الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف ندافع بنحو صحيح عن التفلسف الخلَّاق ؟

علي المدن

2016 / 4 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يمكن أن يخرج القارئ لمقال الخيّون(*) بأكثر من تصور حول تقييمه لكتاب "فلسفتنا" ودوره في الصراع الفكري والسياسي في العراق، ويمكن أن أتفق معه أن الكتاب تحول إلى كتاب "عقيدة" أكثر منه كتابا في التفلسف الحر المفتوح، وربما يصح الافتراض أن هذا كان أساسا الهدف الرئيسي للكتاب. أما عن وقوف "فلسفتنا" أو "مؤلفه" وراء صدور فتاوى تحريم (وليس "تكفير" كما يذهب الخيون) الانتماء للشيوعية باعتبارها (كفرا وإلحادا) أو (ترويجا لهما) فليس من المستبعد أن يلعب الكتاب هذا الدور، هذا إنْ لم يكن هو الاحتمال الأرجح؛ نظرا لحجم الشهرة المدوية التي حصل عليها الكتاب حين صدوره وما رافقه من سطوعِ نجمِ مؤلفه وتنامي دوره بنحو كبير جدا داخل الأوساط الحوزوية.
وبالرغم مما قلت عن طبيعة علاقة الكتاب بالتفلسف فإن دوره في دفع الكثير من المتدينين التقليديين إلى دخول أجواء النقاش العقلي كان إيجابيا إلى حد كبير، بل إنني لا أعرف كتابا أنعش الجدل الفلسفي في الأوساط العامة والخاصة بقدر هذا الكتاب.
هذا، إلا أن مرافعة الخيون الأساسية حول الكتاب وكونه (ليس مشروع فلسفة أو نقضاً فلسفياً) ضعيفة، ليس فقط لضعف حجته القائلة بأن من لم يطالع الأفكار بلغتها الأم فهو غير قادر على نقضها، بل ولأنه لم يدلل "فلسفيا" على رأيه هذا، أعني أنه لم يقم بتحليل أبحاث الكتاب وصلتها بالفلسفة ليحكم عليها، ناهيك عن البرهنة على فشل الصدر - بحسب رأيه - في استيعاب مسائل الفلسفة الغربية بسبب نقص معرفته باللغة. وفي نظري أنه لو وضع الكتاب في سياقه الطبيعي فإن الحكم عليه سيكون مختلفا .. وأقصد بالسياق الطبيعي هنا: الهدف الذي كتب الكتاب من أجله والأفكار التي ناقشها والأجواء الفكرية التي ينتمي إليها.
فالكتاب جاء في زمن صعود الماركسية اللينينية وطرحها كفلسفة، وكانت الغاية من تأليفه غاية إيديولوجية كما أوضح المؤلف في مقدمته، أي أن الكتاب و"ما نقد" ينتميان إلى عالم المذاهب الفكرية الشمولية، وليس مجرد آراء فردية يتفلسف فيها الكاتب، في هذه المسألة أو تلك، بنحو مستقل. إن كل واحد منهما ينتصر لمسبقاته ويقيم الحجج على بطلان أفكار خصمه. وكما نعلم فإن النقاش الفلسفي خارج التقاليد الليبرالية سرعان ما يتحول من كونه مجرد (مواقف وآراء) إلى (عقائد) .. ولقد كان "فلسفتنا" صراعا (كما عبر المؤلف في عنوان الكتاب الفرعي) بين عقيدتين، أو بين تصورين لعقيدتين: تصور عقائدي ماركسي- لينيني، وتصور عقائدي إسلامي. وبالمقدار الذي كان التصور الماركسي متناسقا فإن التصور الفلسفي الإسلامي الذي انتصر له كتاب فلسفتنا متناسقا هو الآخر، وأيضا كما يختلف البعض حول كون الماركسية اللينينية فلسفة بالمعنى الحديث والحرفي للكلمة، يوجد الخلاف عينه حول بعض مسائل كتاب "فلسفتنا"، وما المادية التاريخية إلا المقابل الإيديولوجي للمفهوم التيولوجي الذي أسماه المؤلف ب (المفهوم الإلهي للعالم)، إنه نقاش في اللاهوت، أو في شكل من أشكال فلسفة الدين، يخدم - قبل أي شيء - أهدافا عقائدية.
إن فهم أهداف كتاب بحجم "فلسفتنا" وتقييم ما ورد فيه من أفكار يجب أن يبدأ من موضعة هذا الكتاب في سياق فهمه "للماركسية" التي جاء لتقويض مقولاتها، وعليه فإن السؤال المهم هنا، هو: ما هو المدخل الذي قاد "فلسفتنا" للماركسية؟ ماذا وجد الصدر في الماركسية ليناقشه؟ كيف تمثّلت له؟ نحن نعلم أن مداخل فهم الماركسية مختلفة، فالبعض نفذ للماركسية من باب العلم، والآخر من باب التاريخ، وثالث من باب الاجتماع ... إلخ، وفي كل مرة يحدد المدخل طبيعة النقد ومنهجه. فمثلا وجد بوبر في الماركسية تهديدا جديا للحريات تحت ذريعة قوانين الحتمية التاريخية، وانخرط في كتابيه "عقم التاريخانية" و"المجتمع المفتوح وأعداؤه" في نقد إيبستمولوجي وسياسي/اجتماعي لذلك، في حين أن الصدر وجد في الماركسية "تقويضا للايمان"، وكان يخوض نقاشه الإيبستمولوجي من أجل تبرير عقلانية الإيمان الديني دون أن يقف طويلا عند مشكلة الحريات أو "الإطار المغلق" - بحسب الاصطلاح البوبري - في الفلسفة السياسية والاجتماعية للماركسية. هذا، وما كانا ليفترقا (بوبر والصدر) في نظرتهما هذه لولا اختلاف قناعاتهما الفلسفية المسبقة حول شكل الحياة الاجتماعية الأفضل، فالماركسية في العلم وفي التاريخ، عند بوبر، نظرية زائفة، وفي الاجتماع والسياسة، نظرية شمولية ديكتاتورية. والأمر مختلف عند الصدر الذي لم يكن معنيا في "فلسفتنا" بالماركسية كنظرية في العلم، ولم يكن يشكك معرفيا في فكرة وجود قوانين للتاريخ، ولم يقلقه مصير الحريات (الاجتماعية والسياسية) بقدر مصير "الإيمان" و"العدالة الاجتماعية".
يضاف إلى ما تقدم نقطة مهمة أخرى في مجال المقارنة بين النقد البوبري والصدري للماركسية، تتعلق برؤية كل منهما لمكانة الماركسية في تاريخ الفلسفة، فهي لدى الصدر تمثل "خلاصة" التفلسف الغربي، التي من خلالها، وبواسطتها، يتم مراجعة جميع المواقف الفلسفية الأخرى ونقدها في سلة واحدة، في حين أن بوبر (وهو رائد اتجاه مستقل في الفلسفة هو اتجاه "العقلانية النقدية") كان يتعاطى مع الماركسية بنحو تفكيكي، فينقد مشكلة هنا ومشكلة هناك، أما موقفه العام من المعرفة والفلسفة فلا يستقيه من الماركسية نفسها، بل يحدده تموضعه كفيلسوف في تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة وأشكالياتها ومناهجها.
إن مقال الخيون يغفل هذه المقارنات، وهذا ما أوقعه في تبسيط كبير لشكل ونوع التفلسف الذي ينشغل به كتاب "فلسفتنا"، لا سيما وأنه ترك موضوع "تعريف التفلسف" شاغرا، ولم يوضح ما يفهمه من كلمة "فلسفة" التي تعد بحد ذاتها مشكلة مختلفا عليها وتتجاذبها تيارات فكرية عديدة تبعا لرؤية كل فيلسوف في المعرفة. لقد تجاهل السيد الخيون تلك النقاشات الابستيمولوجية الموسعة في "فلسفتنا" حول مصادر المعرفة وقيمتها وأدواتها، والتي تمثل في الواقع لحمة الفلسفة وسداها، تحت ذريعة أنها "ردود" وليست "فلسفة"، وليت شعري هل الفلسفة إلا التفكيك والرد، والتحليل والتقويض، وإثارة الأسئلة وأشكلة المفاهيم؟!
يقول الخيون: (وظني يبقى راسخاً: لو قُدِّر لمؤلفه أن يعود للحياة لأعاد النظر فيه)، وأنا أقول: إننا لسنا بحاجة لعودة مؤلف "فلسفتنا" للحياة حتى نتيقن من إعادة نظره فيما ورد في كتابه هذا، فقد فعل ذلك، وبنحو جذري، في حياته منذ بداية عام (1965)، أي بعد صدور كتابه "فلسفتنا" بستة أعوام، وقبل أن يرى السيد الخيون - أول مرة - كتاب "فلسفتنا" بعقد كامل. أما ما هي طبيعة تلك "الإعادة النقدية" التي قام بها الصدر، وعلى أي مستوى، وفي أي قضية؟ فهو ما نتركه للسيد الخيون أن يكتشفه بنفسه عند مراجعته لكتاب "الأسس المنطقية للاستقراء".
في الختام لا أريد أن أختلف مع السيد الخيون حول بشاعة التوظيفات السياسية للأفكار والكتب الفلسفية، وأهمية تعريتها وفضحها، خاصة وأننا نعرف أن السياسيين لا يهمهم من ذلك إلا الدعاية وإضفاء الشرعية ودغدغة عواطف الجمهور، لكني مع ذلك لا أجد هذا سببا كافيا لكي يُستفز باحث بمستوى الأخ رشيد الخيون فيقول إنه ما كتب مقاله المذكور إلا بعد أن وجد (أمين حزب "الدعوة" وبعض الأعضاء في قيادته) يتحدثون عن كتاب "فلسفتنا" وكأنه (بنيان فلسفي)، في حين أن عليهم النظر إليه كـ (مجرد رد، يأخذ في العديد من نصوصه موقف العناد بجملة مقابل جملة). ففي رأيي أن هذا الحكم العنيف واللاموضوعي من السيد الخيون على كتاب "فلسفتنا" سوف لن يساعد على إحراج السياسيين والرد على أوهامهم المغرضة، بقدر إساءته لأصول النقاش العلمي التي يفترض بالسيد الخيون أن يكون حريصا عليها. لقد كان هذا رداً، وعليه فهو ليس فقط "لا فلسفة" بحسب الخيون، بل و"لا علميا" بحسب رائد العقلانية النقدية؛ وذلك لأنه رد يمتنع تكذيبه.
إننا لن نختلف أيضا حول ضرورة تهشيم الأصنام مهما عظمت، رجالاً كانت أو كتباً أو أفكاراً، ولكنّ السؤال هو هل يفي النقد على شاكلة ما كتبه الخيون بهذه المهمة أم يزيدها رسوخاً؟! طيب إن كان "فلسفتنا" رداً، وما كتبه السيد الخيون رداً، فهل قدرنا أن نبقى ندور في دوامة "الردود" إلى الأبد؟! إن الخيون يأخذ النقاش إلى غير وجهته الصحيحة فيبقينا في نفس أخطاء المراحل السابقة، وهذا تحديدا ما لا أجده صائبا، ويهمني تجاوزه.

***
(*) ("فلسفتنا" .. ردودٌ لا فلسفة)، رشيد الخيون، نشر في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية بتاريخ 27 - 4 - 2016 (ع 14904).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س