الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القيَّمْ بين الدين والعولمة

رمضان عيسى

2016 / 5 / 3
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الانسان بطبعه يصبو الى القيَّم الفضلى التي تجعل حياته سعيدة ، وتُشعره بكيانه الانساني وتَضفي على علاقاته الانسانية ظلالاً من الرخاء والطمأنينة والسعادة . ومن هذه القيَّم : الحق والخير والجمال والعدل والحُب والفضيلة والصدق والاحترام والاعتراف بالجميل .
فإذا أحب الانسان ، فلا يسأل عن دين من يُحب ، واذا سمع قول حقيقة أو فكرة علمية ، فلا يسأل عن لون أو جنسية أو دين القائل ، بل يدخل في نفسه التقدير للحقيقة في ذاتها ، وللعلم في ذاته ، كعلم ومعرفة جديدة تخدم البشرية ، واذا رأى فعل خير فإنه يرتاح لفاعله ويصبغ عليه المديح ويصفه بأنه إنساني بامتياز . وإذا رأى منظراً جميلا فإن هذا المنظر يأسره ويشد انتباهه ، ويأتي الرسام أو الفاعل في درجة بعيدة بالمقارنة مع قيمة الجمال الملموسة في المنظر . وهكذا فعالم المُثل أو القيّمْ مثل الحق والخير والجمال والعدل والفضيلة والحُب ... الخ هي المطلق الذي يتميز بالنقاء الذي يجد فيه الانسان روحه وسعادته .
حاولت الأديان على مدى التاريخ أن تتماهى مع القِيَّم ، وعرضت نفسها بالارتباط مع المجهول ، الغيب ، المطلق ، الآلهه ، وبهذا أنزلت المطلق ، عالم المُثل من وضعه السامي والتصور النقي المشحون بالقِيَّم السامية التي هي يوتوبيا الانسان ومسعاه ، ومزجتها مع غايات وعواطف ومصالح البشر على اختلاف المشارب والجغرافيا .
ولتنوع المشارب والجغرافيا بين المجتمعات البشرية تنوعت الأديان ومقدسات الشعوب ، وتعددت طرق الوصول الى القيِّم المثلى ، وادعى كل فريق بامتلاكه للحقيقة المطلقة وأعطى لنفسه توكيلاً الهيا مقدسا لتعميم تصوراته حتى أن بعض أتباع الديانات صبغ القداسة على نفسه بأنه هو الشعب المختار والمفضل على البشرية جمعاء ، كما عمم هذا على نصوصه وفتاويه ومبررات أفعاله ضد الآخر المختلف عنه في الدين .
ونظرا لتلاقي مصالح السلطتين الدينية والدنيوية مع بعضهما ، فقد حدث تحالف غير مقدس ، دُنيوي لإخضاع الجماهير الغفيرة من البشر واستغلالها .
أن تعتقد أنك تملك الحقيقة المطلقة ، أو أنك تمتلك الرؤى والوسائل التي توصلك الى القيَّم المطلقة ، وحرمان الآخر من المصداقية ، أو جزءا منها ، فهذا نكران أن المعرفة البشرية ليست حكرا على شعب من الشعوب ، بل هي نتاج النشاط البشري كمجموع في مسعاه للمحافظة على بقائه .
إن الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة لا يوصل إلا الى طريق واحد : طريق الفاشية والعدمية ، فكل من يعتقد أنه يمتلك في معتقده القيَّم المطلقة هو فاشي وعدمي ، إنه في الواقع لا يمتلك إلا الوهم ، لأن الحقيقة المطلقة شيء بعيد المنال ، فالطريق اليها طويل ، ومتعتنا في السير في هذا الطريق والاقتراب منها ، فحياتنا قصيرة ولا تكفي للوصول إليها ، إنها يوتوبيا ، فكلما تصورنا أننا اقتربنا منها تبتعد أكثر ، لأنه تتوسع ادراكاتنا عن المطلق والقيَّم .
إن الايمان المطلق بصحة أفكار ما دون مراعاة الظروف الحياتية والزمنية يعني إلباس هذه الأفكار ثوب القداسة ، أي التماهي مع المطلق واليوتوبيا . والمقدس في التجربة له تداعيات خطرة على مكونات المجتمع ، وعلى الآخر ، والخطورة في المقدس خروجه من الجمجمة ، المستوى الاعتقادي الى الممارسة ، أي محاولة اجبار الآخرين على الاعتقاد بمقدسه ، وبالتالي مقاطعة الآخر وعدم تقبله أيا كان رأيه ومقدسه ، فهو في نظره خطأ وضال ويجب إخضاعه ، ويجب استخدام كل الوسائل العنفية لتحقيق هذا الهدف .
فالفاشية الدينية تزرع في الفرد الاعتقاد أنه أداة للمقدس وأن قدَرَه أن الاله اختاره لهذه المهمة ، فهو في حركته مُقاد بالاعتقاد الذي لا يحتاج الى المناقشة ، بل الى التنفيذ ، إنه ذو بُعد واحد ، وليس هناك خيارات للتردد أو الاستنكاف . وهو كما يقول " ألبرتو إيكو " أن الانسان المتدين حيوان مُخدر " ، ونضيف مخدراً في هدوءه وفي عنفه ، فهو في هدوءه يرتكز على التوكل ، وفي عنفه يفقد عقله الاخلاقي والانساني ، ولا يتعدى في سلوكه حيوان مفترس يطارد فريسته ، فهي أمامه هدف ، ولا يهمه شيء بعد ذلك ، إن كان سينهي حياته أو حياة أبرياء بعمله هذا ، فهو مطمئن للجزاء الذي ينتظره بجوار المقدس من متعة خوارقية مع الحور العين ، والنعيم الذي به ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت .
لكن ماهي العوامل التي تقف خلف تفشي الفاشية والشيئية في المنطقة العربية ؟
لا نجانب الحقيقة اذا قلنا أن تفشي الفاشية الدينية من الناحية الفكرية يعود للتحوصل حول الفكر السلفي ، وفي الجانب الآخر يعود لانعدام الأمن الفكري في زمن ازدياد مساحة الظلم والاضطهاد والتجهيل وانحسار مساحة الحرية والتعليم .
ونستطيع القول أن سطوة الزمن قد بسطت يدها على كل تيارات الفكر الاسلامي ، ونجد أن ثقلها واضح التأثير في الفكر السلفي ، بل مثلت الركيزة الأساسية للبداية لديه منذ أن قال الشافعي في كتابه ( الرسالة ) : " لم يجعل الله لأحد بعد رسول الله – عليه الصلاة والسلام – أن يقول إلا من جهة علم مضى " . وهذه المقولة تُقيد المصدرية بالماضي صراحة ، بجعله مصدراً وحيدا للمعرفة والعلم ، وبهذا تربط فكر الأجيال وأحكامها بأحكام وفكر الأجيال السابقة ، ويصبح الشعار الأمثل : " اذا اختلفتم في شيء فردوه الى القبور " . وبهذا ارتدى الماضي صفة القداسة في عقول الأجيال .
إن منطق السلفية يقف دوما على الضد من الحاضر والمرحلية ، وهذا ما يجعله غير قابل للتأثر بالمتغيرات ، فالفكر الذي لا يعتبر بالمرحلية لا يكون جدليا ، بل يتحول الى دوغما لا تتعاطى ولا تعترف بالمستجدات ، بل نجدها في حالة صدام معها .
وبينما نجد الفكر السلفي يتحصن خلف جدار الأصولية ، نجد مثيله في الفكر الغربي لديه القابلية لتحسس الواقع بتجرد ، فحين نتقصى تاريخ الأمم نجد أن مراحل الانكسار والانحدار تحدث حين يتخشب الفكر ويفقد مرحليته ، فلا يختلف عن سابقه ، وهذا ما يفتح المجال بقوة أمام الفاشية الفكرية والتصرفات الغير عقلانية التي تهدد مكونات المجتمع وأهليته للتطور والتكيف مع الحضارة ، ليس هذا فحسب ، بل تعكر صفو العلاقات الاجتماعية مع الآخر المختلف في الفكر .
فتفشي الفاشية الدينية مرتبط مع انعدام الأمن الفكري ، أي انعدام المحصنات الفكرية والمنهجية العلمية التي تفكك البنيانات الفكرية ذات المنحى الفاشي المحشوة في بطون الكتب الصفراء من البخاري ومُسلمْ وكتب السيرة وابن تيميه ومناهج التدريس في المدارس والجامعات بما فيها من أمثلة مشحونة بالعواطف وقصص مشحونة بملء الفراغات .
هذا بالإضافة الى منع تدريس الفلسفة ونظرية داروين ، فنظرية داروين في النشوء والارتقاء فتحت آفاقا رحبة لعلم الأحياء ، أما الفلسفة فتُحفز العقل على التساؤل وتثير في الانسان حب المعرفة ، وأيضا جرى خلط المفاهيم السياسية وتشويه دلالاتها ، وتزييف المفاهيم العلمية واختزال مدلولاتها ، مع انتشار سياسة التجهيل للحقائق على مستوى الوطن في جميع وسائل الاعلام المكتوب والمرئي .
كما تترعرع الفاشية الدينية حين تتحالف مع السلطة الحاكمة وتنشط تحت حماية أجهزة الدولة وتفرض سطوتها على الجيل بفرض منهجها التعليمي في المدارس والجامعات ومنابر المساجد، كما تفرض نفسها في الشارع فتقف بوصفها شرطة دينية تحت مسمى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
أما عن تفشي مظاهر الظلم الطبقي والفقر والاضطهاد والجهل وانعدام مساحة الحرية والديمقراطية والمساواة والعدل ، كل هذا قد ولّد مشاعر اليأس والقنوط والتفكير في الموت وملحقاته ، وهذا هو المستنقع الذي تتكاثر فيه الأفاعي الفاشية التي تبث سمومها في العامة المقهورين .
كما أن حالة سيطرة الروح العسكرية والتسارع التسليحي والنزاعات المتكررة مع اسرائيل وعدم حل مشكلة فلسطين ، كل هذا ساعد في انحراف المسار التطوري للمنطقة العربية ، بل وترديه الى المستوى الصحراوي .
ومن العوامل ذات الأهمية التي حرفت المسار التطوري وقوع المنطقة العربية ضمن اخطبوط العولمة . إن الامبريالية العالمية ونظرتها الى المنطقة العربية كبقرة حلوب دون تكاليف ، ودون عبء تطويري أدى الى انتشار الشيئية وتفشي الروح الاستهلاكية والروح البدائية في تقييم الفرد بما يقتنيه من أشياء، وليس بقدر ارتقاءه الانساني القيَمَي لدرجة أن الناس ينسون موت آبائهم أسرع من فقدان ممتلكاتهم .
فالعولمة التي تفشت في العالم أصابت المنطقة العربية التي ليس لديها أي محصنات تقيها سلبيات العولمة . وفي هذا يقول عالم الاجتماع " ليسلي سكلير" في كتابه ( العولمة: الرأسمالية وبدائلها ) " ان الأيديولوجيا الثقافية التي تُروجها الرأسمالية العالمية اليوم تُركز على اقناع الناس على أن يستهلكوا ليس فقد لأجل ما يحتاجون ، بل لإشباع رغبة وهمية خُلقت من أجل دوام الإفادة ومراكمة رأس المال للمنتفعين .
إن أيديولوجيا الاستهلاك اليوم تُعلن صراحة أن معنى الحياة موجود في الأشياء التي نملكها . بمعنى آخر ، أن تستهلك يعني أن تكون حياً ، ولكي تحيا حياتك بكاملها ، يجب أن تبقى مستهلكاً دائماً . إذن يبدو أن الناس تنطبق عليهم مقولة : " أنا أستهلك إذن أنا موجود " .
ان هذه الظروف وهذه العوامل كانت كالعاصفة ، فقد ولدت حالة من الاحباط واليأس من إمكانية الاصلاح ، وعند العاصفة يهرب الانسان الى أقرب مرفأ " كما يقول برنارد شو ، وليس أقرب من الدين وغيبياته الى الانسان من مرفأ سيما في زمن العولمة الذي أسقط الحدود وألغى السدود . ولهذا ذهب الأمين العام الأسبق للأُمم المتحدة " بطرس غالي " للقول أن المواطن " المتعولم " يجد خلاصة مما يضايقه في اللامبالاة أو بالتقوقع على نفسه أو اللجوء الى الدين ، فهذا هو ديالكتيك القمر الصناعي وبرج الكنيسة في الغرب ، وفي العالم العربي هو جدل القمر ذاته والمئذنة .
فالقيَمْ تقف كشمس تسطع في الأعالي والجميع يحتاج لنورها ودفئها ، فالعولمة لا يعنيها الاختلاف في المعتقد ، ولا أن يسعى الناس للقيَّم والمُثل العليا ، بل يعنيها التحفيز الدائم للنهم الشرائي ، واشعال شهوة الامتلاك .
أما الدين فما يعنيه هو تعظيم مطلقاته – كل دين له مطلقاته الخاصة – والتركيز على أبلسة المختلف وإلغاء الأخر ، في حين أن الأجدر بالدين هو تعظيم الملامح الانسانية ، وليس بإشعال شهوة القتل وإلغاء المختلف . وما نطمح إليه من المطلق ، القيَّم هو أنسنة المتدين ، وليس أبلسة المختلف .
إن عالم الأفكار القِيَّمي – المتماهي مع القيَّم – له من الأهمية بمكان لما له من انعكاس على الواقع ، حيث يخلق الدوافع والحوافز لتغيير الواقع الى الأفضل . فهدف القِيَّم ليس بإطلاق النعوت بالكفر والهرطقة وأبلسة المختلف ، بل أنسنة المتوحش أيا كانت معتقداته سواء كانت بمبررات دينية أو غيرها . فإذا غابت القيَّم يتوحش الانسان ، ولكن هذا التوحش لا بد من مبرر ، وهذا المبرر موجود في النصوص المقدسة والفتاوي الدينية .
ان عالم القيَّم هو عالم المُثل العليا والأخلاق السامية التي تفرز علاقات اجتماعية تليق بالانسان وحياته ككائن راقي . " فليست الحياة نفسها شيء – كما يقول سقراط – أما أن تحيا حياة الخير والحق والعدل هو كل شيء " .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53