4 ماي 1991 و بعد أن تدارسوا الوضع الذي يمر بها العمل الإسلامي الدعوي و السياسي و بخاصة منذ إفساح المجال للتعددية الحزبية و بعد النظر في الخلاف الذي اتسع نطاقه داخل الحركة الإسلامية مما جعل خصوم الإسلامين و دعاة التغريب للتمكين لدعواهم فاتحدوا على الباطل ، لهذه الأسباب و غيرها توجهت مجموعة من الدعاة الى هذا المسعى الهادف الى جمع الكلمة و توحيد الصف رغم وعيهم بصعوبة الموقف و خطورة المحاولة، و بعد مشاورات كثيرة و اتصالات عديدة مع رابطة الدعوة الإسلامية و رئيسها الشيخ أحمد سحنون الذي زكى المسعى و حث عليه، و استخلص الملتقون الى أن المقترحات تعد قاسما مشتركا تبنى عليه قواعد وحدة الحركة الإسلامية، وعلى الجماعات الإسلامية ألا يشغلها العمل السياسي( الحزبي) عن بذل الجهد الدعوي و الإهتمام بنشر العلم الإسلامي الصحيح، و التربية و تثقيف الجماهير و صيانة وحدة الأمة العامة بالتأكيد على منهاج أهل "السنة و الجماعة" و اعتماده على كتاب الله و سنة رسوله، تضيف "الوثيقة" أنه إذا كان العمل الحزبي و التنظيم السياسي ضروريا لبلوغ الهدف، فإنه لا ينبغي أن يحشر العمل الإسلامي في نظرة حزبية ضيقة متعصبة تكون مدعاة للنفور، و عليه لا بد أن توكل الأمور الى مجلس علمي في رابطة الدعوة الإسلامية الذي يضم الكفاءات.
و ناقشت الوثيقة طرق و كيفية الدخول في الإنتخابات و كسب المقاعد، غير أن الحركة الإسلامية كانت ترى أن حصولها على مقاعد في البرلمان ليس الغاية بل هو وسيلة لتمكين شرع الله تعالى، و عليه ينبغي ألا يرشح إلا من تتوفر فيه المواصفات التي حددتها رابطة الدعوة الإسلامية، كما أن دخول الإنتخابات سيكون تحت عنوان (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) لكونها حصلت على قاعدة شعبية عريضة و سبقت أخواتها الى التأسيس، و وجهت هذه الوثيقة الى قادة الجماعات الإسلامية.
في الدور الأول من التشريعيات التي جرت في 26 ديسمبر 1991 وجد الشاذلي بن جديد نفسه وجها لوجه أمام ( الإسلام هو الحل) باختيار شعبي عبر فيها الشعب عن التغيير الجذري الذي يعني التحول الى الإسلام راديكاليا، كانت استقالة الشاذلي بن جديد تقول الوثيقة لها هدفين: أولهما خلق أزمة لمنع (الإسلاميين)من الوصول الى (الحكم) و حتى لا يقع بين مطرقة الجيش و سندان الإسلاميين خاصة و أن نتائج انتخابات الدور الأول أكدت أن كرسي الرئاسة بات مهددا و أن " الديمقراطية " تُقتل في مهدها، فكان على "الشاذلي بن جديد" إلا أن يختفي عن الأنظار مفضلا سياسية الهروب بعدما قام بحلّ المجلس الشعبي الوطني، ليُحدث فيه فراغا دستوريا حتى لا يخلف مكانه أحدٌ في الرئاسة، و بقي الشاذلي مختفيا عن الأنظار الى حين قدم استقالته التي كانت حسب الجماعات الإسلامية شهادة وفاة الديمقراطية في الجزائر، و من هنا بدأت الحرب الدموية التي كان ينتظرها (الغرب) وهو يقف متفرجا على الجزائريين وهم ينشرون غسيلهم طيلة 13 سنة سميت بالعشرية السوداء، و ربما كانت وفاة الديمقراطية انتصارا للإسلاميين الذين كانوا يرون أن الديمقراطية " شجرة لا تنبت في البلاد المسلمة خاصة بالنسبة لأولئك الذين اعتبروها كفرا (1)
كانت استقالة الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في حد ذاتها أكبر لغز عن مسار الرجل في رئاسة الدولة، منذ ذلك التاريخ يتجادل سياسيون وعسكر وقياديون في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، إن كان الشاذلي بن جديد استقال أم أقيل، ولم يصدر عن الرجل منذ ذلك التاريخ ما يؤكد أو ينفي إحدى الفرضيتين عدا تصريحات قليلة منقولة عنه يذكر فيها: استقلت برضاي التام من دون ضغوط من أية جهة كانت . ابتعد الشاذلي بن جديد عن الأضواء في سنوات التسعينات، كرد فعل على اتهامات حملت الرجل مسؤولية انحراف المسار السياسي وترك الجمل بما حمل دون تحمل للمسؤولية، ثم عاد للظهور مطلع الألفية استجابة لإشارات رد الاعتبار التي بادر بها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لمن سبقوه إلى الحكم، وبات حضور بن جديد إلى الاحتفالية السنوية المخلدة للثورة التحريرية مألوفا إلى جانب علي كافي والراحل أحمد بن بلة.
ولم يشفع للشاذلي بن جديد ابتعاده عن الأضواء في أن يصنع الجدل في محطتين، الأولى قبل سنوات من وفاته لما تحدث في ملتقى حول قائد القاعدة الشرقية (عمارة بوقلاز) وقد نظمت مديرية المجاهدين بالطارف اللقاء، وبرغم اختصاص كلمة الشاذلي في وقائع تاريخية وفقا لمنظوره، إلا أن روايته فجرت جدلا شغل الساحة في تلك الفترة، إلى أن أصدر بن جديد توضيحا مطولا بدأه يقول: ليس من عادتي الرد على ما يكتب حولي وحول فترة حكمي في الصحافة الوطنية. فقد آليت على نفسي التزام الصمت، ليس هروبا من قول الحقيقة، وإنما شرفي كمجاهد وحسي بالمسؤولية كرجل دولة يمنعاني من الخوض في قضايا حساسة تتخذ للأسف الشديد عندنا في غالب الأحيان طابع النقاش العقيم والمهاترات السخيفة وتصفية الحسابات والتجريح .
ولم تكن الجدلية التاريخية لتهدأ إلا وفجر الشاذلي بن جديد سجالا جديدا، يتعلق هذه المرة بفترة حكمه وعلاقته بالإسلاميين ثم مغادرته الحكم، في حوار للصحيفة اليابانية ( أسيان ستاديس( ذكر في ذلك التصريح توقيف المسار الانتخابي: لقد كنت مع استمرار المسار الديمقراطي، لكن أعضاء حزب جبهة التحرير الوطني كانوا خائفين وطلبوا مني إلغاء نتائج الانتخابات وإعادة إجرائها. رفضت ذلك احتراما للدستور وللعهد الذي قطعته عندما أقسمت على المصحف بأن أحترم إرادة الشعب الجزائري. ما هو الرد الذي كان سيقابلنا به الرأي العام الوطني والدولي لو ألغيت الانتخابات؟ كان سيعتقد أن الإصلاحات التي باشرها الشاذلي لم تكن إلا مناورة للبقاء في السلطة. ولهذا السبب قررت التخلي عن كل شيء، قدمت استقالتي احتراما للشعب الجزائري، استقلت برضاي التام من دون ضغوط من أية جهة كانت .
وحمل تصريح الشاذلي يومها رفضا لأن يكون طرفا في أي سجال، بعد أن قرأ في تعليقات على تصريحاته رائحة محاولة الزج باسمه في جدلية السياسة، فقال: حاول البعض أن يوهم الرأي العام بأن الشاذلي بن جديد أراد خلط الأوراق، أو أنه حاول أن يؤثـر على الحراك السياسي الجاري الآن، أو أنه يطرح نفسه كبديل محتمل للخروج مما يسميه البعض أزمة .
آخر ظهور للرئيس الأسبق يعود إلى جنازة الرئيس الأول للجزائر أحمد بن بلة، في 11 أفريل الماضي، وكان متوقعا أن تصنع مذكراته الحدث في الصالون الدولي للكتاب قبل أسابيع، لكن تدهور حالته الصحية، فيما يبدو، دفع عائلته لتأجيل عرضها. ( 2 )
ثانيا : لحظات الاستقالة
يتذكر الجزائريون جيدا في 11 جانفي1992 عندما بث التلفزيون الجزائري في نشرة الثامنة خطاب استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد التي قال فيها بأنه لن يستطيع مزاولة مهامه في الظروف التي ستعرفها البلاد ، ويتذكر الجزائريون جيدا أن ما كان يقوله الشاذلي بن جديد لم يكن نكتة، بل أدخل الجزائر في أزمة . يقول عيسى خلادي ( إطار سابق في الدولة وإعلامي)، بأن الشاذلي بن جديد كان يراهن إثر إقراره التعددية الحزبية التي رافقتها تعددية إعلامية أيضا، أن يتوجه بالجزائر إلى شاطئ الديمقراطية، وبالتالي يكون الشاذلي قد وفى بعهده الذي قطعه أمام الشعب بعد أحداث العنف التي عرفتها مناطق البلاد في أكتوبر88 جراء سوء الوضع الاجتماعي للجزائريين، ويقول خلادي أيضا إن مشروع الرئيس آنذاك قسّم الجزائر إلى قسمين سياسيين، واحد يؤيد التغيير الراديكالي والجذري وهم أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وتيار يمثل الديمقراطيين الذين يريدون نظاما مبني على المؤسسات البعيد عن الصبغة الدينية .
وعند حلول موعد الانتخابات التشريعية في 26 ديسمبر1991 كانت معالم الخريطة السياسية قد اكتملت، وظهر للجزائريين تيار جديد لم تعرفه الجزائر منذ استقلالها في62 واكتسحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ معظم العقول الجزائرية، ويقول في هذا الصدد عيسى خلادي بأن الشعب أراد أن يمشي وراء التيار الراديكالي الذي اغتنم فرصة سياسية لا تعوض من أجل إرساء قطيعة مع النظام السابق . ويشير هنا المتحدث إلى نقطة هامة جدا تثري النقاش حول جدوى استقالة الشاذلي وفتح النقاش حول الأسباب التي أدت إليها، وما إذا كان لم يُدفع دفعا لكتابتها، حيث يقول خلادي لم يكن الرئيس الشاذلي آنذاك معارضا تماما لدخول الجبهة الإسلامية للإنقاذ البرلمان، بدليل أنه كان رأيه أن يمارس صلاحياته ويحل البرلمان إذا أحس أن ( جبهة الفيس) يشكل تهديدا للبلاد بعد الشروع في ممارسة عهدته البرلمانية . إذ يعتبر هذا الكلام أنه إلى غاية إجراء الدور الأول من الانتخابات، لم يكن الشاذلي يفكر في الاستقالة، بل كان مستعدا لإتمام عهدته ضمن العهدة البرلمانية الجديد ، ويقول شفيق مصباح، ضابط سابق في المؤسسة العسكرية، الذي يقول في كتابه الجزائر بين ركود ونهوض إنه غادرها لاختلاف في الرؤى، وأنه لم يختلف يوما مع قيادته حول إلغاء المسار الانتخابي لأن الجبهة الإسلامية للانقاذ كانت تمثل في توجهها حتى قبل انتخابها خطورة على ديمومة مؤسسات الجمهورية، لكن كان الأجدر أيضا بالمؤسسة العسكرية أن تتحمل كامل مسؤولياتها وبشرط هام هو التفاوض مع كل القوى السياسية والحية في البلاد . حتى الفيس وبالرغم من خطورته كما تقولون؟ يجيب شفيق مصباح : بنعم، لكنه يضيف لقد كان تيار داخل الفيس المحل فرصة كبيرة أمام السلطة للتعاطي معه لأنه لم يكن ضد التوجه الديمقراطي للنظام، وكان بإمكانها أن تؤثر عليه، فيؤثر هذا التيار على الفيس، خاصة وأنه كان من بينه شخصيات مؤثرة ومثقفة . أما عن الشكل الذي رحل به الشاذلي، يقول مصباح إن رحيله لا مفر منه وقتئذ، وقد لفت انتباهي فقرة هامة تؤكد هذا الطرح في كتاب سيد أحمد غزالي يقول فيه إن الشاذلي كان في حالة استقالة معنوية منذ أحداث أكتوبر 88 ويعتبر مصباح أيضا، أن المكاسب التي ترتبت عن استقالة الشاذلي في 92 ليست كثيرة وبتعبير دقيق يقول : لم نحقق ما كان يأمله الشعب الجزائري، ومع ذلك أيضا لم تسقط العقيدة السياسية وروح الجمهورية كلية واستعادت بعضا من أجزائها .( 3 )
ثالثا : قادة 11 جانفي 1992 :
اليوم ونحن على مسافة أكثر من عشرين عاما عن لحظة الحادي عشر من جانفي 1992 تغيّر المجتمع والمشهد السياسي بشكل كامل وكانت مصائر صانعي الواجهة السياسية للبلاد في ذلك الوقت مختلفة. لعل أبرز وجوه 11 جانفي على الإطلاق هو الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، الذي ظهر في نشرة ثانية تلك الليلة وهو يعلن استقالته ويسلمها مكتوبة إلى رئيس المجلس الدستوري عبد المالك بن حبيلس، والشاذلي بن جديد الذي دخل في مرحلة صمت طويلة ولم يغادر البلاد لم يعد يظهر إلا في بعض المناسبات الرسمية، وفي الوقت الذي يستعد فيه في شهر أفريل 2011 للاحتفال بعيد ميلاده الثاني والثمانين كان قد كتب مذكراته الذي حررها الكاتب الصحفي عبد العزيز بوباكير ولم ينشرها بعد. أما رئيس المجلس الدستوري حينها عبد المالك بن حبيلس، فقد ابتعد عن الأضواء عند انتهاء عهدته على رأس المجلس وانسحب من المشهد السياسي نهائيا . فيما وزير الداخلية حينها (العربي بلخير)، فقد ذهب مرة أخرى إلى الظل ليعود إلى رئاسة ديوان رئاسة الجمهورية ثم أصبح سفيرا في المغرب قبل أن يجبره المرض على ترك منصبه، ووزير الدفاع (خالد نزار) الذي أصبح عضوا بالمجلس الأعلى للدولة، انسحب هو الآخر من المشهد عندما سلم وزارة الدفاع للجنرال (اليامين زروال) رئيس الجزائر لاحقا، وظل على غير عادة السياسيين الجزائريين يصنع الحدث بكتاباته وتصريحاته المثيرة، ويظهر الآن كاتبا لشهادة دور الجزائر في حرب أكتوبر 1973 ، أما رئيس البرلمان الذي تفاجأ بحل مجلسه وهو يشاهد نشرة الثامنة في 17 جانفي 1992 فتحوّل بعدها إلى المعارضة ضمن جبهة تحرير (عبد الحميد مهري) ، ليصبح واحدا من أشد المدافعين عن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وتولى وزارة الخارجية ورئاسة الحكومة في عهده ومازال وزيرا للدولة ممثلا للرئيس بوتفليقة لحد الآن.
و11 جانفي 1992 الذي لم يكن يوما عابرا في تاريخ الجزائر المعاصر، كان لحظة دخول إلى محنة دموية عنيفة حصدت أرواح حوالي 200 ألف جزائري، كان ضمنهم بعض صانعي مشهد ذلك الوقت منهم (محمد بوضياف) رئيس الجزائر بعد الشاذلي بن جديد، الذي جاء على رأس المجلس الأعلى للدولة، وأبو بكر بلقايد وزير الثقافة والاتصال الأسبق وعبد الحق بن حمودة الأمين العام للنقابة المركزية وعبد القادر حشاني رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد اعتقال عباسي مدني•
الشاذلي بن جديد أحس بأنه موجود في السلطة كرهينة لمجموعة من المسؤولين في جبهة التحرير الوطني، التي تسببت في حبسه إثر أحداث أكتوبر88 حيث كان بطنه مفروما ، وهي الالفاظ التي كنت كتبت حرفيا في افتتاحية يوم 4 ديسمبر 1988 لاحدى الجرائد الجزائرية، وكانت جماعة من الأفلان تخشى في تلك الفترة تطورات الانفتاح السياسي الذي لا مفر منه، لقد أبلغ الشاذلي المؤسسة العسكرية بنيته في الرحيل من الحكم على خلفية التناحر الذي كان يحدث داخل الحزب، وكان محاوروه قد اشترطوا عليه قبل الرحيل التريث إلى غاية التفكير في حل، وكان محور الحل إيجاد الرجل المناسب، وبعد تأخير الاستقالة لمرتين متتاليتين، قرر الشاذلي الرحيل بطريقة تعطي الانطباع بأنه أقيل ولم يقل، بينما في الحقيقة كانت استقالة بعد تفكير ملي . وقد كان من الأجدر بشخصين أن يجيبا على هذا اللغز هما الجنرال خالد نزار وعبد المالك بن حبيلس رئيس المجلس الدستوري. والمأمول الآن، أن تكون مذكراته أو كتابه يلقيان الضوء على كثير من نقاط الظل بخصوص مسيرته على رأس الدولة.( 4 )
رابعا : الشاذلي بن جديد بعد الاستقالة
بعد يناير/كانون الثاني 1992 ابتعد بن جديد عن الحياة السياسة. في أواخر 2008، ظهر بن جديد عندما ألقى خطابًا مثيرًا للجدل في مدينته الأصلية الطارف. ومنذ أن تقاعد، افتتح بن جديد مسلخا في فينسبري بارك، لندن حيث تستقر جالية جزائرية كبيرة هناك .
اعتزل الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد السياسة نهائيا منذ استقالته الشهيرة مطلع التسعينيات، تاركا وراءه كثيرا من الألغاز يتجادلها من عايشوه من سياسيين وعسكريين حتى وفاته. ( 5 )
لم يسبق لبن جديد منذ ذلك التاريخ أن دخل سجالا سياسيا ردا على اتهامات تلاحق فترة حكمه أو شارك في نقاشات سياسية، ولم يكد يظهر إلا في مناسبات قليلة استجابة لدعوات خاصة من الرئيس بوتفليقة في ذكرى الثورة التحريرية .
توفي يوم السبت 6 اكتوبر 2012، الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد عن عمر ناهز 83 عاما، في مستشفى (عين النعجة العسكري) بالعاصمة الجزائرية حيث كان يرقد في قسم العناية المركزة إثر تعرضه قبل أيام لأزمة قلبية حادة (6 )
مراجع
1ـ علجية عيش ، الفجر نيوز، 12 - 09 – 2009م.
2 ـ عاطف قدادرة ، رفض الأضواء منذ غادر الحكم لكن تصريحاته خلفت الجدل اعتزل السياسة وترك للساسة والعسكريين السجال ، جريدة الخبر، الجزائر، الأحد 07 أكتوبر 2012
3 ـ 18 سنة بعد استقالة الشاذلي ... لغز السبب لا يزال في حاجة لاجابة ، الجزائر نيوز الاحد 10 يناير 2010م.
4 ـ الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذمة الله عن عمر يناهز 83 سنة ، الشروق أون لاين، 6/10/2012 م .
5 ـ أ ب "Black October" Riots in Algeria 1988. accessed 2011-09-12.
6 ـ الأشباح الثوريون ،أسبوعية الأهرام المصرية، 31/12/2008م .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحة وقمر - قمر الطائي تجرب التاكو السعودي بالكبدة مع الشيف ل


.. لحظة تدمير فيضانات جارفة لجسر وسط الطقس المتقلب بالشرق الأوس




.. بعد 200 يوم.. كتائب القسام: إسرائيل لم تقض على مقاتلينا في غ


.. -طريق التنمية-.. خطة أنقرة للربط بين الخليج العربي وأوروبا ع




.. سمير جعجع لسكاي نيوز عربية: حزب الله هو الأقوى عسكريا لأنه م