الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لَيْلَةُ القَدْر هيَ... أم ليلة الميلاد؟ (4)

ناصر بن رجب

2016 / 5 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لَيْلَةُ القَدْر هيَ... أم ليلة الميلاد؟ (4)

 

ترجمة:

بشير ماشطة وعلي بن رجب

 

مراجعة وإعداد:

ناصر بن رجب

 

 

"القَدر" و "السَّلام": من نصٍّ إلى آخر

بإمكاننا، ولا شك، أن نتبسّط مطولا في أفضل طريقة لتفسير وجود كلمة "أَمْرْ" في نهاية الآية 4 من سورة القدر. ومهما يكن من الأمر، فإنّنا نستطيع الآن تقديم جدولٍ يُوازي بين النص القرآني، حسب القراءة المقترحة من قبل لوكسمبيرغ، التي نُدافع عنها في هذا العمل، وبين بعض المقاطع من أنشودة الميلاد XXI للمار إفرآم السرياني.

 

لَيْلَة القَدْرِ خيْر مِن أَلْف سَهَر(س97:3)

 

 

 

 

 

 

 

 

تُنَزِّل الملائكة فيها كلّ أنواع أَمْر/زْمَر (نشيد)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ

(س 97: 5)

 

لا نحسب سَهَرَنا سَهَرًا عاديّا؛ بل هو عيد يفوق أجره مائة ضِعف!

 

عيد، نعم، يُحارب النومَ بسَهَره،

عيد فصيح يُحارِب الصّمت بصوته،

مُرتَدِيًا كلّ البركات، ربُّ الأعياد [رَبْ حَيْلَه = قائد عام] وكلّ الأفراح.

(تسابيح الميلاد XXI: 2).

 

اليوم نَزَلَ الملائكة ورؤساء الملائكة ينشدون أنشودة [مجد] جديدة على الأرض،

 

ينزلون في هذا السّر [= رَزَا: لها معنى ليتورجي، أي الاحتفال بسّر الخلاص] مع الحُرّاس السّاهرين يرقصون ابتِهاجًا،

في حين كانوا يُصلّون تمجيدا للرّب، كان (العالَم) مليئًا كُفْرًا:

مُباركُ هو الطِّفل الذي به دَوَّى العالَم بتهاليل مجيدة!

(تسابيح الميلاد XXI: 3).

 

المَجْدُ لله في السّماوات، والسّلام على الأرض للنّاس أهل رضا الله.

 

مُبْتهِلةَ، صاحت أفواه الحرّاس الساَّهرين: "السّلام!" (لوقا 2: 13-14/أنشودة الميلاد XXI: 10، 1)

 

يظهر بوضوح أن الوصف القرآني لليلة القَدْر يتطابق مع الطريقة التي يَصِف بها إفرآم ليلة الميلاد حرفًا بحرف حتّى في ترتيب المواضيع المُتَناوَلة. بالإضافة إلى ذلك فإن كل مقطع شعري من أنشودة إفرآم بُنِي حسب نفس المبدأ: الفكرة الرئيسية يتم التعبير عنها منذ الآيتين الأوليتين، وأمّا بقية المقطع فهو تستعرِض تناغُماتِها المختلفة. أمّا القرآن، الأكثر إيجازا، فهو لا يتناول من جديد في كل آية إلا الفكرة الأساسية للمقاطع المُطابقة. إذُا، من المحتمل جدًّا أنّ كاتب السورة 97 خضع لتقليد من أصل سرياني يعود إلى أنشودة إفرآم هذه أو إلى ما يشبهها.

 

تبقى الآن حالة الآيتين 1 و2. لوكسنبيرغ يجعل من كلمة "قَدَرْ" ترجمة للكلمة السريانية "حلْقَا" التي يقرّبها من العبارة "بَيث يَلْدا" [بيت الميلاد]. لك في المقطعين الواردين في المُعجَم السّرياني أين نجد كلمة "حلْقا" مركّبة مع عبارة "بيث يَلْدا"، نرى أنّ الحديث يدور عن "تقدير المصائر وأبراج المواليد [مواليد السّنة القادمة]" مع الإشارة إلى أنّ الرّجل التّقي لا يتقيَّد لا بالحظّ ولا بالتّنجيم. فالمعنى الذي تجتمع تحته هاتين الكلمتين لا يخصّ إذًا ميلاد المسيح، بل فقط يتعلّق بمفهوم "القَدَرْ" أو بمفهوم "التّنجيم". وبمعنى آخر، إذا ما توقّفنا عند الاعتبارات اللغوية البحتة، فإنّ عبارة "ليلة القَدَرْ" يمكنها قطعًا أن تُترجِم التعبير السرياني "لَلْيَا دْحَلْقا" أو "لَلْيَا دْبيث يَلْدا"، ولكنّها لا يمكن أن تُتَرجِم "لَلْيَا دْبَيث يَلْدا" بمعنى "ليلة الميلاد". وفي الواقع فإن لوكسنبيرغ لا يؤكد أيّ شيء من كلّ هذا: فهو يقول فقط أن "ليلة القَدَر" تعني "ليلة نجم الميلاد" وأنّ الأمر يتعلّق (ضمنيًّا فقط) بليلة ميلاد المسيح. بديهيًّا، ينبغي علينا أن نتساءل هل أنّ مثل هذه الإشارة الضمنيّة جائزة، أوهل يمكننا اعتبار أن "ليلة القَدْر" هي طريقة مُحتَمَلة لتأديّة معنى "ليلة الميلاد". لذا فإنّه من الضروري هنا أن نقوم بتعريج تاريخيّ قصير.

 

يمكن أن نذكر مقطعا من الكتابات الكليمنتيّة المنحولة (1) [إكليمندس الروماني] (وهو نصٌّ يمتّ ببعض القرابة التيولوجيّة مع القرآن)، والذي تُقدِّم فيه شخصيّة إكليمندس، قبل أن تشرع في توجيه نقدٍ لاذعٍ لعلم الفلك، الأطروحات الأساسية لهذا الأخير: " آخرون أدخلوا القَدَر، الذي يُسمَّى الميلاد، والذي لا أحدَ يمكِن أن يقف ضدّه أو أن يتحمّلَ أعباءه" (IV: 12,3).

 

لا يتعلّق الأمر هنا باختلاقٍ مُعجَمي جديد من قِبَل مؤلِّف الكتابات الكليمنتيّة، بل هو حقًّا وصفٌ لاستعمالٍ متداول. فالقَدَر هو "النّصيب المحتوم المرصود لكلّ شخص"، نصيب محتوم تُحدِّده مواقِع النجوم عند لحظة الولادة. وهذه هي الفكرة بعينها التي يدافع عنها كاتبٌ يعرفه مار إفرآم جيّدا والذي لا يتورع عن نقده إن لزم الأمر، ونعني به بَرْدِيصان الرهوي (154ـ222). وهذا الأخير يربط تحديدا، في مؤلَّفه "كتاب نواميس البلدان" (Ktobo d-nomuso d-étrawoto)، بين القَدَر (حلْقَا) وبين الميلاد أو، بتحديد أكثر، الأبراج (بَيث يَلْدا)، وذلك بأنّ النجوم تلقّت من الله سلطة التأثير على الأرواح عند ولادتها.

 

إذا سلّمنا بأنّ السورة 97 تتحدث عن ميلاد المسيح، وقد أعطانا تحليل الآيات من 3 إلى 5 بعض الحقّ لكي نسلّم بذلك، فمن الممكن جيّدا وقتها وصفُ ليلة هذا الميلاد على أنّها "ليلة القَدَر"، "القدر" و "الميلاد" يمكن فعلا أن يكونا مترادفين. ومن جهة أخرى، فليس من الضروري حتّى المرور باللغة السريانية للتّسليم بمثل هذا التكافؤ بين العبارتين (ولو أن السريانية توفر لنا مثالا لترادف مثل هذا من خلال عبارة "بيث يلدا"). باختصار لا يوجد ما يمنع من التفكير في أن عبارة "ليلة القَدْر"، أو "ليلة القَدَرْ" تشير إلى ليلة الميلاد.

 

بكلّ تأكيد، من هم غير مقتنعين بأن سورة القَدْر تتحدّث عن ليلة الميلاد سيكونون أكثر ميولا لاعتبار هذا الفهم لعبارة "قَدَرْ" هو استدلال خاطئ. زيادة على ذلك، يمكن لهم أن يحتجّوا بأنّه إذا كان التنجيم قد حضي بمُريدين له في الوسط المسيحي، فإنّه قد وقعت إدانته، مثل السّحر، من طرف أغلب السّلطات الدينية، لأنّه كان يلجأ إلى استدعاء الجنّ ولأن الحقيقة التي يروج لها كانت قد تعني إلغاء حرية الإنسان ومسؤوليته (مار إفرآم يتجنب فعلاً كل تخرُّص تنجيمي). أليس غريبا إذًا أن يقع وصف ميلاد المسيح بالاستناد إلى مادّة معرفيّة أُدينَت بقسوة؟

 

تستحِقّ هذه الاعتراضات أن تُأخَذ بعين الاعتبار. يمكننا أن نجيب، في مرحلة أولى، بأنّ التأويلات التقليدية لـ "ليلة القَدْر" غير مقنعة بالمّرة، وبأنّ التقليد السرياني، الذي يشير إلى ميلاد المسيح بالعبارة "بيث يلدا"، سبق وأن قام ضمنيا بربط علاقة بين القدر والنجم والميلاد، وبأنّ رمزية الأبراج ليست غائبة في القرآن (سورة الكهف، الآيات 9-26)، كما أنّه بالإمكان أن نستعمل في معنى إيجابيّ عبارةَ كانت سابقا تتضّن دلالة سلبية (2). ولكن، في مرحلة ثانية، ينبغي لنا أن نذهب أبعد من ذلك ونبيِّن أن التأويل الجديد لـ "ليلة القدْر" يسمح بفهمٍ أفضل للنص القرآني.

 

يَخْرُج كَوْكَبٌ من يَعْقوب...

تعريجٌ تاريخيّ جديد يمكن إذًا أن يكون مفيدا لنا. وهو يتعلّق بالرّوابط بين نجم ميلاد المسيح ونجم يعقوب التي تتحدّث عنها نبوءة بلعام (سفر العدد 24):

 

"أَراهُ ولَيْسَ في الحاضِر، أُبْصِرُه وليس من قَريب، يَخْرُج كَوْكَبٌ من يَعْقوب ويَقُوم رَجُلٌ من إسرائيل (3)" (سفر العدد 24: 17).

 

"وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ الْمَلِكِ هِيرُودُسَ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ وقَالوا: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَقد رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ فأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ». (...) فَلَمَّا سَمِعُوا كَلامَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى المَكانَ الَّذي فيه الطِّفْلُ فوَقَفَ فَوْقَه" (متى 2: 1-2).

 

دراسة التفاسير القديمة المتعلّقة بكَوكْب يعقوب غير واردة هنا. ولذلك سأقتصر على بعض الملاحظات تارِكًا جانِبًا كلّ ما لا يمثّل حجّة قاطعة لقولي.

 

إذا ما اتّفقنا مع النّص السّبعيني، يبدو لنا أن ما جاء في سفر العدد 24: 17 يتعلّق بالمشْيَاح (المِسْيا) (إذا أخذنا بقراءة النّص الماسورتي [التقليدي]، فإن الأمر يتعلق بالأحرى بملك-مَسيح "مُؤَلَّه"). وهذه الآية غالبا ما تَرِد في كُتُبِ ما بين العَهْدَين (دمشق 7: 19؛ تنظيم الحرب 11: 6؛ التَّبْريكَات 5: 27؛ تستيمونيا 12)، ولاسيما في كتاب وصايا الشيوخ الإثني عشر (وصيّة جَاد 24: 1؛ وصيّة لاوي 18: 2-4). يبتعد هذان النصَّان الأخيران بشكل ملموس عن نصّ سفر العدد: ففي حين أنه في العدد 24: 17، يُشيرُ النَّجمُ إلى المشياح، يصبح فيهما النّجمُ علامَةً لمجيئه. كما يُقدّم هذين النصّيْن موضوعين أساسين وهما النُّور والسَّلام (أنظر لوقا 1: 79؛ 2: 14).

 

تتمتع نُبُوءَةُ بلعام بشعبية كبيرة في الديانة اليهودية في الفترة التي دُوِّنت فيها الكتابات التي ستكوِّن العهد الجديد. فهي تلعب دورا يذكر في اندلاع الحرب اليهودية الأولى (66ـ72) والثانية (130ـ35) ــ ونجدها حتى في الكُنْية "بَارْ كُوكَبَا"، (ابن النجم، الكَوْكَب). فليس إذن من المفاجئ أن نجد موضوع النجم، كعربون على قدوم المسيح، حاضرا في إنجيل متى 2: 1ـ2: يُنْبِئُ النجمُ المجوسَ بميلاد المسيح ويقودهم نحو مكان ولادته (4).

 

إنّني أقبلُ بالطبع بأنَّ مُؤَلِّف إنجيل متى وهو يكتب الآية 2 كان يَحْضُر في ذهنه ما جاء في سفر العدد حول هذا الموضوع. لكن مع ذلك، لم تقع إقامة رابط بشكل صريح بين نجم المجوس ونبوءة بلعام إلا في أواسط القرن الثاني مع يوستينوس:

 

"وقَد تَنبَّأَ مُوسى بأنّ المسيح سوف يَظْهَر مثل النَّجْم مِن نَسْل إبْراهِيم؛ إذْ قالَ: "يَبْزُغُ نَجْمٌ من يَعْقوب ومُدَبِّرٍ من إسرائيل. وفي مكان آخرَ نقرأُ: "هُوَ ذَا الرّجُل، الشَّرْقُ اسْمُه. ولذا عندما سَطَع نَجْمٌ في السّماء في وقت مَوْلِده، كما ذَكَر الرُّسُلُ، عَلِمَ المَجوسُ بالحَدَثِ من هذه العَلاَمَة وجَاءُوا ليَسْجُدوا له" (الحوار مع تريفون اليهودي 106: 4).

 

إنّ نبوءة بَلْعام التي تُعْلن قدوم المسيح ليست إلاّ جانِبًا من جوانب المَقْاطِع المُتَعلِّقة بنَجْم المجوس. وبالفعل سَتُضاف إلى هذا الصَّدى المِسْياني [مشياخي] مواضيع أخرى مثل تعويض إسرائيل بالأُمَم: فالإعلان لليهود عن قدوم المسيح كان قد جاء في الكتابات المقدسة؛ أما الإعلان للأُمَم فهو يَتمّ عن طريق النَّجْم. وهذه الفكرة توسَّع فيها إفرآم في نشيد الميلاد 24، الذي يمثِّل فيه نَجْم المجوس الشّخصية المركزية (نشيد الميلاد. 24 : 4، 16، 20).

 

لكن النقطة الأكثر أهمية تخص انعكاسات قدوم المسيح بالنسبة لعلم التَّنجيم وبصورة أوسع سلطة الشياطين.

 

إنّ التطرُّق لهذه المسألة نجده لأول مرة عند أغناطيوس الأنطاكي، أحد آباء الكنيسة (هذا إذا كانت بالطبع الرسالة إلى أهل أَفَسُس أصلية). يتساءَل أغناطيوس كيف ظهرت للأجيال أسرارُ الله الباهرة الثلاثة المتمثّلة في بُتوليَّة مريم، وولادة المسيح وموته. تَلخَّص جوابه في كلمة واحدة "النَّجْم":

 

"إنّ نَجْمًا يَشّع في السّماوات أكثَرَ من كلّ النُّجوم، وكان نورُه لا يُعَبَّر عنه، ووقف النّاس مدهوشين منه، وَاكَبَتْهُ النّجوم والشّمس والقمر وكان نورُه أقوى من كلّ أنوار النُّجوم مُجتَمِعة، وكانت النّجوم تَتَساءَل مضطَرِبةً: مِن أَيْن جاء هذا النَّجمُ الغَريبُ عنَّا؟ مِن ذلك انْحَلَّ كلُّ سِحْرٍ، وانقطَع كلّ رِباطٍ للشَّر، وقُضِيَ على الجَهْل، وهَوَتْ كلّ الممالِكِ القديمة. لقد ظهر الله مُتَأَنَّسًا [في شكل إنسان] ليُحقِّق النِّظامَ الجديد، الحياة الأبديّة" (رسالة إلى أهل أفسس 19: 2-3).

 

نستطيع أن نستشهِد من جديد بالقدّيس يوستينوس:

"قبل أنْ يَعرِف الصّبيُّ أن يدعو يا أبي أو أُمّي وهو سيَأْخُذُ قُوَّةَ دمشق وغَنائِم السّامِرَة ... [إشعيا 8: 4] هذا يعني أنّ قوة الشيطان الشّرير الذي كان يسكن دمشق سينتصر عليها المسيح في لحظة ميلاده، وهو ما حصل بالفعل" (الحوار مع تريفون اليهودي 126 :1).

 

ونفس الفكرة تعترضنا عند ثيودوتس الغنّوصي (مع اختلاف بسيط: يعتبر ثيودوتس أن ميلاد المسيح يُحرِّر المؤمنين فقط من قوة الشياطين وليس الإنسانية قاطبة):

 

"القدر هو التقاء قوى عديدة ومتضادّة: (...) إنّها تنظم مجرى الكواكب وتحكم بواسطتها. (...) وهكذا إذن فهي تتحكّم في الأجيال وترأس الكون من خلال النجوم الثابتة والكواكب والقوى الخفية، التي تسوقها هذه الأقمار. (...) وهذه الأقمار مثل هذه القوى هي من أجناس مختلفة. (...) من تباين وصراع هذه القُوى ينتشِلُنا الله بإخراجنا من جبهة صراع القوى والملائكة التي منها من هي تخدم لفائدتنا ومنها من هي ضِدَّنا (...) فمن أجل هذا نزل الرّب ليحمل السّلام، سلام السماء، لمن هم على الأرض، كما يقوله الرّسول [أحد رُسُل المسيح]: "السَّلامُ في الأرض والمَجْدُ في العُلَى". فلهذا السبب طلع نجم غريب وجديد مُقوِّضًا نظامَ النجوم القديم، ساطِعًا بِنُورٍ جديد ليس من هذا العالم، ورَاسِمًا سُبُلَ خلاص جديدة، ــ مثلما فعل الرّب نفسه، مرشد البشر، هو الذي نزل إلى الأرض لينْقُلَ الذين آمنوا بالمسيح من القضاء والقدر إلى عنايته الإلهية " (إكليمندس الإسكندري، مقتطفات من ثيودوتس 69-75).

 

وقد بسط أوريجانوس نفس هذه النقطة:

"للسَّحَرة صلة بالشياطين والجنّ ويستحضرونها حسب فنِّهِم وأغراضهم. وهم ينجحون في ذلك ما لم يظهر أو يُقال شيء إلهي أكبر وأقوى من الشياطين ومن الرُّقْية التي تستدعيها. ولكن في حال حدوث تجَلي إلاهي تتحطّم كل قوى الشياطين عاجزة عن مواجهة النور الإلهي. أيضا، من المُحتَمل إذن أنّه عند مولد المسيح لمَّا "انْضَمَّ إلى المَلاكِ بغْتَةً جُمْهورِ الجُنْد السَّماويِّين"، مثلما كتب لوقا، وأنا على يقين من ذلك، يُسبِّحون الله فيقولون: "المَجدُ لله في العُلَى! والسَّلامُ في الأَرضِ للنَّاسِ فإِنَّهُم أَهْلُ رِضَاه!"، عندئذ فقدت الشياطين عزيمَتَها وقوَّتَها؛ وبَطَلَ سِحرُها وتوقّف تأثيرها؛ فلم تخسَر الشياطين فقط بمجيء الملائكة حوالي الأرض عند ميلاد المسيح بل أيضا بروح يسوع والألوهية الحاضِرة فيه" (الرَّد على كلسوس 1: 60).

 

إن مَقَصْد كلِّ هذه النصوص، التّي تُطوِّر كما هو واضح، فكرةً جِدُّ عاديّة، هو نفس المقصد: السِّحر مُقامٌ على عَهْدٍ معقود مع الشياطين التي تُهيِمِن على العباد بواسطة قُوَّة الكواكب؛ إلاَّ أنَّ ميلاد المسيح كَسَر سلطة الشياطين وفي نفس الوقت قوَّةَ الكواكب (لا يعني هذا بالتّأكيد أنَّ الشياطين والكواكب لم تعد لها أيّة سلطة، لكن بمعنى أنَّ قوَّتها انهزَمت من طرف قوَّةٍ أعظم تُهيمِنُ عليها). نهاية سلطة الشياطين هي علامة ميلاد عَصْر جديدة عُربونه قدوم المسيح وانتصاره على الوثنية ــ وهو انتصار يُفهَم بشكل أفضل باعتبار أنّ الكواكب نفسها كانت غالبًا تُعْبَد كالأصنام. وهو عصر يتحرَّر فيه الإنسان وتحديدًا من القضاء والقدر؛ ذلك العصر الذي، حسب كلام تاتيان السُّوري، "أصبحنا [فيه] الآن أَسْمَى من القَدَر، فعوضًا عن الشياطين التي تُغرِّرُ بنا وتُغْوينَا، تعلَّمنا كيف نعرِف الرَّب الذي لا يُضِلُّنا" (خطاب إلى الإغريق 9). وهذا العصر الجديد يُصاحِبُه بالطبع "السَّلام"، الموضوع الذي يقودنا من جديد إلى سورة القدر (س 97: 5).

 

(يتبع)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

 

* نُشِر هذا المقال بالفرنسية تحت عنوان:

Guillaume DYE, « La nuit du Destin et la nuit de la Nativité »

ضمن كتاب:

Guillaume Dye & Fabien Nobilio, Figures bibliques en islam, Bruxelles-Fernelmont, EME, 2011

 

(1)      كتابات روائيّة منحولة، متشابهة نوعا ما، منسوبة إلى القدّيس إكليمندس الروماني وتُسمّى "كليمنتينا" أو "سيّدو كليمنتينا". وهي تشتمل على عشرين عظة تتحدّث عن المسيح كمُعلّم وليس مُخلِّصًا وتنكر لاهوته، ثم "المُدركات" وهي عشرة كتب وقد وضِّحت فيها عقيدة الثالوث المقدّس، وبالأخير، "الخلاصة" وهي عبارة على مقتطفات من العظات. هناك كتابات أخرى بالعربيّة وهي مقتطفات من المدركات والعظات. "لقد حتلت قصّة عائلة مركزا هامًا في العظات كما في المدركات، وهي تتلخص في أن سيّدة تدعى ماتلدا زوجة فوستوس ووالدة ثلاثة أشخاص: فوستينوس وفوستنيانوس وإكليمندس تركت روما متجهة إلى أثينا وفي صحبتها الابنان الكبيران، وقد اختفى الثلاثة. قام فوستوس بالبحث عنهم فاختفى هو بدوره. بقي إكليمندس بمفرده، فجال في العالم يبحث عن الحق فوجد القدّيس بطرس. التصق به ودخل معه في مناظرات حيث كان يسأله عن الحق... وقد اكتشف بعدئذ بالتتابع والدته فأخويه ثم والده. وربما لهذا السبب دُعيت أحد هذه الأعمال بالمدركات". (المقتطف مأخوذ من موقع مسيحي على الأنترنيت) [المترجم]

(2)      هناك مثال شهير: في مرقس 1: 16-18 ومتّى 4: 18-20، يطلب يسوع من سمعان وأخاه أَنْداوس أن يتبعاه ليجعل منهما "صيّادَيْ بَشر" [معنى إيجابي]. ولكنّ هذا التعبير يذكِّر بما جاء في سفر إِرميا 16: 16 أين يقع الحديث عن اليهود العُصاة الذين يُسلّمهم الرّب إلى "صيّادين كثيرين ... فيصطادونهم" [معنى سلبي]. فالصيّادون، أشخاص عدائيّة أرسلهم الرّب لمعاقبة المجرمين، يصبحون في التبشير الإنجيلي رُسُلاً يبعثهم الرّب لتخليص البشريّة.

(3)      هذا النّص مأخوذ من الترجمة السبعينيّة (LXX) وهي نسخة للبَيْبِل العبري باللّغة الإغريقيّة. النّص الماسوري ["الماسورا" كلمة عبرية مشتقة من الجذر (م س ر) وتعني (نقل) (أوصل)] يختلف بعض الشيء: "يَخْرُجُ كَوْكَبٌ مِن يَعْقوب ويُصْبِح سَيِّدًا، ويقومُ صَوْلَجَانٌ من إِسْرائيل".

(4)      الأناجيل القانونيّة الأخرى لا تذكُر النَّجم، وذلك بخلاف أناجيل الطفولة المنحولة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عقلي عجز عن الفهم.
salah amine ( 2016 / 5 / 27 - 22:35 )
لا يمكن لإنسان عاقل أن يتحمل جزء من مليون، محتوى هذه السخافات المنشورة في هذا الموضوع. إني أتساءل بصدق، هل هذه قناعة حقيقية بهذه الخرافات، أم أن هناك مصالح مادية يبحث الناس عنها من أجل تحقيق ما يصبون إليه؟؟؟؟

اخر الافلام

.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah