الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-العمال-.. فكراً وطبقةً في -عيد العمال-

جواد البشيتي

2016 / 5 / 1
الحركة العمالية والنقابية



في يوم العمَّال العالمي، ولجهة احتفال، وطريقة احتفال، الدول والحكومات به، لا أرى من معنى لهذه المناسبة إلاَّ ما يشبه معنى القول "ارحموا عزيز قوم ذل". إنَّه يوم عُطْلَة (رسمية) ليس إلاَّ؛ وعندنا، في العالَم العربي، لا أرى زعماء وقادة الدول يتَّخِذونه فرصة لاختبار "تواضعهم"، و"مجاملة" العمَّال، الذين هُم، بعملهم، مَصْدَر ثروة المجتمع؛ مع أنَّهم (هؤلاء الزعماء والقادة) لا يُفَوِّتون مناسبة أقل أهمية وشأناً إلاَّ ويحتفلون بها.
دُوَلِنا تَفْخَر بـ "عبقريتها (التشريعية والقانونية)" في تشجيع الاستثمار الأجنبي، وفي اجتذاب مزيدٍ منه إلى اقتصاداتها؛ مع أنَّ الأبله يعرف أنَّ هذا "الرُّخًص اللاإنساني" لـ "قوَّة العمل"، عندنا، هو، لا غيره، الذي يجتذب إلى اقتصاداتنا هذا الاستثمار الأجنبي والغربي الوحشي واللاإنساني؛ فالرأسمالية الغربية لم "تَتَأنْسَن قليلاً" في مجتمعاتها إلاَّ لـ "تتوحِّش كثيراً" في بلادنا الشرقية والعربية؛ فهل، بعد ذلك، تُصدِّقون أنَّ لهذه الرأسمالية، ودولها وحكوماتها، مصلحة في إماتة هذه الدجاجة التي تبيض لها ذَهَباً من طريق الاستثمار في هذه المجتمعات ؟!
عندنا يُحبِّذون دائماً "النِّسْبيَّة التَّافهة"، فيتَّخِذون من حال العمَّال في الصومال مثلاً "مقياساً" يقيسون به حال عُمَّالنا، فيشرعوا يتغنُّوا بنعمة "العيش الكريم" التي أسبغوها على العمَّال؛ لكنَّ هذا "المقياس" لا يَصْلُح إلاَّ لِمَن له مصلحة في سرقة مزيدٍ من عَمَل العامِل، وبخسه حقوقه.
أُنْظروا أوَّلاً إلى "الضرائب"، كيف تُجْبى، وكيف تُنْفَق، فَتَقِفون على "الطبيعة الطبقية" للدولة؛ فهي تُجْبى بما يعفي كثيراً من الرأسماليين من دَفْعِها، وتُنْفَق بما يعود بالنفع والفائدة عليهم أنفسهم، وعلى من يسهر على رعاية مصالحهم من ذوي السلطة، الذين لا يكافِحون ظاهرة "التهرُّب الضَّريبي" إلاَّ بما يجعلهم "المتهرِّب الأوَّل".
إنَّها أموال الشعب الذي لو كانت "السلطة" منه، وله، لألزم الرأسماليين وأرباب العمل والمستثمرين دَفْع ضرائب (تصاعدية) تتناسَب وحجوم أرباحهم، ولأَنْفَق أمواله بما يكفل العيش الكريم لأبنائه، وفي مقدَّمهم العاطلين عن العمل لأسباب موضوعية، في مقدَّمها ضِيق سوق العمل (الرأسمالية) بهم، وكأنَّهم فائض عن حاجة الرأسمال إليهم.
كل صراعٍ خاضه، ويخوضه، العامِل، أو الموظَّف البسيط، من أجل عيش كريم، لم يَتَعَدَّ، في مداره الحقيقي، صراعه من أجل جَعْل أجره، أو راتبه، يَعْدِل، ويشبه، ولو قليلاً، الأجر أو الراتب الآدمي؛ فلقد ابتلانا الله بحكومات آفاقها الاقتصادية تَتَّسِع لكل شيء، ولا يسعها شيء، فلا تتفتَّق عبقريتها الاقتصادية إلاَّ عن "حلول" كالنَّار تأتي على الأخضر واليابس من أجر العامل وراتب الموظَّف الصغير، وكأنْ لا حلَّ أبداً للتغلُّب على العجز المزمن في الموازنة إلاَّ "الجزية" يعطيها لهم الشعب عن يدٍ وهو صاغِر.
قد يُزاد الأجر أو الراتب الاسمي؛ لكنَّها زيادة تقيم الدليل، لجهة نتيجتها العملية النهائية، على أنَّ كل زيادة في الأجر أو الراتب الرسمي تتمخَّض سريعاً عن نَقْصٍ أكبر في الأجر أو الراتب الحقيقي؛ فالعامِل أو الموظَّف الصغير يحصل الآن بـ "فضل" الزيادة الجديدة في أجره أو راتبه الاسمي على سلعٍ وخدماتٍ أقل من ذي قبل، أو تَقِلُّ كثيراً عمَّا ينبغي للإنسان أنْ يحصل عليه ليَبْلُغ في عيشه مستوى العيش الآدمي في عصرنا.
لسبب ما قد يغلق رب العمل، عندنا، منشأته؛ فيُلْقى العمَّال وعائلاتهم في الشارع؛ وعندئذٍ، ألا يحق لهؤلاء البشر والمواطنين أنْ يتساءلوا عن "أموال الشعب"، أيْ عن الضرائب، وكيف تُنْفَق، ولمصلحة مَنْ تُنْفَق.
والعاطلون عن العمل، مع أنَّهم قادرون عليه، مؤهَّلون له، يَصِلون الليل بالنهار في بحثهم عنه، ألا يحقُّ لهم أنْ يسألوا الدولة عن حقوقهم (الإنسانية في المقام الأوَّل) التي يمكن أنْ تُحْفَظ وتُصان، ولو قليلاً، لو كان الإنسان، أو المواطِن، من الشعب، هو مدار الاهتمام الحكومي في إنفاق أموال الضرائب.
الشعب ما عاد يُعلِّل نفسه بوَهْم توقُّف الناهبين عن نهب أمواله؛ فإنَّ جُلَّ ما يتمنَّاه عليهم هو أنْ يُبْقوا الأموال التي نهبوها في "الوطن"، وأنْ يستثمروها في اقتصاده، لا أنْ "يُسَفِّروها" إلى خارج "الوطن (المعطاء)"، ويستثمروها في معاقِل الرأسمالية الغربية.
للمواطِن عندنا كل الحقِّ في أنْ يَعْلَم كَمْ دَفَعَ، ويَدْفَع، من الضرائب، بأسمائها الحسنى كافَّةً؛ لكن لا حقَّ بلا واجب؛ وإنَّ واجبه، في المقابِل، أنْ يَجْهَل، وأنْ يزداد جَهْلاً، بمصير ما دَفَعَ، ويَدْفَع، من أموال؛ فالحكومة كذاك الحكيم الذي لَمَّا سأله أحدهم عن خير نصيحة يمكن أنْ يسديها إليه، أجابه قائلاً: اعْمَلْ بحسب أقوالي، وإيَّاك أنْ تحذو حذوي في أعمالي.
هل "الدولة" تمثِّل "الشعب"؟
بحسب "فرضية دستورية"، الإجابة هي "نَعَم"؛ أمَّا "الضرائب"، ولجهة جبايتها وإنفاقها، فلها إجابة لا تَتَّفِق وهذه "الفرضية الدستورية"؛ فَقُلْ لي كيف تجبي الدولة الضرائب، وكيف تنفقها وتتصرَّف بها، أَقُلْ لكَ ما هي طبيعة هذه الدولة.
"الماركسية ماتت!"؛ "الماركسية شبعت موتاً!"؛ "الماركسية وُلِدَت ميتة!"؛ "الماركسية نظرية (أو فكر) منافية للواقع!".
وهذا كله بعضٌ، أو نَزْرٌ، ممَّا قالوه، ويقولونه، في حروبهم الفكرية (التي لم تنتهِ، ولن تنتهي) ضدَّ "الماركسية"، أيْ ضدَّ "الجوهري" و"الأساسي" و"الصَّلْب" من أفكار كارل ماركس (في المقام الأوَّل). ومع ذلك، ما زال هؤلاء الخصوم والأعداء لفكر ماركس في "حوارٍ" معه؛ وكأنَّهم ما زالوا مؤمنين سِرَّاً بتهافُت منطقهم وحُجَجِهِم، وبعجزهم عن النَّيْل من قوَّة فكر هذا المفكِّر العظيم.
ومن حُجَجِهِم التي يتسلَّحون بها الآن أنَّ "طبقة ماركس"، أيْ "الطبقة العاملة"، أو "البروليتاريا"، تتلاشى وتضمحل؛ فالعُمَّال في الصِّناعة هُمْ الآن أقل من خُمْس الأيدي العاملة؛ أمَّا العاملون في الخدمات فيَزيدون عن نِصْف الأيدي العاملة؛ واستنتاجهم، من ثمَّ، أنَّ الطبقة العاملة (البروليتاريا) الصناعية ما عادت (أو ليست) أكثرية أبناء المجتمع.
كل حُججهم متهافتة، تَضافَر على صُنْعِها شيئان: "العداء الأعمى" لفكر ماركس، و"الجهل به (أو العجز عن فهمه، وتمثُّله)".
كثيرٌ، وكثيرٌ جِدَّاً، من الرِّفاق "الحُمْر"، ومِمَّن كانوا (في "الزَّمن الستَّاليني الأحمر") يُقدِّسون كلَّ كلمة كتبها ماركس، باتوا يُؤمِنون الآن (وعلى أيدي "الليبراليين الجُدُد" الذين عَرَفوا كيف يُؤلِّفون قلوبهم "الحمراء" أيضاً) بأنَّ "الشيوعية (وكلُّ نَفْيٍّ للرأسمالية)"، فكرة "طوباوية"، و"خرافة"؛ ودليلهم العملي الواقعي التاريخي "المُفْحِم" على ذلك هو انهيار "النِّظام السوفياتي"، وأشباهه في أوروبا الشرقية.
وتمادوا في "إيمانهم" هذا، أو في "غِيِّهم"، فقالوا بتهافُت "النظرية الاقتصادية الماركسية"، مُعْتَبِرين أنَّ ماركس، وفي مؤلَّفِه "رأس المال"، كان على ضلالٍ مبين؛ ولم يكن "عِلْميَّاً"، وإنَّما "مُغْرِضٌ"، في أفكاره، وفي طريقة تفكيره؛ فـ "الغَرَض" الكامِن في هذا "المؤلَّف" إنَّما كان إعداد العُدَّة النَّظرية والفكرية لإطاحة النِّظام الرأسمالي، ولو افتقرت هذه "الإطاحة"، والمساعي إليها، إلى "الحيثيات التاريخية الموضوعية"؛ فالنِّظام الرأسمالي، في فرضيتهم، يَضْرِب جذوره عميقاً في "واقِعٍ موضوعي متصالح معه"!
وعلى سبيل التذكير، إنْ نفعت الذكرى، نقول (أو يجب أنْ نقول، حتى يصبح ممكناً تمييز خيوط الحقيقة من خيوط الوهم) إنَّ ماركس ليس الاتحاد السوفياتي، الذي حَكَمَ عليه التاريخ بالموت، وإنَّ الاتحاد السوفياتي ليس ماركس، الذي، على ما أَعْتَقِد، استمدَّ حياةً من موت ما سمِّي "النظام الاشتراكي (أو الشيوعي)"، ولو أبى "اليتامى الحُمْر" الاعتراف بهذه الحقيقة، التي تنمو ضياءً يوماً بعد يوم.
الرأسمالية هي التي ولدت ماركس، فاستولد من واقعها الاقتصادي ــ الاجتماعي فكراً، بسطه في مؤلَّفه الشهير "رأس المال"، فوعت وأدركت ذاتها على خير وجه.
إنَّها مصادفة صرف أنْ يظهر هذا الرجل في المكان الذي ظهر فيه (ألمانيا) وفي الزمان الذي ظهر فيه، وأن يكون يهودياً، وأن يكون اسمه كارل ماركس، وأن..، وأن..؛ لكنها ضرورة تاريخية أنْ يظهر مثيلاً له في الفكر، فلو لم يظهر ماركس نفسه لأنتجت الضرورة التاريخية مثيلاً له، يقوم مقامه، فالمهمَّات التاريخية العظيمة هي التي تصنع الرجال العظام، وكأنَّها تحبل بهم.
في البدء، تجاهلوه، ثمَّ سخروا منه، ثمَّ حاربوه، ثمَّ ينتصر (أقول "ينتصر" ولا أقول "انتصر"). لقد نعوه عشرات، بل مئات، بل آلاف المرات، وطبعوا، في العداء له، ما يفوق ما طبعه "مجلس الاحتياط الفدرالي" من "الورقة الخضراء" أضعافاً مضاعفة؛ ومع ذلك ظلوا في حوارٍ أبدي معه، وكأنَّ عصره وفكره لم ينتهيا بعد!
حتى أولئك "الحُمْر"، والذين "صنَّموا" ماركس وفكره حتى قال على الملأ "إنِّي لستُ ماركسياً"، تحوَّلوا جميعاً إلى بطرس، فأنكروه ثلاث مرَّات إذ تناهى إلى أسماعهم نبأ زوال الاتحاد السوفياتي، وكأنَّ انهيار بناية على رؤوس سكانها هو خير دليل على أنَّ علم الهندسة كان كومة من الأخطاء!
ولو كان ماركس على قيد الحياة عندما كان الاتحاد السوفياتي حيَّاً يُرْزق، ويُصوِّر نفسه للعالم على أنَّه الجنَّة على الأرض، لقال، هذه المرة، وعلى الملأ، "إنِّي لستُ شيوعياً"؛ فلو كان "النظام الشيوعي" في الاتحاد السوفياتي وغيره هو نفسه "المجتمع الجديد" الذي بشَّر به ماركس، ودعا إليه، لدعا للرأسمالية بطول البقاء!
ماركس كتب مجلَّدات في النظام الرأسمالي؛ لكنه لم يكتب سوى بضعة سطور في النظام الاشتراكي؛ لأنَّه كان عدوُّاً لدوداً لكل فكر طوباوي؛ ولأنَّه لم يفهم المجتمع الجديد الاشتراكي إلاَّ بوصفه أحد خيارين تاريخيين، فالرأسمالية، على ما قال وتوقَّع، إمَّا أن تتقدَّم نحو الاشتراكية، وإمَّا أن تتقهقر، ومعها البشرية كافة، إلى عهود الوحشية، التي إنْ أردتم معرفة ماهيتها، وإدراك كنهها، فانظروا بالعين المجرَّدة من الأوهام إلى ما يسمُّونه "الرأسمالية الجديدة"، أو "الليبرالية الجديدة"، مع شريعتها، التي تسمى "نهاية التاريخ".
سقوط الاتحاد السوفياتي ظنُّوه سقوطاً لماركس، فقرَّروا إذلال هذا الرجل مع فكره بما يشبه الصفح عنه، فشرعوا يتساهلون في معاملة كل من يَذْكُر اسمه، أو يقرأ له، أو يكتب عنه، أو ينادي بأفكاره، وينحاز إليها، وكأنَّ الرعب الذي ألقاه في قلوبهم قد ولَّى وانتهى.
أمَّا قبل ذلك، أي عندما كان هذا الرعب يستبدُّ بهم، فكانت عبارة "اكرهوا ماركس!" هي جوهر وقوام خطابهم السياسي والإعلامي والفكري، فهو، في الصورة التي أظهروه فيها، الملحد الكافر، وهو اليهودي، والعدو اللدود للقومية، وهو الشرير الذي تبذر أفكاره بذور الاقتتال والحروب الأهلية، وتقوِّض السلم الأهلي، وتُفْسِد الفطرة التي خُلِق عليها الناس، وتناصب كل ملكية خاصة العداء ولو كانت ملكية صحن وملعقة؛ ولكن، ما أن تأكَّد لهم صلبه، فموته، فدفنه، حتى شغفوا حُبَّاً بـ "اليهودي الآخر"، أيْ اليهودي الصهيوني المهيمن في "وول ستريت" والكونغرس..
هذا الرجل ( كارل ماركس) وبشهادة حتى خصومه هو الحائز على ألقاب من قبيل "مفكِّر الألفية الثالثة"، و"أهم شخصية ألمانية على مرِّ العصور"، و"الشبح الذي عاد"، و"أعظم الفلاسفة في التاريخ".
حتى رجل الأعمال والسياسي الليبرالي الشهير جورج سوروس تحدَّث عن ماركس قائلاً: "لقد قرأتُ ماركس، فاكتشفتُ كثيراً من الصواب في فكره".
ونحن لو صرفنا النظر عن عداء ماركس للرأسمالية، لاكتشفنا أنَّه "الوعي الحقيقي" للنظام الاقتصادي الرأسمالي، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وكأنَّ الرأسمالية لم تَعِ ذاتها على خير وجه إلاَّ من خلاله.
إنَّ "العمل"، وعلى ما أثبت وأكَّد تاريخ التطوُّر الرأسمالي، لا يعطي أبداً الشرعية للتملُّك الرأسمالي؛ فالعمل (والعمل المأجور في المقام الأوَّل) لا يُنْتِج رأسماليين، أي لا يحوِّل أبداً، وعلى وجه العموم، العامِل إلى رأسمالي. إنَّ العامل يجب أنْ يكون غير مالِك إلاَّ لقوَّة عمله، ويجب أنْ يظل ويبقى غير مالِك إلاَّ لها، مهما عمل وجَدَّ واجتهد وأبدع.
"العمل المأجور" لن يجعل صاحبه مالِكاً من النوع الرأسمالي؛ ويكاد أنْ يتحوَّل إلى ما يشبه "الصِّفَة الوراثية"؛ فابن العامل يصبح كأبيه، عاملاً مأجوراً.
"البطالة (أيْ جيش العاطلين عن العمل)" هي ظاهرة رأسمالية حتمية؛ فلا رأسمالية بلا بطالة؛ وليس من "إصلاح" للنظام الرأسمالي يمكنه أنْ يفضي إلى رأسمالية خالصة من شرِّ البطالة.
وفي البلدان الرأسمالية الغربية، تعطي الدولة العاطِل عن العمل راتباً يمكن أنْ يكفل له حياة شبه آدمية (بمعناها الغربي لا الشرقي). هذا الراتب، ومن حيث مَصْدَره الأساسي، يُقْتَطَع من دَخْل العامِل النِّظامي، على شكل ضريبة تجبيها منه الدولة؛ ومع ذلك، تستعمل الرأسمالية العاطلين عن العمل أداة ضغط على العمَّال النِّظاميين لجعلهم أكثر خضوعاً واستخذاءً لمشيئة أرباب العمل، ولإرغامهم على قبول أجور أقل من الوجهتين الاسمية والفعلية؛ كما تستخدم كل ما لديها من عِصِيٍّ وجَزَر، ومن وسائل الترهيب والترغيب، لمنع العمَّال من الاتِّحاد الطبقي ضدَّها، ولجعلهم يتخلَّقون بأخلاق العبيد، ولإشاعة الانتهازية بينهم، ولإضعاف الرُّوح الجماعية في موقهم وسلوكهم.
و"العمل"، في الرأسمالية، أقرب إلى "الإكراه" منه إلى "الاختيار"، على وجه العموم؛ فإنَّ مصالح الرأسمال، لا رغبات الشخص، وميوله، وقابلياته، هي التي تحدِّد، وتقرِّر، له ماذا يعمل، وكيف يعمل، وأين ومتى يعمل، وكم من وقته اليومي يجب أنْ يستغرقه عمله، وكم من عمره يجب أنْ يقضيه في عملٍ يفتقر إلى الدَّافِع المثالي إليه؛ حتى التقاعد عن العمل فيه كثير من الظُّلْم للعامل؛ فهو لا يستحقه إلاَّ وهو قاب قوسين أو أدنى من وفاته؛ أمَّا معاش المتقاعِد، ومن حيث وزنه السِّلعي والخدماتي، فهو أقرب إلى العقوبة له منه إلى المكافأة.
في كتاب "رأس المال"، وفيه فحسب، يمكنك أن ترى الرأسمالية، والرأسمالية اليوم أيضاً، في حقيقتها العلمية، العارية من زخرف الثياب والقول، وأن تُدْرِك، من ثمَّ، أنَّ خير من حلَّل النظام الرأسمالي، وسبر غوره، واكتشف قوانينه الموضوعية، وفهمه فهما عميقاً واسعاً شاملاً، هو كارل ماركس، الذي تظل الرأسمالية في عصره ما ظلَّت على قيد الحياة.
لقد تحدَّى هذا الرجل، إذ جعل لفكره جذوراً عميقة في تربة العلم، كل زعماء الفكر الاقتصادي الرأسمالي أن يأتوا بتفسير علمي لـ "الربح الرأسمالي" غير التفسير الذي أتى به، والذي بفضله ظهرت "عدالة الأجر" على أنَّها الظُلم الاقتصادي والاجتماعي والتاريخي وقد لبس لبوس "العدالة الرأسمالية".
قانون "العرض والطلب" نقَّاه ماركس من الخرافة، موضحاً أنَّ هذا القانون، وعلى أهميته، يفسِّر فحسب درجة انحراف السعر عن قيمة البضاعة؛ لكنه لا يستطيع أبداً أن يفسِّر تلك القيمة ذاتها؛ والدليل على صدق ذلك أنَّ توازن العرض والطلب هو لحظة بيع البضاعة بقيمتها؛ وبيع البضاعة بقيمتها إنَّما هو ذاته بيعها بربحٍ، فإذا كانت قيمة بضاعة ما هي حاصل جَمْع قيم كل البضائع المستهلَكة من أجل إنتاج تلك البضاعة فكيف يمكن، عندئذٍ، بيعها بربح عندما يتوازن العرض والطلب؟!
وحتى كتابة هذه السطور لم نسمع إجابة رأسمالية علمية ومُقْنِعة عن هذا السؤال ــ التحدي، الذي انطلق منه ماركس ليؤكِّد أنَّ جوهر الرأسمالية سيظل هو نفسه، وهو السعي لأمرين في آن: "الربح الأقصى" و"التراكم"، أي زيادة تركيز رأس المال.
لقد سألوا رب العمل، أي كل رب عمل، "من أين لك هذا؟"، فأجاب وكأنه لسان الحقيقة: "من عصاميتي، فكل ما أملك إنما هو ثمرة جهدي وكدِّي وعملي وعرقي.. وذكائي".
ومع ذلك، ظل الواقع يجيب قائلاً: "إنَّ من يعمل لا يملك، وإنَّ من يملك لا يعمل، وإنَّ أكثر الناس ذكاءً هم الفقراء"!
في مقالة قصيرة له، يتخيَّل ماركس عامِلاً (ذكياً، واعياً) يجادِل رب العمل، أو الرأسمالي؛ ولقد بَسَطَ ماركس (المُحلِّل الأكثر عبقريةً وعلميةً وعُمْقاً لأساس وجوهر النظام الرأسمالي) من طريق هذا الجدل طريقة الاستغلال الرأسمالي للعمَّال، والتي يجتهد أيديولوجيو الرأسمالية في حجبها، بمفاهيم ونظريات ووجهات نظر شتَّى، عن أبصار وبصائر الناس جميعاً، والعمَّال منهم على وجه الخصوص.
ولسوف أسير، بقلمي، في مسار هذه المقالة، وأتفرَّع منه، توصُّلاً إلى جَعْل محتواها الفكري يشغل حيِّزاً من ذهن كل مَنْ يرى في الرأسمالية من العيوب والخلال والمثالب ما يجعلها جديرة بالزوال.
يَبْرُز الرأسمالي للعامل بصفة كونه "شارياً"؛ و"السلعة" التي يريد شراءها من العامِل هي "قوَّة عمله".
إنَّه يشتريها منه بـ "سعرٍ (ثَمَنٍ)"، نَفْتَرِض أنَّه يَعْدِل ويساوي "قيمتها اليومية"، أيْ قيمتها في يومٍ، لا في سنةٍ مثلاً.
وأنتَ عندما تذهب إلى السوق لشراء سلعة ما فإنَّكَ لا تحصل عليها، ولا تملكها، ولا تستهلكها، من ثمَّ، قبل أنْ تَدْفع للبائع ثمنهاً نقداً؛ أمَّا رب العمل فلا يَدْفَع للعامِل ثَمَن سلعته، أيْ ثَمَن "قوَّة عمله"، إلاَّ بعد أنْ يستهلكها (أو يستعملها). وهذا إنَّما يعني أنَّ الصِّلة الحقيقية بين الطَّرفين هي صلة دائن بمدين، العامِل فيها هو "الدائن"، ورب العمل هو المدين.
لقد اشترى رب العمل من العامِل "قوَّة عمله"، وأصبح له "الحق"، من ثمَّ، في أنْ يستعملها (يستخدمها، يستهلكها) في "يوم عملٍ واحد (مدته 8 ساعات مثلاً)"؛ فالشاري له الحق في أنْ يستهلك، ويستعمل، السلعة التي اشتراها.
صلة الطرفين، في ظاهرها، تَصْلُح تعريفاً لليبرالية والحرية؛ فلا استبداد، ولا إكراه، ولا قسر، فيها. إنَّ رب العمل زيد لا يُكْرِه العامل عمرو على العمل لديه، والعامِل عمرو يستطيع أنْ يرفض العمل لدى رب العمل زيد؛ أمَّا في باطنها، فلا أثر لليبرالية والحرية؛ فالعامِل عمرو، والذي يستطيع رفض العمل لدى رب العمل زيد، لا يستطيع أبداً رفض العمل لدى "طبقة" زيد، أيْ لدى طبقة الرأسماليين التي تمتلك "الوسائل" التي لا يستطيع العامِل عمرو العمل من دونها.
رب العمل زيد اكتسب الآن الحق في إلزام العامِل عمرو في العمل لديه طوال يوم واحد (أيْ طوال يوم عمل واحد؛ ويوم العمل هو دائماً أقصر من اليوم الطبيعي، فقد يَعْدِل 8 أو 10 ساعات).
ومدة يوم العمل هي أمر يقرِّره ويُحدِّده ميزان القوى بين الرأسماليين والعمال؛ وإذا كان رب العمل يميل بالفطرة إلى إطالة يوم العمل فإنَّ العامل يميل إلى تقصيره؛ ومع ذلك، ثمَّة حدوداً طبقية، وأخرى طبيعية، ليوم العمل.
"الرأسمال" هو الذي يخلق "الرأسمالي"، وعلى مثاله هو يخلقه؛ فما رب العمل إلاَّ "رأسمالاً على هيئة إنسان"، و"روح الرأسمالي" تغدو هي نفسها "روح رأس المال"؛ فلا أهمية تُذْكَر، في جوهر وأساس الصلة بين رب العمل والعامِل، لدين أو جنس أو جنسية أو عرق أو لون أو أخلاق.. الرأسمالي. إنَّه كمثل خالقه رأس المال لا هدف له، ولا غاية، إلاَّ "الربح"، أو إنماء القيمة بواسطة فائض القيمة. و"القيمة" التي ينزع دائماً إلى إنمائها هي المال الذي أنفقه لشراء الآلات والمعدات والأدوات والمواد والبناء..، ولشراء الأيدي العاملة.
ولجعل الأمر أكثر بساطةً، دَعُونا نفترض أنَّ الرأسمالي يملك مبلغاً من المال يكفي فحسب لشراء وسائل الإنتاج (البناء والآلات والمعدات والمواد والأدوات..). والمال المنفَق لشراء وسائل الإنتاج يسمَّى "الرأسمال الثابت"؛ وهذا الرأسمال يمثِّل "العمل الميِّت"، أيْ العمل المُخْتَزَن في تلك السلع المسماة "وسائل الإنتاج". و"الرأسمال الثابت (أو العمل الميِّت)" يشبه، لجهة صلته بالعامِل، أو العمل الحي، مصَّاص الدماء؛ إنَّه لا يعيش، ولا ينمو، إلاَّ بامتصاصه العمل الحي، أو "العمل الفائض".
الآن، جاء هذا الرأسمالي بعدد من العمال، قائلاً لهم: لن أدفع لكم أجوركم إلاَّ بعد بيع السلعة التي ستُنْتِجون؛ وينبغي لكم أنْ تعملوا لديَّ 8 ساعات.
العمَّال شرعوا يعملون، أيْ يُنْفِقون جهودهم وطاقاتهم، محوِّلين، بواسطة الآلات والأدوات، المواد إلى كمية من السلعة المراد إنتاجها؛ ودَعُونا نفترض أنَّ كل وسائل الإنتاج قد اسْتُهْلِكَت في صنع كمية معيَّة من هذه السلعة.
إذا كان الرأسمالي قد أنفق مليون دولار لشراء وسائل الإنتاج؛ فهل يبيع كل هذه الكمية من هذه السلعة بمليون دولار؟
كلاَّ؛ لأنَّ قيمة كل هذه الكمية من هذه السلعة تَعْدِل مليونيِّ دولار (مثلاً). نصف هذه القيمة، ومقداره مليون دولار، هو قيمة وسائل الإنتاج التي انتقلت إلى هذه الكمية من هذه السلعة؛ والنصف الآخر، ومقداره مليون دولار أيضاً، هو "قيمة جديدة" أنتجها وخلقها عمل العمال، وتشتمل عليها الآن هذه الكمية من هذه السلعة.
العمل الحي، أيْ عمل العمال، هو وحده مَصْدَر هذه "القيمة الجديدة"، التي يذهب أحد نصفيها (نصف مليون دولار) إلى العمال على شكل أجور، ويذهب نصفها الآخر إلى رب العمل على شكل ربح.
العمال أنتجوا في النِّصْف الأوَّل من يوم عملهم (4 ساعات) قيمة جديدة تعدل أجورهم، أيْ تعدل قيمة قوَّة عملهم، وأنتجوا في النِّصْف الآخر قيمة جديدة يعطونها لرب العمل على شكل ربح. هُمْ حصلوا على قيمة قوَّة عملهم؛ أمَّا هو فحصل على مبلغٍ من المال لا لشيء إلاَّ لكونه يتمتَّع بـ "امتياز" امتلاكه وسائل الإنتاج؛ فالمال الذي أنفقه لشراء وسائل الإنتاج يُنْقَل إلى الكمية المنتَجة من هذه السلعة من غير أنْ يزيد، أو ينقص، سنتاً واحداً.
لو أخذ العمال كل "القيمة الجديدة" التي خلقوها لاتُّهِموا بسرقة رب العمل، الذي لو أخذها هو كلها لاتَّهمته الرأسمالية نفسها بسرقة العمال؛ فإنَّ "العدالة (بمفهومها الرأسمالي)" هي أنْ يأخذ العمال نصف القيمة الجديدة، وأنْ يتنازلوا للرأسمالي عن نصفها الآخر (وأقول "يتنازلوا"؛ لأنَّهم هم وحدهم المنْتِج والخالق للقيمة الجديدة بنصفيها).
ربُ العمل يقول للعامِل: لقد اشتريتُ منكَ السلعة الوحيدة التي تملك، وإنَّ لي الحق في استعمالها (استهلاكها) يوماً كاملاً، أي في خلال 8 ساعات عمل؛ وإنَّ قيمة سلعتك تعدل تكاليف إنتاجها من طعام ولباس، وأشياء أخرى تحتاج إليها؛ وهذه التكاليف تعدل القيمة التي تُنْتِجها (لدى العمل عندي) في الساعات الأربع الأولى من يوم العمل؛ فهذا وحده حقك، فخذه عن طيب خاطر.
العامل يقول له: إنَّ السلعة التي بعتك إيَّاها تختلف عن سائر السلع في كونها تَخْلِق، لدى استعمالها، قيمة أكبر من قيمتها هي؛ وأنتَ تعطيني قيمتها، وتستولي على "القيمة الفائضة (عن قيمتها)".
ربُّ العمل يقول للعامِل: ولو لم تكن لقوَّة عملك هذه الخاصية (الاستعمالية) الخاصة الفريدة، لَمَا اشتريتها منك؛ أنا وأنت لا نعرف في السوق غير قانون واحد، هو قانون تبادل السلع، وإنَّ استهلاك (استعمال) السلعة هو أمْر لا يخص البائع، الذي انفصل عنها، وإنما يخص الشاري الذي حصل عليها؛ وهذا إنما يعني أنَّ استعمال قوَّة عملك اليومية هو مُلْك لي، وأمْرٌ يخصني، ولا يخصك.
ربُّ العمل لِصٌّ؛ لأنَّه يسرق قسماً (كبيراً) من القيمة الجديدة التي يُنْتِجها "العمل الحي"، ولا يُنْتِجها أبداً "العمل الميت"، أو "الرأسمال الثابت (الآلات)". أمَّا "أداته" في السرقة فهي وسائل الإنتاج التي يتمتَّع بـ "امتياز" تملكها.
وربُّ العمل يسرق العامل أكثر إذا ما أطال يوم العمل، أو إذا ما أرغم العامل على زيادة شدة وكثافة عمله في يوم العمل الواحد؛ وفي هذه الطريقة الأخيرة، يدفع رب العمل للعامل ثمن عمل يوم واحد، مُسْتَهْلِكاً، في الوقت نفسه، قوَّة عمل 3 أيام مثلاً؛ وهذا مناقِض للعقد المبرم بين الطرفين، ويخرق قانون تبادل السلع.
العامل يقول لربِّ العمل: إنني أطالِب بعمل طبيعي، في يوم عمل طبيعي؛ أُطالِب بذلك من غير أنْ ألتمس شفقة قلبك؛ ففي عالم المال لا مكان للعاطفة. إنَّكَ قد تكون مواطناً مثالياً، وإنساناً قويم الخلق، وربَّما تكون عضواً في جمعية للرفق بالحيوان، أو للعناية بالبيئة، أو شخصاً تفوح منه رائحة القداسة؛ لكنك بالنسبة إليَّ لا تمثِّل إلاَّ الرأسمال الذي لا يحمل قَلْباً بين ضلوعه؛ وهذا الذي تسمعه ينبض فيه لا يعدو كونه نبضات قلبي أنا.
أخيراً، يقول رب العمل للعامل: لقد أقنعتني؛ فحقِّي وحقك متساويان من وجهة نظر قانون تبادل السلع؛ ولا حاكِم بين "الحقوق المتساوية" إلاَّ "القوَّة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يغازل الطبقة العمالية مستغلا انشغال ترمب في مارثون الم


.. صدامات بين طلبة والشرطة الإيطالية احتجاجا على اتفاقيات تعاون




.. التوحد مش وصمة عاملوا ولادنا بشكل طبيعى وتفهموا حالتهم .. رس


.. الشرطة الأميركية تحتجز عددا من الموظفين بشركة -غوغل- بعد تظا




.. اعتصام موظفين بشركة -غوغل- احتجاجا على دعمها لإسرائيل