الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رقم البيت ...صفر

دينا سليم حنحن

2016 / 5 / 24
الادب والفن


رقــم الــبيت... صــفر
دينا سليم – أستراليا

تلتهب الشمس في حضن الأفق قبل ساعتين من وقت المغيب، نزلت على دماغي فتذكرت تماما الجرح العميق، ها أنا هنا الآن وفي مكان عشت فيه طفولتي وأيام شبابي قبل أن أنتقل إلى شمال البلاد للإستقرار، ومنها كانت محطتي الأخيرة في أستراليا، أيام كثيرة تدنو من بئر عميقة لتنتشل الحقيقة وهي أننا عشنا في بلاد لا تعرفنا ولا تريد أن تتعرف علينا، أقصد فلسطين.
صوت من بعيد يناديني فيمر شريط الذكريات سريعا في مخيلتي التي التهمتها أشعة الشمس لتبخرها بعد أن أنتهي من كتابة هذا النص.
قال لي أستاذي في مرحلة الثانوية (لا تكشري فعندما تكبرين ستجدين آثار الكشرة محفورا بين حاجبيكِ) وعندما درست في الجامعة، فوجئت بأنه سيكون أحد أساتذتي، قال لي (هل تدركين أن الجراح القديمة التي تترك آثارا تدل على ذكاء الشخص، أنت ذكية جدا)، لمست رأسي ومن بين خصلات شعري الطويل تحسست الجرح القديم الذي اختبأت داخله ذكريات كثيرة، أهمها أن والدي رحمه الله، نال حصته من ذات الحادث الذي حفر عميقا في شاربيه، عندما وقعنا معا ذات يوم من على الدراجة الهوائية، أنا دخلت المشفى مدة طويلة، صارعت الحياة كثيرا وعشت حتى الآن من بعد هذا الجرح العميق، أذكر الدماء التي سالت من وجهه عندما بكى حرقة، حملني وركض بي نحو أول سيارة أجرة توقفت فاكتظ المفرق بالناس، لكي تقلّنا إلى أقرب مشفى، لم أذكر شيئا من بعد هاتيك اللحظة سوى قميص والدي الملطخ بالدماء.
جرت العادة، وبما أنني ترعرعت في مدينة مختلطة، أن نجابه النيران بالدهشة والتساؤل، أقصد نيران أضرمتها الفئة الدينية المتعصبة (الحريديم) للدولة اليهودية، في أحشاء لعبة تدلّت من الشجرة صنعت من القماش المحشو بالقطن، وإشعالها في أثناء مناسبة تسمى (لاغ باعومر) أو عيد الشعلة، ودائما كانت اللعبة على شكل وهيئة الرئيس السابق جمال عبد الناصر، والمغري في الموضوع هو أن النيران جابهت جسدا وهميا خوفا منه وليس نقمة أو حقدا عليه، لأنهم رددوا في حينه شعارات تشي بالخوف والرهبة.
الطفلة التي هي أنا تتحسس جرحها الآن الذي ما زالت آثاره عميقة في رأسها، فحك الجرح المتعافي لا يؤلم بل يخرج ما احتوى من ماض أعتبرته منسيا، لولا هذه الذاكرة التي تدعني أستخرج منها صور هؤلاء المتعصبين واللذين تحوّلوا بقدرة قادر إلى أجساد تشبه البطاريق، وذلك عندما عدت إلى البلاد وفي مشواري الأخير لكي أبحث عن بيتنا العتيق.
سقطت الشمس ساعة المغيب داخل البحر المتوسط فتعافيت من أشعتها الحارقة قليلا، لكني لم أتعافَ من مشهد أدهشني وخرم عقلي، جماعات من البطاريق تسير أمامي، مئات، بل لنقل ألوف، دعاني أنتظر أكثر من ساعة حتى مرّ الحشد من أمامي قاصدا ذات البقعة التي مررنا فيها سابقا أنا ووالدي، تلك البقعة، ذات الساحة المستديرة التي أحاطت شجرة الكينا المعمرة الواقعة قرب محطة القطارات في المدينة، سقطنا في منطقة قريبة منها تدعى (سيبوب، تقاطع، الرملة اللد)، حيث مصنع الثلج العتيق، هناك امتلأت الوجوه الرحيمة التي بدأت تبحث عن شيء تساعد الوالد وطفلته لتمنع عنهما موتا محققا، يعتبر التقاطع مكانا خطيرا مكتظا بالمركبات السريعة الآتية من القدس نحو تل أبيب، أو الرملة واللد وبالعكس.
وتساءلت، هل هم هؤلاء الذين ساعدونا وقت الحادث، هل هم هؤلاء الذين أنقذونا من موت محقق، هل هم هؤلاء الذين ضحكوا معنا على ذات الطرفة في يوم ما، وعندما توفي الرئيس عبد الناصر بكوا على أرصفة الطريق منتصف الليل عندما شيع خبر وفاته، كلا ليست ازدواجية، بل المجتمع اليهودي مؤلف من عدة فئات متناقضة... اليهود لا يتشابهون إلا عندما يشعرون بالخطر.
قلتها لأستاذي وزميلي الذي نعتني بصفة الذكاء، عندما كشفت أمر علاقته الغرامية مع أستاذة أخرى، (ستتركك لأنك من سلالة أخرى، الآن، أنتَ تساندها وهي بحاجة لكَ لأنها لم تكبر بعد، وبما أنها تدرس موضوع السياسة والشؤون الدولية، طموحاتها تتعدى طموحاتك، والتلميذ يكشف معلمه أحيانا، ستقطب حاجباك مثلما كنت أفعل وستظهر التجاعيد على محياكَ أنتَ أيضا)!
كبرنا نحن الثلاثة، أستاذي يعاني من أزمة نفسية حادة بعد انفصاله عن عائلته وتركه لقريته نتيجة عدة زواجات فاشلة، وحبيبته أصبحت سفيرة في بلد ما ومرشحة لمنصب وزاري، وأنا تائهة في عوالمي الكثيرة أبحث عن هويتي التي فقدتها خارج وداخل وطني الذي أضاعني، لكني وبعنادي آثرت العودة إلى مكان مولدي، طرقت سقف حيّنا تحت أشعة الشمس الحارقة، لم أجد بيتي، لم أجدني، تسلسلت الأرقام أمامي من واحد وحتى إلى ما لا نهاية، حككت جرح رأسي القديم مجددا ربما يخرج المارد من الفانوس السحري ليخبرني أين هو البيت... وقفت أمام الركام، بقايا تافهة من البيت الذي ولدت فيه، والتي انهارت جدرانه فأحدثت قبة مكونة من الحجارة والتراب، يا لها من أنقاض تشبه الصفر.
....
معنى "لاغ باعومر":
يعني اسم العيد بالعبرية "اليوم الثالث والثلاثون لتعداد أيام العومر"، وجدير بالذكر أن كلمة "عومر" بالعبرية تقابلها بالعربية كلمة "غمر" وتعني حزمة سنابل بعد الحصاد، ويأتي العيد بعد عيد الفصح (بيساح) פ-;-ס-;-ח-;- بـ33 يوماً، إذ تشعل المشاعل إحياءً لذكرى ثورة الشعب اليهودي في أرض إسرائيل بقيادة شمعون باركوخبا ضد الرومان. وكان ذلك عام 132 الميلادي، أي بعد مرور 62 عاماً على خراب "الهيكل المقدس الثاني".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى


.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدني عن عمر يناهز 81 عامًا




.. المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى الفنان الكبير صلاح السعدني