الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بستان الليل

رحمن خضير عباس

2016 / 4 / 29
الادب والفن


بستان الليل
رحمن خضير عباس
يعتكف الشاعر كاظم مزهر في صومعتة الليلية . يبتهل أو يتأمل أو يصمت أويناجي النجوم ، وكأنه إمتداد لهذا الوله المتجذر في الليل من قبل الشعراء ، منذ امرؤ القيس . وكأن الليل توأم للشعر ومكمن أسرار الشعراء الذين وجدوا فيه فسحة من التأمل وخلوة مع النفس . يتحول هذا الليل الى كابوس من الوحدة والشقاء لدى البعض منهم ، أو فرصة للصفاء الروحي لدى البعض الآخر . ولكن الشاعر كاظم مزهر لم يمر على الليل مرورا عابرا ، بل كرس كل مجموعته الشعرية (بستان الليل) لهذا الوهج الليلي ، محاورةً ومجاورةً ومناجاة .محاولة الحلول في عتمة الليل لتهجي الأبعاد الروحية له، والإطلالة من نافذته على فوضى الحياة التي تتوهج فور بزوغ فجر يوم جديد .
ومن المفيد أنْ نذكر ان هذه المجموعة هي الثانية للشاعر بعد مجموعته الأولى (ما لا ينطق...تحكيه القسمات)والتي أصدرها عام2011 .وله مجاميع شعرية مشتركة .
في توطئة المجموعة ، يجعل الشاعرُ الليل قاعدة للنهار ، كما يجعله إنعكاسا للرغبات والأوضاع ، إنه ليل يطاوع من يواجهه ويصمد بوجهه ، ولكنه سيسحق من يضعف أمامه . وكأنه بذلك يلقي على الليل كل مايرمز اليه من مجهولية وقسوة
" الليل مرساة لإبحار النهار
الليل مرآة كما شئت تدار
إيّاك أنْ تبدي انشطارك فالرؤى عصف
وهل يلتمُّ في العصف إنشطار "
ولعل هذه التوطئة قد منحتنا مدخلا لكيفية تفاعل الشاعر مع ثيمته ، ومدى تشظيه في رحاب الليل ، ورغم أنه استخدم مفردات معينة وشائعة في قاموس القهر والإرهاب الذي يتلظى به العراقيون مثل العصف والإنشطار وهذا ما أثقل القصيدة بالوجع الذي يترسب في وجدان الضحية التي مانفكت تواجه جلاديها الى حد النزف .
وإذا كانت النهارات واضحة ومتشابهة فان الليالي تختلف ليس في أشكالها وألوانها وأمزجتها ، بل حتى في انعكاساتها عليه ، التوجس من الليل والقلق فيه ، فهو جحيم يحمل الرعب وعدم الثقة حتى ينتفي الوجود فيه وتتلاشى النفس البشرية، إنها العتمة الروحية التي لن تستطيع أقمار الليل إضاءتها ، وحتى الأحلام التي هي وسيلة الإنعتاق من الواقع تكون اسيرة ظلمة الليل الحالكة . وإذا أردنا أن نتأمل ما أسبغه الشاعر على الليل ، نجد لأنفسنا عذرا في البحث عن الرمز بين عتمته وإشراقه ونجومه وأقماره وبين سكونه وقلقه . ذلك لأن شاعرنا قد أزاحه من تكوينه الزمني ، وجعله كائنا يمتص الآهات ويخفيها ، يستجيب للمشاعر ، يفرح ويحزن ويشاكس ويستكين ، مما جعل هذا الليل ينوء بحمولة رمزية ، تحمله قصائد المجموعة التي حفلت بعلامات التشفيرالتي يستطيع القاريء تفكيكها ، او أحيانا يظل حائرا في متاهاتها .
في قصيدته (بستان الليل) ينأى الشاعر كاظم مزهر عن الآخرين في موقفهم من الليل أو نظرتهم اليه . ثمة روابط تجعله معلقا في بستانه ، حتى أنه يعلن القطيعة مع العابرين في نهاراتهم ، يعلن القطيعة عن الوجوه" التي تتقافز مثل ضفادع " حتى يمارس طقوسه في سكون حيث
" لاتمرد للنوافذ ،
والأبواب قد سرّحت حجّابها
فاقترف ولوجك الصوفي في حضرة الضوء .."
وفي هذه القصيدة ثمة ما يوحي بانه يخاطب ذاته التائهة والمضطربة ويستدرجها أنْ تعلو على كل عوامل الإحباط التي تشكل بمجملها عوامل صادمة لمشاعره التي تريد أنْ تحلق بعيدا نحو الغايات السامية .
ورغم أن الشاعر يوغل في تشابك الأضداد ، ويوغل في البحث عن مقتنياته التي أضاعها في هذا المجال الحياتي المحيط به . وفي كل ذالك فهو يطمح الى السمو دائما . رافضا طريق القاع ، رغم سهولته .
"خذ مَسحةً لترشيح إرتباك المسافة المباغتة
حينها..لاقعر يتمرد على سطح اللوحة .."
في (طائرة الليل) كان الشاعر أكثر وضوحا في رصد الواقع المؤلم الذي ترصده ،وهو يعلو في طائرة الحلم الليلي ،حيث لايحمل سوى حقيبة مثقلة بهموم اللحظة وحروب الكون والهزات البشرية . انه هارب في لحظة حلم تستدرجه الى بؤس الحقيقة المرة ، حيث أطفال أنابيب النفط وفساد الساسة وعهر الإعلام . لم يبق له سوى ان يتحرر في أحلامه الطائرة من رأسه المثقل بالحنين ، ومن حقيبته التي تحمل كل تركات السنين الماضية.
"للرحيل على متن طائرة الليل
دع الحقيبة في أرض المطار
رأسك حاول أن تلقيه من نافذة شاهقة
لتنام عميقا قبل هبوط آخر "
في قصيدة( أجوس وجوه الليل) تبدأ القطيعة العاطفية بين الشاعر وليلهِ . فقد خاطب الليل بياء النداء . مما يوحي بنوع من التأزم ، فقد أبرز لهذا الليل وجوها مختلفة . فالليل كالح السواد ومتعدد الزوايا . وهو جبار له زبانيته وله كلابه المتوحشة . وهو واسع تدثره السماء ، تتكسر فيه الأسئلة ولاتكفيه المعاني . كما أنه صندوق للخيانة ..الخ من النعوت التي رماها الشاعر على الليل ، وجعله بؤرة لعذاب الناس . ورغم أنّ الصور المتناثرة التي حفلت بها القصيدة ، تشظي المدلول الرمزي لسطوة الليل وسلطته وقدرته الكبيرة على إجتراح ما ذكره الشاعر من موبقات وشناعات . ومن خلال هذا الفيض من الصور المتناثرة والمتباعدة أحيانا ، يجعلنا نعتقد أنه وظّف الليل بشكل مغاير للصورة المألوفة عند الشعراء ولاسيما الرومانسيين منهم ، والذين يجعلون من الليل مخزونا لأسرارهم ، يتغزلون به ، ويبتهلون في محراب صمته . اما الليل هنا فيمارس أدوارا غير مألوفة ، فهو ليل عابري الحدود ومدبري المكائد والقتلة والزناة واللصوص
"أيها الليل ، ياصندوق الخيانة المزجج بالكتمان
تتدلى المواعيد المزنرة بالخشية
من هامة صمتك الى أخمص السقوط "
ومع هذه اللغة الحادة التي بدأها النص وهو يكيل كل النعوت لهذا الليل ، لكنه النص يستكين قليلا ويبدا بنبرة محايدة ، حينما ينتقل الليل الى اللوحة فتبدو ملامحه مختلفة ، وكأنها قد انعكست على اللوحة . ولكن لِمَ تظهر صورتها في هذه اللحظة المشحونة بالغضب والإحباط ؟ صورة للمرأة المشتهاة ، حيث عيناها قارورتا نبيذ وخدها مخضلُّ بالندى . أهو الوهم أم الحلم أم الهرب من الرعب الليلي الى البحث عن بديله ؟ لكن الشاعر له رأي آخر :
" مازلت أبحث في الزوايا ،عن ظلك المدفون في الليل الرطب
وأنظر في آخر دمعة تسكعت في صورالجدار
تلك التي تشربها الهواجس في كؤوس القلق ."
في الليل تتحرر الروح عادة من مشاغلها ، تعتكف على ذاتها للتأمل أو الحلم أو الراحة ، حيث التوحد الذاتي للكينونة الإنسانية التي تصبو الى السمو . وللشعراء حكايات لاتنتهي مع الليل .ولكل واحد منهم تجربته . فعند الفيلسوف والشاعر الهندي طاغور ، يمتزج الليل بنزعة صوفية خالصة حتى حد التلاشي .بإعتبار أنّ الليل وجود وهمي ذو قيمة تجريدية .حيث يتداخل الزمن مع الذات ويتناغم معها ، وعليه يمكن القول : إنّ الإحتفاء بالليل هو إحتفاء بالذات .
ففي قصيدة (الموت ولادة) يتأمل الشاعر ليلته الرائقة والصافية العتمة ، حيث لاغبار ولاغيوم . يرسم لنا قمرا مضيئا لامعا ، ويصف النجوم بوداعة ،وكأنه شاعر رومانسي يدغدغ سهرته المسائية . ولكنه حينما يلج الى توصيف هذه الظواهر ، يقع في تشبيهات تسحبه الى قاع الحياة الفاقعة اللون والفاقدة الحياة . تلك القاع التي تلازمه حتى في لحظات الصفاء الروحي ، والوله بالجمال والطبيعة . انه ينصاع الى مايؤرقه كشاعر ملتزم ، فيصف النجوم الجميلة كالزمر والطوائف التي تلتف على عنق الواقع المعاش ، او يصف النجوم المتباعدة بتظاهرة يفرقها العسكر ، ومع أن التشبيهات غير موفقة من الناحية البلاغية ومن ناحية جمالية وحدة النص . ولكن الشاعر يقنعنا بان هذه الظواهر ليست منعزلة عن النظرة التأملية التي تتعلق بمسالة الحياة والموت ، والفعل ورد الفعل والخطأ والصواب ، وهنا تكمن عملية الجدل بين الأضداد وصراع التناقضات .
" القمر ذاته ، أعرفه منذ طفولتي
وأبي الذي توفى ، لم يحدثني عن قمر آخر
ولم يؤثر عن جدي أن رأى قمرا سواه
القمر لايموت ، ولذلك لايولد قمر آخر "
يشكل الليل مزيجا من التوترات العاطفية ، التي تلازم البوح الشعري ، ففي الليل تستعر الرغبات العطشى الى القرين الروحي المتمثل بإمرأة ، قد تكون زوجة او حبيبة ، بإعتبارها تمنح الشاعر رحيق الحاجات الإنسانية بأبعادها العاطفية والجسدية . وفي حالة الحرمان من تلبية تلك الحاجات ، يبقى الإنسان أسيرا لمشاعر شتى من الحنين والقلق والعطش الجنسي . ولكن الشاعر كاظم مزهر قدم لنا قصيدتين في هذا المضمار . أولهما قصيدة (ليل إمرأة لم تأت) فيشبه تلك الليلة بالقاتمة والحزينة .لأن المرأة التي يُفترض أن تملأ ليلته تلك قد تأخرت عن المجيء لسبب لم يذكره . وبعد أن عانى تجربة الإنتظار المؤلمة ، أحس بتلك الهزيمة الروحية ، والتي انعكست على كل ما يحيط بها من لهفة الإنتظار . وسواء كانت التجربة واقعية او من خيال الشاعر ، فانها أدخلتنا معا في أجواء من التوجس والوحدة والقلق والحزن العميق ، حتى يصل الأمر الى الجنون
" أعلم أنَ عيون الترقب
حين تفتش عن غائب لايأتي ، تصاب بهلوسة دمع قاتم "
لقد إنعكس فعل الغياب على رؤية الشاعر لهذا الليل الذي بات مختلفا عن غيره ، مع أنه كان يعايشه ليلة بليلة . مما يوحي بأنّ الليل هو وجود وهمي ، تتداخل الرغبات والعواطف والظروف في تشكيله الذهني .
أما في قصيدة ( ليل إمرأة لم أذهب إليها ) فتختلف الصورة . حيث قدم لنا شعورا يتناقض مع الصورة الأولى . فقد إنشغل بنقل التوترات النفسية التي إنعكست على تلك المرأة التي خذلها عدم حضوره . فهو يتخيل هواجسها وقلق إنتظارها ومكابرتها بعدم الإكتراث .وكانت فرصة للشاعر أن يغوص في عوالم الآخرين ، ليستشفّ الآثار الحزينة التي يتركها الهجر بمعناه العاطفي . هذا الإستشفاف يجعله في محاورة مع الذات مرة ومع وهم التخيلات مرة اخرى:
" هكذا أرمم بحضرتك إنكساري
وألوّح لهزيمتي بانتصار متخيل، كحلم يقظة
وربما أنت الآن، ودون كوابيس ، ترقدين
غير عابئة من غاب ، من حضر "
هذه بعض الرؤى التي إقتطفتها على عجالة من بستان الشاعر الجميل كاظم مزهر . ذلك البستان الحافل بالقيم النبيلة وبالمشاعر الإنسانية الثرية والتي أشاعها عبر قصائده الصادقة والنابعة عن روحه المتعطشة للتحرر من هول واقع مر ابتلى فيه أبناء هذا الجيل . لقد عبّر عن وهج الحرف الذي يتمرد على هذه السحابة الداكنة من الجهل والتعصب التي تحيط بنا .
انه الشاعر الذي اراد أن يرى:
" وأنا عينان ترودان
زوايا طفح فيها وطن قاحل " .
أوتاوة/كندا











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا