الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خابية الكنز المفقود 8

نعيم إيليا

2016 / 4 / 30
الادب والفن


هَبوبٌ شمالية شرقية لا غاضبة ولا باردة. ولكنها، مع ذلك، تزعق غباراً دقيقاً، حيث يكون الطريق مترباً، يسفع عينيَّ الطفلين ويرتكم فوق رأسيهما. الشمس تحث خطاها حثاً نحو المغيب عجلى على غير توقع وانتظار. طيور دكناء في جوز الفضاء المحمر، تتدلى رؤوسها المدببة إلى الأرض مستطلعة مستكشفة، أجنحتُها منبسطة على امتداد، ثابتةٌ ليس لها اختفاق. الطريق مقفر ليس يعبره من الإنس عابر، قد أطبقت عليه وحشة ثقيلة كالهمّ، ليس يؤنسها إلا خشخشة حشرات زاحفة، وصرير أخرى طائرة فرادى أو في جماعات. فأما الضيعة، فبدت لها وكأن الوصول إليها أمنية طروح بعيدة المنال.
ما من شيء يخيف جدتي. ولكن الظلام يخيفها! ينهش قلبها قلق وجلٌ وهي ترى النهار يحتضر، ولا ترى للضيعة من أثر يدل على اقترابها منها.
بكت خالتي الصغيرة فجأة، انطرحت على الأرض وسط الطريق متوجعة. كانت شوكة قد شاكت كاحلها الأيمن المتشقق، وانغرزت فيه عميقاً وانكسرت. توقفت جدتي عن السير. قعدت أمامها، وعالجت الشوكة بأظافرها حتى أخرجتها. وعوعت الرضيعة (أمي) وعوعة جرو ذئبة، فأنزلتها من على ظهرها إلى حضنها وألقمتها ثديها ثم أعادتها إلى مكانها بعد أن نامت. سقت ولديها ماء، وزعت عليهما تيناً حبتين لكل منهما. وإذ لاحظت أن عيني ابنها اشتد احمرارهما، صبت قليلاً من الماء في راحتها المضمومة، ورطبتهما به، ثم تابعت السير. كان التعب بلغ من ولديها مبلغه حتى خشيت أن يتذمرا من أثره فيهما، ويقودهما التذمر إلى الاستهانة بما كانت تمنّيهما به حال وصولهما إلى الضيعة؛ فيتلكّآ عن السير. ولكن خشيتها لم تكن في محلها. إنهما على صغرهما، كانا مدركين بحاسة استشعار الخطر التي للأطفال، أنه من الخير لهما أن يغالبا التعب، أن يتصديا له ببسالة، أن ينتصرا عليه بمجاراة أمهما في السير خفافاً، على الرغم من أن الطريق بدا لهما أيضاً طويلاً طويلاً بلا نهاية.
وهي في ذلك، إذ لاح لها راكب على ظهر مطية في بطن الوادي الذي كانت بلغته في التو. فإذا قلبها، يرقص من المفاجأة السارة. ولكن جدتي لم تصدق عينيها من الوهلة الأولى، خيل إليها أنها في حلم يقظة. فهتفت بابنتها كي تستوثق من صدق ما ترى:
- انظري إلى الأسفل يا ابنتي، انظري إلى قعر الوادي، ماذا ترين؟
أجابت خالتي:
- أرى شخصاً راكباً على حمار.
وتساءلت خالتي على الفور مستغربة كيف لا ترى أمها الراكب وهو واضح للعين:
- ألا ترينه!؟
وانتبه خالي في هذه اللحظة، صاح وهو يظلل عينيه بكفه محدَّاً بصره:
- وأنا أيضاً أرى شخصاً راكباً على بغل، كيف لا ترينه يا أمي!؟
- على حمار، على حمار...
أصلحت خالتي خطأه، ثم أردفت وهي تلوّي رأسها باستنكار كما يفعل من هم أكبر سناً منها بكثير:
- ألا تبصر الفرق بين الحمار والبغل!؟
قال خالي باستسلام من غير عناد:
- إي، هو حمار ولكنه يشبه البغل.
- الضيعة يا أولاد...! (صرخت جدتي) الضيعة! ألم أقل لكما؟ ألم أقل لكما إننا بتنا على مشارفها؟ ها هي ذي أخيراً، لك الشكر والحمد يا ربي! هيا، أسرعا كي نلحق بالراكب، أسرعا...
ولكنها في اللحظة التي أحست فيها أن الراكب على حماره لم يبصر إليها، أو أبصر إليها ولم يعنِه من أمرها شيء، فها هو ينحرف بلا اكتراث عن الطريق لينعطف يميناً خلف التل الصخري، استولى عليها ذعر مفاجئ! قدرت جدتي أن الراكب سيحتجب عن نظرها خلف ذاك التل، ويمضي في طريق لن تستطيع أن تدركه فيه. ولكنها سرعان ما انتفضت من حالة الذعر، وصرخت ملء رئتيها صرخة قوية داوية، نفذت في صدوع الوادي، وتردد صداها جلياً في شعبه الفسيح. وطفقت تلوح بذراعها وتوسع خطواتها على منحدر الوادي توسيعاً شارف على الهرولة. ولولا وجود أمي على ظهرها، لعدت عدواً لا تبالي بعثرة ولا انزلاق:
- آمُو، آمووو... (يا عم، يا عم...)
ولم تكن صرخة جدتي نداء عادياً. كانت صرختها نداء استغاثة، كانت طلباً ملهوفاً لمعونة عاجلة ملحة. وهي إذ صرخت صرختها تلك " آمو..." لم تكن تعلم بعد إن كان الراكب شيخاً، أو كهلاً، أو شاباً، أو غلاماً، ولا تعلم أيضاً إن كان رجلاً أو امرأة.
تجمد الحمار في مكانه. وتقدمت نحوه جدتي، أضحت على مقربة منه. عندذاك تبينت لها حقيقة الراكب. لم يكن الراكب شيخاً ولا كهلاً، ولا شاباً، ولا امرأة. كان الراكب غلاماً حدثاً لمَّا يطرّ شاربه، غير أن ملامح رجولة مبكرة، كانت تشع من محياه الرائق.
ابتسمت له جدتي وهي تضع يدها على صدرها في محاولة منها غير مجدية لتهدئة لهاث صدرها:
- أهْ، ظننتك رجلاً!
فابتسم الغلام أيضاً، وقال معتداً بنفسه في مرح:
- ما خاب ظنك يا خالة!
- فتى همام!
عقبت جدتي في شبه همس، وهي تلتفت نحو ولديها اللذين تخلفا عنها مسافة، مما أتاح للغلام أن يدقق النظر عن قرب في هيئتها. قال يسألها:
- لستِ مكدية متسولة يا خالة، هل أنا مخطئ؟
- لا، لست مخطئاً!
- إلى أين أنت ذاهبة؟
- إلى الضيعة.
- أيّ ضيعة؟
- إلى ضيعتكم، أليست ضيعتكم قريبة من هذا المكان؟
- بلى، إنها خلف الهضبة التي تعلو الوادي. ولكن من لك فيها؟
- لا أحد لي فيها.
- فلم أنت ذاهبة إليها؟
- لأبيت فيها. سيجن علي الليل بعد قليل، وليس من الحكمة أن أبيت في العراء ليلاً مع أطفالي.
ألقى الغلام نظرة بطيئة على الطفلين اللذين كانا وصلا في تلك اللحظة هرولة وهما يلهثان، وجعلا يراقبان الغلام بفضول شديد، ثم قال:
- الصغيران مكدودان مهزولان. لا أظن أنهما سيتمكنان من صعود الهضبة، ومن قطع المسافة المتبقية إلى القرية.
- يجب أن يتمكنا من الصعود!
وهمَّت جدتي أن تتابع سيرها صعداً، وقد اطمأن خاطرها إذ علمت منه أن الضيعة قريبة، ولكن الغلام استوقفها محذراً:
- انتظري يا خالة، لا تذهبي...
- لماذا؟
- لأنكِ لو اقتربت من بيت (حاجي عمر) فسينقض عليك حينئذ كلبان ذكر وأنثى شرسان. كلبا حاجي عمر، إن شمّا رائحة الغرباء، تحولا إلى ذئبين.
- ألا يمكن أن يتفادى المرء المرور بهذا البيت؟
- لا، البيت هذا في أول القرية باعتبار الطريق الذي ستسلكينه، ولا بد لك من المرور به. انتظريني قليلاً يا خالة! أنا الآن ذاهب إلى الحقل؛ لأجلب كوفية جدي وكيس تبغه. نسيهما جدي في الحقل، وهو يجمع القش للغنم...
وتهلل وجه الغلام في هذه اللحظة بابتسامة طيبة متسامحة وهو يتابع:
- ما من مرة اشتغل فيها جدي في الحقل، إلا نسي شيئاً من أشيائه، وعلي أنا أن أجلبه له بعد ذلك في كل مرة.
- هل الحقل بعيد من هنا؟
- كلا، الحقل قريب من هنا. انتظريني يا خالة، سأعود على وجه السرعة!
وحثَّ الغلام حماره على العدو. وجلست جدتي في انتظاره على صخرة مفلطحة وطيئة، ضامة ولديها إلى صدرها الواسع بحنان غزير دفقه شعورُها بالأمان. أمي الرضيعة نائمة على ظهرها داخل الملاءة الملفوفة تلهو في أحلامها مع الملائكة. هَوب الشمس الدانية من الغروب، ذاب في الظل المنتشر في بطن الوادي. والهواء نقي من الغبار، وإن أثقلته الرائحة المنبعثة من هوبجة الوادي.
سألت خالتي الصغيرة جدتي:
- ماما، أذهب (الرجل) ليجلب لنا جبناً؟
- نعم، لقد ذهب ليجلب لنا جبناً، وإلا فلماذا ذهب؟
بدرها خالي الصغير بالجواب مصدقاً لما قالته، ولكن جدتي سرعان ما خيبت أملهما! قالت لهما وهي تنفض ركم الغبار عن شعرهما، وتتفحص عيني خالي في الوقت نفسه:
- لا يوجد في الحقل جبن، الجبن في الضيعة. ولكن بعد قليل سيعود الفتى ليدلنا على الطريق إلى الضيعة. في الضيعة ستأكلان الجبن.
- والبيض.
- والبيض!
سألت خالتي:
- هل الجبن أطيب من البيض؟
أجابتها جدتي:
- كلاهما طيب.
- إذن سأطلب من الرجل جبنة، وسأطلب منه بيضة.
انتهرتها جدتي بلطف:
- لا يجوز أن تطلبي منه شيئاً! نحن لسنا متسولين، وإن كنا فقراء.
قال خالي، وهو يفرك عينه:
- أنا لن أطلب منه جبناً، ولن أطلب منه بيضاً. لسنا متسولين، وإن كنا فقراء!
- أحسنت!
حكَّت خالتي رأسها مفكرة، ثم ما لبثت أن هرشته. أمرتها جدتي أن تضع رأسها على ركبتها في الحال. فانصاعت خالتي لأمرها من غير تبرم. وانكبت جدتي على رأسها تفليه من القمل.
رجع الغلام منفرج الأسارير في هيئة الظافر. في يده كيس التبغ، وعلى كتفيه كوفية جده. طفر عن ظهر حماره برشاقة وخفة، رفع الطفلين تباعاً، أركبهما على الحمار. كانت فرحة الطفلين بركوب الحمار عظيمة لا يحدها وصف!
سألته جدتي وهما يرتقيان الهضبة، وكل منهما ممسك بواحد من الصغيرين من جانبي الحمار:
- ما اسمك؟ نسيت أن أسألك...
- اسمي مهفان.
- مهفان، كيف علمتَ أنني لست مكدية؟ أفي هيئتي ما يدل على أنني لست مكدية؟
- نعم! في هيئتك ما يدل على أنك لست مكدية.
- كيف؟ ماذا في هيئتي مما يدل على أنني لست مكدية؟
أجاب الغلام مهفان:
- لا أدري يا خالة! ولكنني أدري أن المكديات لا يسلكن هذا الطريق. المكديات، وما أكثرهن في هذه الأيام!، يسلكن الطريق العام؛ طريق ديار بكر. وهن – ومثلهن أيضاً المتسولون من الرجال - يأتين إلى ضيعتنا في الضحى وفي الظهيرة أو في ما بعد الظهيرة بقليل. لم أر مكدية قط تأتي الضيعة في الأصيل أو مع حلول المساء.
ارتاحت جدتي لكلام الغلام مهفان. قوي لديها الأمل في ألا يعاملها الناس معاملة المتسولات!
وأيقنت أن الله هو الذي أرسل إليها هذا الغلام الخِرْقَ الرُّوقة رأفة بأطفالها لا رأفة بها هي الخاطئة. لقد صد عنها مهفان هجمة الكلبين الشرسين، أنقذها من أنيابهما... لولا مهفان، لولغ الكلبان في دمها ودم أطفالها، قبل أن تدركها نجدة من أصحابه أو من غيرهم. ولولاه ما تهيأ لها أن تتعرف أسرته التي استقبلتها على رثاثتها بعطف وشهامة، وقدمت لها الطعام بسخاء والمأوى. وكان الجد ذو اللحية البيضاء والملامح الهادئة الوادعة المطمئنة، أكثر أفراد العائلة اهتماماً بها واحتفالاً، سألها:
- هل أنت أرمنية يا ابنتي؟
أجابت:
- لا يا عمي، لست أرمنية.
- لا بأس عليك! كلنا أبناء آدم وحواء. ولكن من أين أنت قادمة؟
- أنا من (مادي) يا عمي، ألا تعرفها؟
- مادي؟ وكيف لا أعرفها؟ لي في مادي معارف كثر، كما لي فيها صديق قديم مخلص يدعى (مَلْكِي)
- أي ملكي؟
- ملكي شاتُو، لا بد أنك تعرفينه!
- إنه عمي.
- عمك!؟ ملكي شاتو عمك!؟ أهو عمك وأنت ساكتة لا تخبرينني؟ يا لَحسن المصادفة! يا لحسنها! على عيني جئت يا ابنتي، على عيني. يا نورِه...
نادى الجد مبتهجاً امرأته التي كانت مشغولة بتحضير العشاء للضيفة مع كنتها أم مهفان:
- هذه قريبة ملكي يا نوره. إيييه! وكيف حال عمك يا ابنتي؟ عساه بخير! لم ألتق به مذ بدأت الحرب، وفرقت بيننا الأحداث المؤسفة.
- عمي مريض، قد لوت الليالي السود كفه على عصاه.
- وا أسفاه! إنه لمن الغبن أن يحل هذا بعمك. ليتني أراه قبل أن أموت، فأستعيد معه ذكريات أيامنا الخوالي، أيامنا الجميلة ولا سيما تلك التي كنا نمضيها معاً في ديار بكر!
واتسع الجد في حديثه، فروى لها كيف نشأت صداقته بعمها في سوق الأغنام بديار بكر حيث كانا يبيعان الصوف والجداء، وكيف توثقت في مقهى (شكيب) على أثر مشاجرة كان سببها جندي تركي ساءه أن يسمعهما يتكلمان الكردية بمحضره، فقاما له معاً بعد أن احتد النقاش بين الفريقين، وأشبعاه ضرباً، وفرّا قبل أن يتعرفهما أحد من الأتراك. ولعن الجد الحرب التي راح ضحيتها الأرمن، والتي أكلت خيرة شباب المسلمين على جبهة القفقاس، وتنبأ بانهيار السلطنة، وشبوب صراع بين الأكراد والترك بعد أن خلت الساحة من الأرمن. ولم يخف شماتته بانكسار الجيش التركي على مشارف حلب أمام الانكليز والعرب.
فأما خالي وخالتي فأكلا حتى امتلآ، وناما في مكانهما حيث تناولا الطعام. وأما جدتي فقد حاولت عبثاً أن تقاوم النعاس .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق