الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المثقف الفلسطيني بين سلطتين واحتلال

حسام أبو النصر

2016 / 5 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


مقدمة :
ان الدور الذي يلعبه المثقف عادة في المجتمع ، يجعله في حالة صراع دائم مع الافكار السلبية والمشوهة ، فينادي بالتغيير الحقيقي ، ليصل بعدها الى مرحلة الابداع والمساهمة في عملية تطوير المجتمع والنهوض بالعالم المحيط به . وكما كل المجتمعات في العربية والغربية منها ، هناك مقومات تساهم في صمود نضال المثقف ، والدفع نحو الاستمرار في عطاءه ليستطيع تشكيل حالة في المجتمع ، تجمع على فكره نحو احتواء عطاءاته الفكرية الايجابية وتبنيها ليؤخذ بها في حالة البناء المجتمعي الرصين . الا ان الحالة الفلسطينية وضعت كثيرا من العصي في دواليب المثقفين وعصفت بحياتهم ومحيطهم ، قد لا تكون غيرت من مفاهيمهم ومبادئهم وافكارهم ولكنها قوضت نشاطهم على الاقل ، وأضعفت حضورهم بشكل ما ، رغم ان حاجة الوطن لهذه الافكار ملحة الان عن أي وقت مضى في ظل استمرار وجود الاحتلال ومفاهيم الامبريالية المحيطة .
ولطالما المثقفين ساهموا في تحرر شعوبهم من ويلات الاستعمار والعبودية والتحرر فتنبئوا منذ القدم بالمدينة الفاضلة ، وسقراط أُعدم لجرأة افكاره ، وابن رشد حرقت اعماله ، فيما ثاروا على الملكية في فرنسا ، وساهموا ( المثقفون ) في تحرير شعوبهم من الاستعمار ، اما نابليون كان ينتابه شعور الفزع لسماعه كلمة مثقف ، ورغم ذلك كان هناك بعض المثقفون يدعمون رؤية حكوماتهم الاستعمارية مما شكل حالة خيانة للمبادىء والمنطلقات التي ترعرعوا عليها فوظفوها لصالح الرؤية الامبريالية.
وفي الحالة الفلسطينية كانت افكارهم اخطر على الاحتلال من نيران المقاومة في احيان كثيرة ، مما استدعى لجوء الاحتلال في مرات عدة لإسكات ضمير المثقف ، وقتل فكره التحرري ، بل وقتل مجموع اعماله وثقافته التي هي امتداد لحضارة عريقة لا تخضع لسياسة بقدر انها تخضع لميراث حضاري تاريخي ، شكلت بمجموعها سمات ولغة المثقف الفلسطيني وهويته ، وقد ظل بمختلف ابداعاته شكل من اشكال هذا النضال في الوطن والشتات ليسجد روح البقاء والارتباط بالوطن رغم سنوات اللجوء ، ودفع ثمن ذلك من شهادة واعتقال ، بما شكله من هوية فلسطينية حاضرة رغم غياب الحرية .
وقد وجدنا كثيرا من الكتاب والأقلام والمفكرين قد اجتمعوا في اعمال مشتركة وحدتهم في شتاتهم شكلت فيما بعد مراجع وطنية ومنهل من مناهل العلم ، على مدار سنوات طويلة من الحركة الوطنية الفلسطينية ، وساهمت في نشر الثقافة ، لإيمانهم بفكرة واحدة وهي الوصول للحرية والاستقلال ، لكن سرعان ما اصطدموا بواقع جديد ارق وشتت افكارهم وبعثر اوراقهم وصفحاتهم وانهك عزيمتهم ، بوقيعة الانقسام السياسي الذي افرز بنتيجته سلطتين ، اضيفت الى حالة الفصل التي تعرض لها مثقفي الداخل الفلسطيني ( اراضي عام 1948 ) عن محيطهم ، في الضفة الغربية وقطاع غزة .
*واقع المثقفين الفلسطينيين وعلاقتهم بالسلطة :
ومن المعروف ان العلاقة بين المثقف والسلطة ينتبها الشك والريبة وحالة المد والجزر وعدم الثقة ، وقد شكلت صراع تاريخي بينهما ، انعكست في كتابات المفكرين والأدباء والمثقفين منذ أقدم العصور ، باعتبار ان السلطة الحاكمة تسعى لتقويض وتقييد وضبط واحتواء افكار المثقف بما يخدم مشروعها السياسي ، فيما المثقف يبحث عن ذاته واستقلاليته التي تحمي فكره للوصول لمرحلة التأثير والتغيير في المجتمع ، وبذلك من الصعب ان يجتمعان في نقطة التقاء ، فيبقيان في حالة صراع دائم وتجاذب بين محاولة السلطة استقطاب المثقف او اقصاء فكره في حال فشل الاستقطاب ، فيما يبقى المثقف في حالة كفاح دائم تحمي بقاء افكاره رغم كل ما سبق من محاولات للحد من وصولها الى المجتمع ، فالمثقف يريد ان يفرض سلطته الفكرية ، والسلطة تريد ان تفرض سلطة افكارها ، وقد رأى ادوارد سعيد متأثرا بأفكار غرامشي ضرورة استقلال المثقف عن السلطة ، واعتبر ان المثقف الحق هو من لديه افكار يعبر عنها لغيره وعليه ان يستمسك بقيم عالية كالحرية والعدالة وعدم قبول الحلول الوسط باعتباره مشاركاً في الحياة العامة كما عليه « تمثيل» العامة في معارضة جميع اشكال السلطة ، منطلقاً مما يؤمن به من قيم ومبادئ انسانية عامة ومؤكداً ان ينهض المثقف بدور الهاوي وليس المحترف.
واذا كانت تلك حال العلاقة بين المثقف والسلطة كما شخصها كبار المفكرين في العالم ، فما بالنا بسلطتين نشئتا في ظروف الانقسام السياسي ، بجغرافيتين متباعدتين ، جعل لكل سلطة خصوصيتها وسياستها التي تفرضها على الارض في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة ، ولكل سلطة فكرها ومنهجها السياسي الذي تروج له ، مما فرض على المثقف الفلسطيني ، ان يتعايش او يواجه المتغير الجديد ، بل ويصل به في احيان كثيرة الى التصادم مع الاطراف السياسية بل وأجهزة الامن القمعية ، كدليل على فشل السياسة في احتواء المثقف وأفكاره وتبني حالة التغيير التي يدعوا لها والأفكار الديمقراطية والقيم العامة والتي تهدف الى الارتقاء وتوحيد مكونات المجتمع تجاه ذلك ، وقد يكون الاعلام ساهم بشكل كبير في تغييب دور المثقف مما خدم السياسيين وظهور افكارهم على حساب عقلانية الفكر الذي يخدم المجتمع ، مقابل فكر السلطة الذي يخدم السياسة الحاكم .
ولو سلطنا الضوء على المثقف المقدسي سنجد انه عايش حالة من الابعاد القسري عن مدينته في احيان كثيرة من قبل سلطات الاحتلال ، اضافة الى مواجهته لظروف معيشية صعبة وضعته في خيارات مصيرية ، بينما لم تتبنى السلطة دعمه وحمايته من اعتداءات الاحتلال ، فيما خضع مثقفي الشتات لحالة الاغتراب الدائم والحنين للوطن ، والغربة الموحشة ، وتصادم حياته المشتتة مع ثقافته الوطنية ورسالته التي يحملها ، وكان مطلوب منه ان يحافظ عليها وهو يعيش بين حضارات اخرى ، فيما خضع مثقفي اراضي عام 1948 لقوانين دولة الاحتلال ومحاصرة افكارهم الوطنية التحررية ، وفصلهم عن محيطهم الفلسطيني ، وخضع مثقفي قطاع غزة والضفة الغربية لسلطة الامر الواقع بل وحملات الاعتقال وتقويض حرياتهم ، فيما بادرت السلطتين الى استقطاب بعض منهم ليحملوا شكلها السياسي ، الا ان سرعان ما خلق ذلك حالة طلاق واستقالة المثقف من العمل السياسي والرجوع الى عمله الفكري وابداعه ذات الفضاء الحر ، وحتى من لم يحالفه الحظ في الطلاق بينه وبين السلطة وارتبط بها بشكل او بآخر ، فقد خلق ذلك تناقض بين فكر ومبادىء المثقف التي يحملها ، والانسياق الى مربع مصالح السياسيين ، وقد يكون بذلك قد خان منطلقاته ، فيما خيب ظن جمهور كبير في المجتمع كان يرى فيه الرافعة والنهضة والثقة الكبيرة .
والمثقف يتأثر بجميع الاشكاليات المحيطة به ، ويحاول بدوره ان يؤثر في المجتمع ، لكن الوضع الاقتصادي السيئ انعكس سلبا على اداء المثقف الفلسطيني الذي جعله بين خيارات توفير متطلبات صموده الاجتماعية اليومية ، واستمرار تدفق عطاءه الوطني ، مما جعله عرضة للابتزاز السياسي ، والحاجة الملحة لتزاوجه بالسلطة لدافع اقتصادي ، فيما اخرون فضلوا الصمود والتمترس وراء افكارهم التي بمجمل ما اكتسبها المثقف وحصيلتها تجير لخدمة الشعب وليس لصالح السياسيين وسلطتهم . وقد يكون المثقف كادحاً ، لكن مثقفي الطبقة الوسطى او الاغنياء منهم ، قد يكونوا الاوفر حظا في نشر افكارهم ، وهذا مؤشر على ان الحالة الاقتصادية تلعب دور في نشر الوعي لكن لا تؤثر بالمطلق على مبادئ المثقف الحقيقي حتى لو كان فقيرا.
وقد اصبحنا امام صراع المثقفين المؤطرين ، الذين خضعوا للتجاذب السياسي ، ورهينة فكرهم المنحاز ، وشوشوا على المثقفين الواقعيين الذين مازالوا موضوعين في طرحهم ، مما وضع المجتمع الفلسطيني في حالة عدم ثقة بالأفكار المطروحة ، ومدى مصداقيتها ، واصبح مطلوب من المتلقي ان يتحسس ويبحث وراءها بعد ان كانت تؤخذ على محمل الثقة كونها صدرت من رموز في الفكر ، ولهم امتداد ايديولوجي عريق ، الا ان السياسة عبثت بأفكارهم وجعلتهم محل انتقاد ورهينة المواقف والأحكام التي خرجت عن مسار الحكمة ، وقد يكون الاعلام أحد الاسباب في ذلك بعد ان كان البحث في وسائله عن المثقف الحقيقي لنشر الاراء الواقعية والقيم الايجابية التي تساهم في الارتقاء بالواقع الذي نعيشه ، تحولت الى وسائل للشهرة والبحث عن الحدث وخلقت مثقفي وسائل الاعلام و بعض المثقفون المزيفون كما وصفهم باسكال بونيفاس في كتابه.
*نماذج في علاقة المثقف الفلسطيني بالسلطة :
لقد حدث ان حاولت السلطة تجميل صورتها ذات المفاهيم التسلطية والتي يجب ان لا تخرج عن حكامها وان تصب في مصلحة بقاءها ، وذلك بتطعيم بعض حكوماتها بمثقفين بارزين يحملون افكار تقدمية ، واقعية ، استشرافية ، وغيرها من المفاهيم ، ليس ذلك من باب التغيير في اداءها بقدر تحسين صورتها النمطية امام العامة ، وتوهم المجتمع أنها اصبحت تؤمن بتلك الافكار القريبة من الشعب ، لكن سرعان ما ظهرت الفجوة بين المثقف والسلطة مع اصطدام فكر التغيير لدى المثقف ، بتصلب مواقف السلطة وتمترسها السياسي والضرب بعرض الحائط بهذه الافكار المتقدمة وعدم الاكتراث لها بل وفي احيان تهميشها ، مما حذى بالمثقف حتى ان وصل الى منصب سيادي كبير في السلطة ( وزير مثلا ) بعد كل محاولات الاغواء له ، ان يستقيل من هذا المنصب ، لإيمانه العميق بأن السلطة تكبح افكاره وتقيد منهجه التنويري ، بغياب الارادة الحقيقة لدى هذه السلطة على التغيير ، وتحججها بمشاكل الداخلية والسياسية ، فيما هناك نموذج تساوق مع الطرح السياسي لأحد السلطتين وارتبط بشكل مصلحي بها ، وجير فكره لحسابها ، واستخدمته السلطة اداء لتسويق اطروحاتها ، مما يؤكد في نفس المضمون ان وجود الاحتلال ليس شماعة نعلق عليها اخطاء اداء السلطات . وفي نموذج اخر نجد المثقف عرضة للملاحقة والاعتقال السياسي وهذا ما حدث في الضفة الغربية وقطاع غزة مرارا ، مما اثار حفيظة الهيئات والمؤسسات الحقوقية واستفز الكتاب ودق ناقوس الخطر لدى المثقفين بأنهم جميعا معرضون لنفس هذا المصير ، وجعل من الضروري الوقوف موقف جاد اتجاه السلطة وتجييش الاقلام والمنابر لوقف هذه الظاهرة ، لكن الواقع السياسي الفلسطيني ، تجاهل هذه الاصوات واعتبر ان الامن الذي يحمي افكار السلطة ، اهم من تلك المنابر التي تنادي بوقف اعتقال المثقفين ، وهنا بتنا امام تيارين منهم ، تيار قاوم واستمر في دفع ثمن مواقفه ، وتيار استسلم للامر الواقع واعتبر ان كلمة السلطة اعلى من كلمته.
وفي سياق منفصل نضجت بعض المحاولات الخجولة من قبل السلطة لتكريم بعض المثقفين والمفكرين ، لم تفضي بالنتيجة الى تصالح السلطة مع المثقف ، بل ان النزيف بقى قائم باعتبار ان هذه السلطة غيبت قامات ثقافية كبيرة على مدار سنوات لمجرد معارضة افكارها معها ، وهمشت دورهم وقللت من اهمية حضورهم في المجتمع الفلسطيني رغم انهم تركوا بصمة في الحياة الثقافية وكرسوا حياتهم من اجل الوطن ، الا ان الاختلاف السياسي حال دون التصالح معهم ، بل حتى المتصالحين ولو ضمنيا مع السلطة جاء تكريمهم متأخرا ، لغياب الاهتمام الرسمي بدور الثقافة الفلسطينية في حماية المشروع الوطني بالمجمل .
ويبقى المثقف بذلك في حالة صراع مع النفس بين التمسك بالمبادئ ، وحرية قد تكلفه الكثير ، وخيار مغريات السلطة وحبس الافكار وتوظيفها مقابل ثمن ما ، ليفقد دوره الحقيقي والتاريخي منذ القدم بتنظيم العلاقة بين السلطة والشعب ، ويفقد مصداقيته امام هذا المجتمع .
أما المؤسسات الرسمية التي تعنى بشؤون المثقفين وعلى رأسها وزارة الثقافة خضعت لحكم السلطتين ونشر سياسة كل منهما والعمل على استغلال هذا الصرح لنشر افكار كل سلطة منهما احدها تدعوا الى نهج الاسلامي السياسي وفق اجندتها ، واخرى تناهضه ، ولم تخضع لمثقفيها بل حاولت اخضاعهم وتطويعهم لتنفيذ اجنداتها السياسية ، وعلى المستوى الرسمي هُمش دور وزارة الثقافة امام باقي الوزارات والمؤسسات الرسمية ، ولم يعد بالضرورة ان يتولها احد كبار المبدعين والمثقفين الفلسطينيين ، بقدر انها حالة ارضاء لفصيل او تيار سياسي ما ، تحت ذريعة التوافق الوطني ، فيما لم توفر موازناتها لدعم المثقفين وابداعاتهم ، وافتقدت دعم المواهب الخلاقة والجديدة والجديرة بالاحترام ، بقدر انها انغمست في التجاذب الفكري بين السلطتين في قطاع غزة والضفة الغربية ، وبين منهجين في ادارة السياسة مختلفان حتى في البرامج التحررية ، مما انعكس ذلك سلبا على الثقافة الفلسطينية وضاعت الهوية بين الفكر الاسلامي السياسي وبين التيار العلماني ، واليساري والتيارات الاخرى .
وبالمجمل لو قارنا بين مجموع ما يصدر من مؤلفات وإصدارات وإبداعات فردية وبجهود شخصية ، عن ما يصدر عن المؤسسة الثقافة الفلسطينية الرسمية سنجد ان لا مقارنة احصائية وتفضح عجز المؤسسة الرسمية في دعم ابداعات مثقفيها .
*المثقف في مواجهة الاحتلال :
ان الاحتلال الاسرائيلي منذ وجوده في فلسطين عمل على طمس الهوية الوطنية بامتدادها الكنعاني ، وهذا حال أي استعمار يأخذ في اولوياته سياسة طمس الثقافة والهوية الحضارية للبلد المُستعمر ، واهم نموذج في ذلك ، الاستعمار الفرنسي للجزائر الذي عمل على فرنستها ومحاولة نزع الهوية العربية الاسلامية ، على مدار 130 عام من الاحتلال ، وعلى غرار ذلك جاءا الاحتلال الاسرائيلي ليخفي معالم الثقافة الفلسطينية ورموزها ، فحارب افكارهم وطارد كتبهم ، وحجم تنقلهم ، واعتقلهم ، بل وابعدهم في احيان اخرى ، ومنهم من استشهد بفكره ، وبما يحمله من ارث فلسطيني اصيل جسد روح النضال . وعلى مدار سنوات الاحتلال سعت اسرائيل على اخفاء المعالم الثقافية الفلسطينية ، ونسبتها لها ، وذلك في محاولة لتجهيل الجيل الصاعد بتاريخه وتزويرا للحقائق لدعم الرواية الاحتلال ، وكان لازما على المفكر والمبدع الفلسطيني ان يشكل حاجز صد لكل هذه الاعتداءات التي طالت عصب الوجود على هذه الارض ودحض كل الافتراءات وتزوير التاريخ وتجريدنا من ثقافتنا بل وتضليل العالم بالرواية الجديدة التي تعزز وجود الايادي الامبريالية ، فيما وقع المثقف بين ناري السلطتين والاحتلال ، مما زاد العبء عليه للقيام بدوره المهم الذي من المفترض ان يلعبه الان ، خاصة في عملية تثقيف الاجيال بقضيتنا المركزية ، ونشر الوعي في صفوف العامة ، امام كل التحديات ، من تهويد للمقدسات وتغيير اسماء المعالم الحضارية الفلسطينية ، وتحييد الانظار عن حقيقة تهويد التاريخ لصالح مستقبل الاستعمار . وقد شكل المثقف الفلسطيني حالة فسيفساء نادرة بكنعانيته ومسيحيته وإسلامه وفكره وإبداعه رسمت سمات الوطن في حضوره ، وناضل كمثقف ثوري من اجل تعزيز المنطلقات التحررية دعما للحقوق الثابتة ، جنبا الى جنب مع فئات المجتمع ليشكلوا صورة متكاملة لتحقيق الحرية ، من خلال فرض روايته الفلسطينية على رواية المحتل الاسرائيلي .
*ابداعات المثقف بين السلطتين والاحتلال :
كثيرا من اعمال المفكرين والمثقفين العالمين منعت من النشر بما يتنافى مع حرية التعبير ، ولما تحمله افكارهم من تنويرية للمجتمعات قد تفضي بالنتيجة الى ثورة تغيير، وهذا يفضح كثيرا من الحقيقة التي تخفيها السلطة الحاكمة ، الا ان التغيرات السياسية في العالم ، ساهمت في خروج بعض افكار المثقفين الى النور رغم محاولات حظرها ، وحتى ان خرجت متاخرا فقد اثرت في القارىء والمتابع لها ، وساهمت في عمليات تغيير اخرى فيما بعد .
وفي الحالة الفلسطينية بوجود التجاذب السياسي ، مُنع كثير من الكتاب والمثقفين من ممارسة نشاطهم بحرية ، بل ان كثير من النشاطات كانت تحتاج لموافقة امن السلطات مسبقا ، فيما فرضت الرقابة على المؤلفات ، والإبداعات الثقافية .
اما الاحتلال مع فرضه للحواجز على الطرقات وعمليات التفتيش الدائمة ، صادر الكثير من النشاطات الثقافية ، فيما اعتقل كثيرا من المثقفين او منعوا من التنقل عبر الحواجز لمجرد ابداء الراي ، ونشرا الافكار التي تناهض الاحتلال وتتحدث عن حقوق الفلسطينيين في ارضهم ، وضرورة عودتهم وإعطاءهم حق تقرير المصير ، حتى فيما يتعلق بالثقافة الفلسطينية التي تمتد لالاف السنين ، منذ زمن كنعان ، بما تحمله من سمات تدل على التجذر في هذه الارض ، وهذا ما يرى فيه المحتل فضح لثقافته والتي نشأت على حساب مقدرات حضارة فلسطين ، وحتى الابداعات في الشعر والنثر والفن والنحت والرسم ، وغيرها من الوسائل شكلت ممنوعات لدى الاحتلال الاسرائيلي ، باعتبارها تعزز الوجود الثقافي الفلسطيني .
*مثقفي الثورة ومثقفي السلطة :
لقد ساهمت الثورة الفلسطينية منذ ستينات القرن الماضي في تطور الفكر الوطني وهي امتداد للفكر الوطني الذي جابه الانتداب البريطاني قبل ذلك ، وغذت كثيرا من جوانب الحياة الفلسطينية وشكلت ملامحها الثورية ، وانعكست على كتابها ومفكريها ومبدعيها في الداخل والشتات ، وولدت جيل ثوري جديد يكافح من اجل تحقيق التحرير ، ومع نضوج هذه الحالة كان لابد لظهور المثقفون الثوريون الداعين للأفكار التحررية ، والداعمين بأفكارهم لنضالات الثوار ، وجسدوا صورة ذلك من خلال ابداعاتهم المختلفة التي وصلت الى حضارات العالم الحر الذي كان ينادي بنفس هذه الافكار في زمن الاستعمار ، وظل نشاط المثقفون الثوريون قائم ، طوال فترات النضال الوطني ، وشكل رديف اساسي له حتى يومنا هذا .
بعد توقيع اتفاقية اوسلو غاب كثير من مثقفي الثورة الفلسطينية عن المشهد ولا نستطيع القول انهم اندثروا ، وقد يرجع ذلك لعدة اسباب منها لاندماج وتحول بعضهم الى السلطة لاعتقادهم الراسخ انهم يشاركون في مرحلة البناء لنظام سياسي فلسطيني جديد على الاراضي الفلسطينية التي انسحب منها الاحتلال ، واثر ذلك على عطاءهم الفكري باعتبار انهم اصبحوا ذوا مهام وظيفية ، مرتبطة وذو علاقة وطيدة مع السلطة . اما السبب الثاني بقاء جزء كبير منهم في الشتات وذوبانهم في المجتمعات التي يقطنوها ، اضافة الى حياتهم الاجتماعية الصعبة التي يعشونها مع اسرهم ، فيما جزء من المثقفين حافظوا على بقاءهم رغم كل التغيرات السياسية وعلى استقلالية طرحهم خاصة مع احتدام صراع الايدلوجيات ، حتى في فكر ونهج الثورة ، وليس فقط على الصعيد السياسي ، وشكلوا حالة فلسطينية مستقلة بذاتها تعمل وفق امكانياتها المتاحة لنشر الوعي والفكر الحر والذي يصب في معظمه لمصلحة الحفاظ على النسيج الوطني.
*المثقفين الفلسطينيين وسلطة التكنولوجيا :
لقد شكل الاكتشافات العلمية طفرة نوعية في وسائل الاتصال والتكنولوجيا والمواقع الالكترونية التي ساهمت في نشر كثير من افكار وإبداعات المثقفين الفلسطينيين بحرية ودون رقابة وفتحت امامهم افاق جديدة ، يستطيعوا من خلالها تجاوز كل الحدود ، وتجاوز كل الاساليب التقليدية القديمة ، وجعلت افكارهم تصل الى الملايين في العالم خلال دقائق ، وهذا بتأكيد اثر على اداء السلطة المناهض لفكر المثقفين ، والذي حاول منع وصول هذه الافكار للمجتمع بصفة عامة ، وتجاوز المثقف الفلسطيني بالتكنولوجيا كل القيود الاحتلال واي معيقات فرضتها السلطات عليه وعلى فكره الذي خضع للرقابة طوال سنوات ، وجعلت من الصعب السيطرة على كم الاطروحات ومبدعيها ، والتي اثرت ليس فقط في مجتمعنا بل وصل صداها لمجتمعات اخرى ، تأثرت بها وتبنتها في تحولاتها المجتمعية ، ولم يخضعوا هم للتكنولوجيا وإعلامها بقدر انهم اخضعوها لهم وطوعوها لصالح أفكارهم .
الخاتمة
ان المثقف الفلسطيني عايش هموم مجتمعه ، ونقل واقعه ، بطريقة ابداعية ، وكان المرآة التي تعكس حياة الشعب الفلسطيني في الحرب والسلم ، في الحصار والضيم ، وجسد بإبداعه حالة الصمود للمجتمع بكل بمكوناته ، وقد دفع المثقف ثمن تمسكه بأفكاره التي حتى عندما شكلت حالة جدلية الا انها بالنتيجة كانت تصب في المصلحة الوطنية . وقد اختلف المثقف الفلسطيني باختلاف الظروف المحيطة به ، ولم يشكل حالة مستقرة ، على غرار نشاط المثقفين في باقي الامم ، باعتبار ان حجم القضايا التي كان مطلوب منه ان يعالجها ويتابعها اكبر من أي قدرة على التحمل ، ورغم ذلك استطاع المثقف الوطني ان يحافظ على وجوده وكينونته في ظل استمرار وجود الاحتلال الذي استنزف كل مناحي الحياة الفلسطينية ، اضافة الى حالة الانقسام السياسي الذي جاء على شريحة كبيرة من المجتمع وانعكس سلبا على قضايانا المحورية ، في حين اندلعت ثورات الربيع العربي التي كان لازما على المثقف الفلسطيني ان يقول كلمته فيها باعتباره جزء من الحالة العربية ، وبتأكيد جاءت داعمة ومناصرة لكل الثورات ضد حكومات الاستبداد ورسالة مشفرة بين المثقفين العرب لإدارة دفة الثورات وتوجيهها مع غياب القائد الواحد. والنتيجة التي قد نصل لها ان صراع المثقف والسلطة قائم منذ تكون المجتمعات الحضارية ، لكن الخصوصية الفلسطينية تقضي بان يكون هناك حالة حوار مباشر بين المثقفين وسياسي السلطة ، تعطي هدنة في حالة الصراع الازلي بينهما ، على ان يصب ذلك في مصلحة قضايانا الجوهرية وصولا الى تحقيق امال شعبنا بالحرية والاستقلال . لذلك اعتقد انه يجب ان تخلق حالة من التعايش بين السلطة والمثقف على الاقل في واقعنا الفلسطيني الحالي ، على ان تبقى رقابة المثقف على السلطة قائمة ، لاننا ما زلنا في حالة تحرر ، ونحتاج تضافر كل الجهود نحو مواجهة الاحتلال والاشتباك معه حتى فكريا ، من خلال ان يصل صوت مثقفينا الى احرار العالم لمساندة قضيتنا العادلة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سيول دبي.. هل يقف الاحتباس الحراري وراءها؟| المسائية


.. ماذا لو استهدفت إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟




.. إسرائيل- حماس: الدوحة تعيد تقييم وساطتها وتندد بإساءة واستغل


.. الاتحاد الأوروبي يعتزم توسيع العقوبات على إيران بما يشمل الم




.. حماس تعتزم إغلاق جناحها العسكري في حال أُقيمت دولة فلسطينية