الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية القلم الضال (3)...حوار مع الذات

ساكري البشير

2016 / 5 / 17
الادب والفن


رفع رأسه من على الورق، يرمي ببصره في كل الإتجاهات، تارة لليمين، وأخرى للشمال، وقلبه يخفق بشدة، كأنه فاقد بصره، ثم يرفع رأسه ناحية النافذة التي تقع في الجدار الخلفي، ليرى أن الليل قد رمى بستاره على سماء تلك الأمسية، ببهجة يسترجع قلبه نبضاته العادية، وإغرورقت عيناه دمعا...
قبل أن تتجمع الدموع في مقلتيه، وتسقط على خده، أدخل نفسا عميقا لرئتيه، تتبعها شهقات متقطعة، حالما يراه الراؤون يظنون بأنّ روحه تخرج من جسده..
لم يكتب بالقدر الذي كتبه في هذا اليوم، قد تكون السعادة الحقيقية والصادقة بهذا الطعم، وبذلك الشكل، مثلما لم يدرك تماما، أن الكلمات، عندما تكون صادقة المشاعر، فهي تخرج من أعماقنا كما تخرج الروح من الجسد،...
كانت نهاية اليوم جدُّ شاقة على كاتب مبتدئ، فإكتفى بما كتبه، وجمع أوراقه وأقلامه في حافظة قديمة، ذات اللون الأزرق، تسودها بقع رمادية، ثم وضعها في خزانته وأقفل عليها بإحكام، كي لا يراها غيره، كانت كل كتاباته سرا بينه وبين نفسه، ولا يشاركه فيها إلا الذي يعبده، فالله وحده الذي يعلم بكل سريرة، لهذا كان يطلب في دعائه أن يحفظ سره، فمتى تكون هذه الكلمات ممنوحة للجميع؟ متى تصبح كتابا يروي لنا قصة إنسانية بعيدة عن الإنسانية الجوفاء، فهذا ما تخفيه الأيام عنا، وهي وحدها التي ستكشف لنا هذا السر...
بعد حوالي أربعة ساعات، من قضاء حاجاته من مأكل وسهر، يذهب بأدراج هادئة إلى فراشه، وإستلقى على ظهره، ليفتح عينيه على فضاء حالك السواد، والقمر يتوسط السماء بنوره كلؤلؤة، تضيء بخيوطها قلوب العشاق، تحيطه النجوم في شكل دائري، تشبه سيمفونية حزينة نسجتها الطبيعه بألوانها المختلفة، فعلا كانت ليلة خيالية...
في هذه الأجواء التي يخيم عليها السرح الخيالي، بعد صمت وسكون طويل، يرى نفسه تائها في إحدى المدن الكبرى، يتلمح شوارعا، وإناراتها، بل يلمس كل ما كان يمر به حتى وصل لميناء البحر، فوجد شابا في العقد الثالث من العمر، أسمر البشرة، عريض الجبهة، ليس بطويل ولا قصير القامة، يظهر الإكتئاب والتعب عليه، كأنه يحمل الدنيا فوق ظهره.. والغريب أنه يرى فيه وجهه، و ملامحه صورته، بل نسخة أصلية قد صنعها الخالق، فأصابته الحيرة والدهشة، لهول ما يرى، هنا تبادرت الإستفهامات تتوالى، وتزاحمت الكلمات على لسانه...
وقف وراءه على بعد أمتار ليسمعه يقول بصوت هادئ تمزجه أصوات أمواج البحر، " هنا ترسي سفني شراعها، وتنصب مخيمات الأفكار..."
لم يكن ذلك الصوت غريبا عنه، أو ربما قد سمعه من قبل، هو صوت مألوف، وبعد لحظات يتوجه ذلك الغريب نحوه، وبعد خطوات قليلة متماطلة، وقف أمامه، ليصاب إبراهيم برجفة كبيرة، وأصبحت رجلاه تتضاربان، وكأنه يرقص على نغمات الطبل..
نعم! إنه هو هو، وليس غيره، هو نفسه واقف أمامه..
رفع إبراهيم يده يلمسه فلم تقع يده على شيء ملموس، ليس بجسد، ولا هو بمادة، بل هو ظل يمشي على الأرض، فإزداد خوفه، وأرسل الجسد تلك الرسالة العصبية التي تنبه الدماغ بخطر محدّق، ليبعث بدوره الأندريالين، وينتشر في كامل أعضاء الجسم كما ينتشر الدخان في الفضاء...
صاح إبراهيم في وجه ذلك الظل" من أنت بحق الجحيم؟ من تكون؟ ومن أين أتيت؟"
فأجابه الظل بهدوء تام، وببرودة أعصاب " ألم تعرفني؟"
فردّ عليه إبراهيم مسرعا ومتلعثما " لالا أنا لا أعرفك..ولم أرك مسبقا"
صمت الظل للحظة، ثم أطرق برأسه مبديا تعجبا كبيرا " ربما! إذن إعلم أنني أنا أنت"
قال إبراهيم وهو بحالة من الخوف الشديد " كيف يُعقل هذا؟ لالالالا أنا أحلم...أنا في حلم"
فإلتفت إليه الظل ضاحكا " لا تخف، أنا الروح التي تسكنك، هذا أنت، وهذه حقيقتك، كنت دائما خائف، وستظل كذلك إلى أن تجد طريقة للتخلص منه"
قاطعه إبراهيم قائلا له " أنا خائف! أنت تمزح... أنا لا أخاف أحدا، ولا يمكن أبدا أن أخاف...كيف لك أن تقول هذا عني؟"
إقترب الظل كثيرا، ووضع فاه على أذن إبراهيم ليهمس فيها " أنت تخاف من أن تكون كاتبا، لأن الفشل يعتريك ، وتخاف من أن تكتب عن عالم تسوده الألفة والمحبة لأن قلبك تمؤله الكراهية، وتخاف أن يعلم الناس أنك تريد أن تزرع في قلوبهم الحب لأنك تحاول الهرب من واقعك، ربما لم يحالفك الحظ يوما بأن تكتب عن ذلك الشعور الذي يتمناه الجيمع، ولكني أقدم لك نصيحة من ذهب، حاول أن تنشر الحب الذي في قلبك، وإزرعه في قلوب غيرك، فالجميع قد سئم من الكراهية، وقد عجّت الأرض وإرتوت بدماء البؤساء، ألم يكفيك هذا حتى تزيد من الطين بلة؟ الجميع ينتظرك...إذهب وأكتب وسترى أن الجميع يشتاق لتلك الكلمات الصادقة".
إختفى الصوت من مسامع إبراهيم، وهو يلتفت من كل النواحي باحثا عنه، فلم يجد سوى تلك السماء التي كان يراها قبل يبحر داخل ذاته، لم تكن هذه الألفاظ مجرد كلمات قد عبرت على مسمعه، بل كان يدرك بأنها نابعة من داخله، لتزيح عنه ثقل الكراهية التي أصابته كداء لازمه منذ الصغر..
إذا كانت للحياة منعطفات تغير الإنسان من حال إلى حال، فذلك هو المنعطف الذي إتخذه إبراهيم دليلا له، وهدفا لكتاباته..
تزحزح من مكانه، وإستلقى على كتفه الأيمن، باحثا عن كلمات يعبر بها عن معنى للحب، ويتسائل إن كان لهذا الحب أن يمنع حربا قد أُعلنت، أو أن يطفئ لهيبها في كل قارات العالم، أو أن تشعل شمعة جديدة تنير درب جيل ناشئ بين الحروب....
نام إبراهيم وهو يتأمل هدفه الجديد، والإبتسامة مرسومة على شفتيه..
كل قلب مظلم له من النور ما يمكّنه من القضاء على تلك الظلمة، هكذا كانت السماء بقمرها ونجومها تُعلم إبراهيم، فلم يكن البدر يحمل داخله نورا، إلا أن قلبه كان نقياّ فعكست طبقته المرآتية نورا من شمس النهار...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد