الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فعل الهوية في عقول همجية

محمد عبعوب

2016 / 5 / 8
الادب والفن


بعد ليلية مرعبة لم يذق فيها طعم النوم هو و أسرته جرّاء الانفجارات وأصوات الرصاص التي باتت تسيطر على أجواء العاصمة طرابلس التي تشهد اقتتالا عبثيا بين الجماعات المسلحة المسيطرة على أحيائها بعد سقوط نظام القذافي، واقتسمها أحيائها كمناطق نفوذ لها تمارس على سكانها ارهابا وترهيبا لا مبرر له سوى حالة مرض السادية التي باتت تسيطر على هذه المليشيات قادة وأفرادا؛ بعد تلك الليلة جلس عبد الهادي في صالون بيته المستأجر بحي السراج غربي العاصمة هو وزوجته الأمريكية وابنته، يتدارسون حالة الإحباط التي تسيطر عليهم جراء هذه الفوضى والعنف المنفلت وكيفية الخروج منها..
أعلن أمام زوجته بعد أزيد من شهرين من وصولهما الى البلاد لتحقيق حلمه بالاستقرار النهائي فيها، استسلامه لرغبتها في المغادرة والعودة الى أمريكا لضمان مستقبل ابنتهم وتحاشي الموت على مذبح العبث الذي تحطمت على أعتابه أحلامه التي طالما غازل به عقل زوجته عن بلد يفيض بالخيرات اسمه ليبيا وشعب طيب مسالم ينتشر على مساحتها الشاسعة في ود وتعاون نادرين..
كان عبدالهادي قد عاد الى ليبيا الموعودة وفي عقله فكرة الإقامة النهائية بها هو و أسرته الى أن يرحل عن هذه الدنيا، فقد مل الغربة في أمريكا التي وصلها كطالب مبعوث أوائل سبعينات القرن الماضي، فبهره الفارق الحضاري بين بلده الخارج لتوه من ظلام قرون من الاستعمار متعدد الألوان، وبين بلد ينعم بالحرية والاستقرار ، يقتحم مجاهل الحضارة ويسابق الزمن لقيادة العالم والهيمنة على مقاليده، واتخذ يومها قرارا نهائيا بالتخلي عن ليبيا والحصول على الجنسية الأمريكية ، ثم الزواج بأمريكية ، الى أن بدأت تتضح له أوهام الانتماء المصطنع وبدأت تعتمل في نفسه مشاعر الحنين الى الوطن ، خاصة بعد تبليغه بنبأ وفاة والدته ثم والده، وبدا يستعد نفسيا للعودة وإقناع زوجته بقراره، الى أن جاءت فرصة حراك فبراير عام 2011م الذي انهي نظام القذافي ليقيم محله دولة اللانظام والفوضى التي لم يتوقعها عبدالهادي المفتون بالدعاية المضللة عن ثورة واعدة بسلام وبحرية وديمقراطية، لا وجود لها سوى على صفحات التواصل الاجتماعي وشاشات قنوات التضليل المأجورة.. وعاد الى وطنه قبل أن تستولي عصابات الفوضى على العاصمة وتدخل في تناحر دموي على سلطة وهمية حولت المدينة الى ساحات قتال عبثي ، أجبرته على اتخاذ قرار العودة من حيث أتى..
كانت أصوات زخات الرصاص والانفجارات تقطع حواراته مع زوجته وابنته وتشل تفكيرهم في كيفية الانسحاب من ذلك الحي الذي تحول الى محور مواجهات عنيفة بين المليشيات المتصارعة على الأوهام.. خلال هذه الجلسة المتوترة قررت الأسرة بشكل نهائي إخلاء البيت والانسحاب الى حي أهدأ كخطوة أولى عاجلة للإعداد لمغادرة ليبيا نهائيا.. و تم الاتفاق على اللجوء الى بيت الأسرة القديم في حي سوق الجمعة شرق العاصمة، ومن ثمة البدء في التخطيط للعودة الى منفاه الاختياري أمريكا.
انهمك الزوج في تفكيك بعض قطع الأثاث البسيطة بالتعاون مع زوجته، فيما انغمست ابنتهم في جمع وترتيب حقائب الثياب ومقتنياتها الخاصة.. اتصل بأحد الأصدقاء يمتلك سيارة نقل خفيف لنقل ما جمعه من أثاث ومقتنيات تخصهم.. تمت عملية الشحن بشكل مستعجل خوفا من سقوط القذائف العشوائية التي يطلقها مراهقون من أعضاء المليشيات المتناحرة بدون أي تمييز في جذل وفرح يعكسان حالة الجنون التي تسيطر على عقولهم.. توجه هو و زوجته وابنته نحو حي سوق الجمعة الهادئ نسبيا حيث بيت والده القديم، وكان صديقه يتبعه يقود سيارة النقل.. على الطريق الساحلي استوقفتهم بوابة تابعة لإحدى المليشيات المشاركة في هذا القتال، وجه له شخص يتمنطق بشريط من الرصاص ورشاش "بي كي تي" سؤال عن هويته وعن انتمائه المناطقي، فأعلن انه ينتمي الى منطقة سوق الجمعة.. ويا له من جواب كارثي، فهو لا يعرف انتماءات المتصارعين على محاور العنف التي تعبث بالمنطقة، ولا يدرك أن إعلان انتمائه الى سوق الجمعة سيدخله الى محاشر الاعتقال الوحشية، هذا إذا لم تزهق روحه برصاصة في الرأس لا يزيد ثمنها على ثمن رغيف خبز..
- من سوق الجمعة!! انزل انزل.. ندورو فيكم في السماء جئتنا للأرض برجليك.. انزل..
سيطرت حالة من الرعب على عبدالهادي خوفا على زوجته وابنته، نزل مرتعشا وهو يردد أنه ليس له علاقة بأي مليشيا وانه ثائر وأنه كان معارضا للقذافي، وبدا يهذي بكلام لم ولن يفهمه ذلك المتوحش الذي يتعطش للدم والقتل تحت أي لافتة.. وفيما هو يهذي وذلك المسلح يمارس من خلال نظراته وتعابير وجهه القاسية إرهابه عليه، تدخل مسلح آخر يبدو انه المسؤول على البوابة، وطلب من صديقنا المرعوب إثبات شخصي يثبت هويته، سارع عبدالهادي بدك يده في جيبه ومد له بجواز سفره الأمريكي.. نظر هذا المسؤول الى الجواز الذي لا يحمل أي كلمة عربية، وسأل صاحبنا:
- مش قلت انك ليبي من سوق الجمعة.. من وين هذا الجواز ؟
- أنا ليبي في الأصل لكني من زمان هاجرت الى أمريكا و احمل الجنسية الأمريكية.
- يعني أنت أمريكي وزوجتك أمريكية؟
- نعم أنا مواطن أمريكي من أصل ليبي.
انهار ذلك المسلح الذي كان أسدا قبل دقائق ليتحول بعد سماع مصطلح "مواطن أمريكي" الى جرذ يتمسح بأذيال من كان سيتحول الى ضحية له، وصاح في وجه ذلك الشاب المتمنطق بشريط الرصاص معنفا اياه:
- هذا أمريكي يا حمار كيف توقفه؟ أنت بتورطنا مع الأمريكان.. ونحن ما عندنا قدرة على كمشة فروخ من بلادنا..
موجها كلامه الى عبد الهادي الذي استرد عافيته وارتفعت معنوياته بفعل الأثر الذي تركته عبارة // U S A// التي تتربع على جوازات سفره في عقل تلك الشراذم المسلحة، وقال:
- تفضل أستاذ سامحنا هؤلاء شباب صغار لا يعرفون معنى ان يحمل الإنسان هوية أمريكية..
والحق اعتذاره بنصائح عن مسالك مأمونة تمكن هذا الأمريكي الليبي من الوصول بسلام الى وجهته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض