الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأميرة والمؤذن

عباس مدحت محمد البياتي

2016 / 5 / 25
الادب والفن


الأميرة والمؤذن *

كان يا ما كان في سالف العصر القديم والزمان، امرأة بيضاء، رشيقة القوام، تسر الناظرين، لا يتجاوز ربيع عمرها العشرين،
متزوجة من شاب ذات عفة وشهامة، لا يقل عنها جاه ولا وسامة تسكن في دار قريبة من المسجد الكبير، التابع لحيهم في ضواحي مدينة بغداد الشمالية.
كانت هذه المرأة، المتدفقة حيوية وبهاء، تتأنق بلبسها كل مساء، ترتدي الفاخر من أقمشة السندس، والإستبرق، تداعب زوجها الودود، تمرح بين الورود، تلعب معه كصبية في باحة البيت الكبير . سعيدة ،عزيزة نفس، كريمة، لبقة، ذكية، لماحة، أميرة على عرش بيتها، كما هو أسمها ( أميرة ) .
لا ينقصها شيء من بهجة الحياة ، سوى جلسات سمر نسائية، تروض بها الذات، لترشق الحياة بنمنمة الأخبار وكركرت والقهقهة النكت والطرائف.
هذا هو طبع المرأة، مهما علت وكبر شأنها، مهما أسعدها زوجها ولبى رغباتها، مهما لمع في الأفق حظها، فلابد من ألفة نسائية تجمعها مع صديقة أو صديقات، تسفر لها أو لهنَّ ،ومن خلالها أو خلالهنَّ عن ما يغز مشاعرها المختبئة تحت ظلال الأنوثة، تصرح لهنَّ بكل ما للحديث من شجون مسموح أو ممنوع، حتى بما يهين أو يخدش وجه الحياء ،فالمرأة لا تغير جلدها مهما علت.
هكذا هي خلقت، وهكذا يجب أن تكون.
المرأة : مخلوق ناعم، بنفسجي، رقيق، يحتاج للألفة والدعم والاهتمام، فلابد لها من علاقات وصحبة ، تداول فيها احاديث خاصة ، لا ينبغي للرجل أن يسمعها .
جلسات تفرغ فيها مكنونها من الهموم النفسية، وأخرى ذات سموم خارجية تلسع به ذاتها .
فهيَّ بحاجة للضحكة والنكتة والتخاطر. فالأفراح والأتراح قناطر في طريقها، تحتاج لرفقاء في عبورها .
تحتاج الشمعة لوسط ظلام لينبثق نورها، لتبقى جميلة رفيقة الوئام، لماحة، مبهجة، لتبث في الأفق محبة صادقة، وحيوية ممتعة، لتبث في الأسرة السكينة والدافع والقوة، لتبعد عن إرهاصاتها الملل والكلل، وخاصة في زمن لم تجد المرأة فيه مساحة واضحة للترفيه أمام زحمة وعنجهية الرجل .
في زمن تنعدم فيه المقاهي النسائية, والملاهي العصرية، وأماكن الاستجمام والهيام . أنها تعيش في غابة لا يوجد فيها أوكسجين للحرية ، فلا بد من متنفس تصدح بها أنفاسها تصنعها بنفسها .
المرأة كيان رقيق جدا، هي أرق من ورق الشفاف، أنعم من فراء القطن، سلاحها أنوثتها وسحر جمالها.
هي من همسة تهفو بها الريح، من لمسة ترق وتريح، هي نسمة يشتاق لها الزهر، هي نعمة كالضوء ،كالمطر، سريعة التأثر، بديعة المنظر. تحترق بكلمة ، كما يحترق البترول من شرارة. تبرد بهمسة كما تبرد من نغزه الإثارة .
هي بركان الحنان ، هي فردوس الجنان. هي تغتسل بالمدح، أشبه بالوردة حين تغتسل بندى الصبح.
لذا تجدها ترغب بمن يهتم بها، وتفرح بمن يتغزل بها، وتهتم بمن يعظمها ويفكر بها.
هي كألوان الطيف! أينما تذهب تجدها شاخصة بكيانها.
هي سيف بعنادها، نار بغضبها ونفورها إذا ما عاكسها الحظ والنصيب، رغم الرقة التي تحملها إلا أنها لحظة الجد تكون أَحَدِ من شفرة السكين.
هي موجودة في البيت والشارع، في الضحكة والدمعة، في أعماق الشجون، في الفكر المجنون، هي على ضفاف الشفاه نائمة، كوردة الزيزفون .
كصفة الألوان، تتأثر بالطقس، فيتغير لونها مع تغير درجة الحرارة ، تزعل ، ترضى، تحملها الأهواء، فلا غرابة أن تباهت بلبسها، أو بزوجها ، أو بأملاكها، تود أن تقرأ ما بين السطور، فتدخل أنفها في ما لا يعنيها.
تود أن تستمع لأنباء الزواج والطلاق، لها حب استطلاع وفضول كبير.
أحيانا ترغم نفسها في مشاكل أصحابها, وقد ترغب في تسيير آرائها وأفكارها، فأنها تشعر بمتعة ولذة في ذلك، تشعر بكيانها له موقع في العيون المحيطة بها.
إذا لابد من صداقة تروض هذا الخليط من الشجون المخزونة في بودقة أفكارها ، لتزيل أشواك الوحدة من رصيف مسارها .
وإلا - فأنها ستكون سكينة حادة تقطع كل من يعتريها، أو تكون صلدة كالحجر العاثر في طريق السعادة.
خلال تواترها في الأسواق للتبضع، تعرفت على جارتها أميمة، وهي امرأة لعوب، تقاربها في السن، تعرف خبايا المنطقة وما يدور فيها من أسرار الأمور ولبد المشاكل المخفية .
وهي تعرف (شيخة) ! أو بيت الشيخة ! أو الدادة كما يسمونها النساء .
وهي امرأة طاعنة، تجتمع في دارها النساء ،ليقضينَّ فيه جلسات سمرهنَّ، يتعرفنَّ على حظوظهنَّ من خلال قراءة الفنجان, ويستمتعنَّ في تدخين النرجيلة ,وارتشاف الشاي مقابل مبلغ زهيد يدفعهنَّ للدادة .
كما يحدث في الدار صفقات السمسرة, من اتفاق وفراق وتعارف وصحبة وزواج وطلاق وحب وغرام، والاستمتاع في سماع القصص الشجية، كقصص ألف ليلة وليلة، ومداولة مشاكل الناس ---- الخ من هذا القبيل النسائي كما نعرفه في عصرنا هذا.
أي تستطيع معرفة كل ما يحدث في البلد في دار الحجة أو الداده.
ممكن أن تتعرف المرأة على أخبار زوجها، إذا ما أرادت أن تتقصى أخباره، فالبيت هو أشبه بنادي التعارف، أو المقهى الشعبي، أو نادي اجتماعي.
لا يوجد في بيت الداده خط أحمر لكائن من كان، الكل ممكن أن تذكر سيرته بالسلب أو بالإيجاب .
كانت المدينة معمرة بالخضرة والبساتين، يعتليها أشجار النخيل الباسقة، تلك التي تحتضن أشجار الفواكه المنوعة من ما لذة وطاب، وخاصة الحمضيات، والأعناب، والتين، والقليل من الزيتون .
كما أن طبيعة الأرض المنبسطة ، والخير الوفير السائد، فرض على الناس أشكال بيوتاتهم، بحيث كل بيت يتكون من طابق واحد، أو من طابقين، وفناء واسع يتوسط حوش البيت .
كان الناس يعتمدون في تنقلاتهم على الدباب برا، أو على الكلك والإبلام نهرا، كما يعتمدون في إنارة طرقهم على الفوانيس والقناديل الزيتية، لتعينهم على الظلمة أثناء الليل قبل اكتشاف الكهرباء.
كان واجب على المؤذن أن يصعد على قمة منارة المسجد كل يوم لخمس مرات ليؤذن بالمصلين. وفي كل مرة يرتقي بها منارة المسجد، كان يشبع فضوله في التمعن والاستمتاع في النظر لبيت الحسناء (أميرة).
يطل على حسن هذه المرأة الجميلة، تلك التي سرقت قلبه أسرت فكره، أعمت بصيرته، فيسترسل بنظراته طويلا، حتى يكل من بؤس النوى، حتى تصطلي أحشائه بنار الجوى.
لم يستطيع على مقاومة أهوائه. لم يجد حلا لذهوله وهوسه بها، عانى كثيرا من ولعه بها، تكاد تكون أطيافه التي لا تستكين في خواطره، مشغولة بشكلها ورشاقة جسدها وأناقتها، وهي تجري كالطاووس أمام بعلها حين تود أن تروضه وتسترق قلبه.
أضحى لا يحتمل نار إشراقها، بات يرتقي المأذنة قبل موعد الآذان بفترة ليستدفئ بحسنها . أحيانا يتأخر عن موعد الآذان ، ناسيا نفسه في صراعه مع إرهاصته .
أحيانا يشعر بالمأذنة تميل به حين يراها كالخشف تتمختر بلباس شفاف في أرجاء البيت خلال فترة آذانه، فيفقد توازنه فيبدأ بالصراخ المقيت ...الله واكبر... بشكل غير معتاد عن سُلّم الآذان الموسيقي الشجي.
حتى أنه في كثير من الأحيان كان يتلقى ملامة الناس على سوء أدائه، وكأنه في سلوكه المشين كان يود أن يشد أنتباهها إليه . لكنه في الحقيقة شد أنتباه الناس جميعا إلا انتباهها . لا يغنيها عن محبة زوجها الكون بأسره .
هذا المؤذن المراهق كان يسكن في دار قريبة من نهر دجلة، لا تبعده عن المسجد سوى مسافة 500 م من الجهة الغربية له، وعلى بعد أمتار من بيت الداده أو الشيخة .
وهو شبه أعزب، بعد أن هجرته زوجته منذ سبعة أشهر لزيغ قلبه، وبجاحة عيونه التي تنهش بأجساد الحريم .
كانت أميرة قد شكت لصديقتها من شبح الوحدة التي يعتريها ، فأشارت لها أميمة على مرافقتها لبيت الداده ، لتغيير جزئي من روتين حياتها . لتستمتع بصحبة جديدة ، لسماع قصص شجية حقيقية وخيالية من ما تطرحها الداده أو النساء الأخريات --- الخ، ولتتعرف على مواقف مما يدور في أروقة الدار من أفراح وأتراح، من جذب ونفور، من جدل وهيصة .
سرها اقتراح أميمة، فاستأذنت من زوجها العزيز، الذي لا يرفض لها طلبا إلا ما ندر.
رافقت أميمة لدار الشيخة، كانت هذه الجلسات تحدث عادة كل ليلة جمعة ، فقد استأنست كثيرا في مشاركتها هذه الجلسات، بعد أن تحررت من الوحدة المقيتة.
لأول مرة شعرت بأنها تفهم ما يدور حولها، وأنها قريبة جدا من المجتمع، ففي كل مجتمع يوجد الطالح والصالح، فلا مانع من التعرف على أشكال البشر الجميلة والقبيحة، عسى أن نتجنب الباطل منها، والضحل من مستويات المجتمع.
تعرفت خلال وجودها على وجوه جديدة . تآلفت وصاحبت تلك الوجوه الغريبة بألوانها المختلفة، وبأمزجة متناقضة شرعت بصداقات؛ البعض منها لها وزنها و كيانها، والبعض الآخر فيها من الهيافة ما تشمئز منها النفوس .
كانت لأميمة الدور الأكبر في نزع وشاح الخجل من على وجهها، وترويضها في بودقة المجتمع الجديد، فسرها سماع القصص الشجية، وهموم بعض النساء وخاصة تلك المشاكل الزوجية التي فضفضنَّ بها بعض التعيسات ممن لا يجدنَّ في أزواجهنَّ ما يسعدهنَّ، فشكرت الله على حسن الألفة بينها وبين زوجها، وعلى ذلك الرقي الذي يتميز به عن سائر الرجال.
كما استمتعت كثيرا مع قارئة الفنجان، تلك التي حدثتها عن مستقبل مشرق ينتظرها ويروق لها، عن دلالات فرص تحاك لها، لتكون سيدة مجتمع من الطراز الأول في غضون بضعة أشهر، أو بضع سنين.
لكن ( كذب المنجمون ولو صدقوا ) . فهي مدركة تماما لكل ما يحيط بها، رزينة في أخلاقها، حكيمة في قراراتها، أميرة في تصرفاتها. لذا أحبها المجتمع النسوي لسماحتها ولباقتها وفرط جمالها وحسن اختياراتها، على رغم من أنها غير مدركة تماما لنوايا الجميع .
كانت تنقل كل ما يحدث ويدور في الدار من أحاديث وما رأت عينها من وقائع، وما طرق أذنيها من أخبار لزوجها الحبيب. تلك الصفة جعلتها تزداد حبا وثقة من قبل زوجها ، كما جعل زوجها لا يمانع من تكرار ذهابها لبيت الداده، طالما تلك الجلسات تزيدها راحة بال، وسعادة، وحيوية .
كان آخر ما تداولته هذه الجلسات من أخبار، خبر عن مرض ملك البلاد ، ترى من سيخلفه؟ وهو الذي ليس له وريث شرعي يذكر.
سالت زوجها المتعلم والمدرك والمتابع لأخبار وشؤون الدولة، كونه موظف مرموق في مديرية بلدية المدينة...
...:أحقا أن ملك البلاد يعاني من مرض عضال وهو على فراش الموت ؟
الزوج: يقولون ذلك والله أعلم، أسرار القصر لا أحد يستطيع الاطلاع عليها، كما يقولن بأن الملك قد كتب وصية حول من سيخلفه، وهذه الوصية لن تقرأ إلا بعد وفاته، وأمام الملأ .
تكررت هذه الجلسات أسبوعيا لمدة شهرين تقريبا، فأصبح منهج روتيني من منهاج الأميرة الشابة (أميرة)، باتت لا تستطيع الاستغناء عن هذه الجلسات طالما فيها التنوع والغرابة والألفة.
كما أصبحت الألفة بينها وبين (أميمة ) على أشد قوة ومحبة فأخذت منها الضحكة والنكتة ، والمكر مقابل العفة والرزانة ، والشخصية .
تلك الفوارق جعلت أميمة تزيدها احتراما وتقديرا، بحيث لا تخالفها رأي أو قرار، خاضعة لسلطانها، منجرة خلف ظلها .
كما جعلت أميرة تستلطف أميمة، وتستعطف عليها وتكرمها، كأنَّ كلٍّ منهنَّ بحاجة للأخرى . لذا كانت أميرة لا تتجرأ بأن تذهب لبيت الشيخة ،إلا برفقتها .ولا تخرج للتبضع في الأسواق إلا بصحبتها . فكانت يعجبها حسن تعاملها مع الباعة ،والسماسرة الذين يقفزون على ظهر الزبون الغشيم ، ليستغلوه ماديا .
لذا فقد ساعدتها في تخطي كثير من العقبات أثناء تجوالها في السوق ،وفرت عليها الكثير من الوقت والأموال أثناء تبضعها لحاجات المنزل، وبعض الأقمشة النسائية الراقية التي أعجبها القطنية والبولستر و الجورجيت ....الخ.
بفضل أميمة ؛ فأنها دفعت أقل مما كانت تدفع في العادة للباعة .
كان المؤذن قد تتبع أثرها أينما تمضي وأينما تحل، وقد تابع هذه العلاقة الطيبة بين الامرأتين، فحاول مرارا أن يستدرج أميمة للإيقاع بصديقتها السيدة أميرة، في فخ علاقة غير شرعية، مقابل رشوة يقدمها لها .
إلا أنها أبت ذلك، لما عرفته عنها من عفة، وعزة، وأخلاق كريمة، فليس كل طير يأكل لحمه.
كما بدورها قد أَطْلعتْ صديقتها أميرة على كل ما دارَ بينها وبين المؤذن، أو ما يدور في خلد المؤذن من مكر وخبث ، حذرتها كي لا يستدرجها لمهاوي دناءته، أو تبيح لطيبتها أن تغوص في متاهات خبثه .
من جانبها السيدة أميرة لم تخبر زوجها بمحاولات المؤذن الخسيسة لأنها لم تعر إليه أية أهمية، ولا تجد في محاولاته إلا تفاهة لا قيمة لها، لا يمكن أن يحقق ولو 1% من ما يفكر فيه ويسعى إليه .
لذلك لم ترغب بأشغال زوجها بأمر تافه لا قيمة له تعكر مزاجه به، وهو الواثق بتصرفاتها المستقيمة وأخلاقها المتزنة.
كما أنها لم ترغب بأن تعقد الأمور دون أن تكون في الحسبان بادرة ملموسة، كون الأنسان لا يحاسب على الظن أو النية المعقودة في قلبه وفكره . لذا لم تعطي للموضوع أهمية تزيد من حجمها، بذلك تكون القضية قد خرجت عن إطار التفاهة لموضع الجدية، وربما توصلها للفضيحة، وخاصة هناك من يطبل للباطل بأيديه ورجليه.
بعد أنْ كلَّ من المحاولات الفاشلة التي سعى إليها, مقابل عجزه عن أقناع (أميمة ) في استلطافها، أضحى يبحث عن مفاتيح جديدة لأقفال (أميرة) الغليظة .
أدرك المؤذن بأن أميمة دائما ما كانت توصد الأبواب بوجهه، لذا شرع أن يسلك طرق أخرى ليختصر المسافة لمآربه .
فوجد في الداده أفضل السبل وأسلمها لتعينه على همومه لتلبي رغابته بيسر وسلامة . ... طرقها سهلة ومعبدة، مقابل بعض المال يدره عليها، كون الطمع صبغتها، وكون الخبرة مسلكها، فالأمر ميسر معها فهيَّ صاحبة كار.
إضافة لقرب دارها من سكنه، فهذه الممارسات معتادة عليها، فلها زبائنها من الشخصيات ووجوه تميل لهذه الطرق، وتستند عليها في مساعيها.
الشيخة لن تمانع في مثل هذه العلاقات الخسيسة أن تجري في دارها طالما يدر عليها المال طالما هناك من يدفع لها المال ببذخ.
إضافة إلى ذلك؛ فأنها ستحتفظ بملف امرأة جديدة، في سجل الشرف العام الممتلئ بأسماء البغاة. فهذا السجل يخر عليها ذهبا . هذا العمل سيكون إضافة لها وعون لإيام قادمة، بعد أن تمسك برأس الحبل الذي سيلتف حول رقبة المعنين في الجريمة .
وقد خصصت غرف جاهزة وخاصة لهذه الأعمال خلف دارها، لن يدخلها إلا المعنيين. فهي في الظاهر صاحبة جلسات سمرية ومقهى نسائية. وفي الخفاء قوادة معنية في أمور النساء . لذا فالاتفاق مع الشيخة يسير ، ولا يكلفه سوى بعض الدنانير .
بخس المال الحرام .
أتفق مع شيخة على أن تستدرج السيدة أميرة للمرفق في الخلاء الخلفي للدار ،والذي هو مرفق سري لا يعرفنَّه حتى النساء إلا من اللاتي مارسنَّ البغاء والدعارة فيه.
وهو مكون من غرفة نوم مهيأة بكافة أثاثها، وحمام واسع، ومطبخ صغير، يحتوي على بعض المسكرات، من نبيذ معتق وخمر محلي وفواكه ،كما يوجد فيه باب يؤدي إلى الفنار، إلى شاطئ النهر .
خلال أحدى الجلسات النسائية، كنَّ النساء منشغلات بقارئة الفنجان، كل منهنَّ تبحث في عنق الزجاجة عن طالعها، منشغلات في إرهاصاتهنَّ. استدعت الشيخة السيدة (أميرة) للخلاء لتداول أمر هام وسري معها، كونها صاحبة عقل راجح ،وذات وجاهة .
وبحسن نيتها مضت السيدة أميرة خلفها، تتبع خطواتها المسمومة حتى دخلت الغرفة المعنية. أجلستْها على سرير قطني، وقالت لها..
...:انتظري هنا حتى أعود إليك لأطلعك على سر هام وجدي.
خرجت شيخة من الغرفة ولم تعد إليها، كانت قد أوصدت البيبان الداخلية والخارجية ، وعادت لجلسات السمر التي تدير شؤونها، وكأنَّ شيئا لم يكن .
أما أميرة التي بقيت وحيدة في الغرفة تنتظر عودتها دون جدوى خالها الشك من سعي شيخة، ومع ذلك ودت أن تنتظر لتعرف الخبر اليقين . الفضول هو الذي جاء بها، وهو الذي شرع في بلورة فكرة الجلسات، فمعرفة الأسرار غاية تود خوض غمارها.
لم تمضي سوى لحظات، حتى سمعت صرير باب يفتح ! تأملت خيرا، توقعت بأن الشيخة قادمة .
لكنها دهشت حين رأت رجل يدخل الغرفة بلباسه العربي الأبيض! (الدشداشة وغترته البيضاء) أشبه بالشبح في القصص الخيالية.
أمسكت ذعرها بين خافقيها، وغطت وجهها بوشاحها، وسألته بتردد من أنت؟ كيف دخلت؟ ماذا تريد؟.
قال: أنا من عصفت به ريحك ، فذرته أشلاء بين أشواك اليباب. أنا من فقد لون نومه وصار شاعرا يناجي القمر، تحيطه الأسلاك في زنزانة أسرك .
أنا الضائع في حيرة غبراء .
أنا الرقي ذاته، ملك الهوى، الحيرة رسمتْ خطوط غايتي.
أنا المسكين أبن السبيل، أطرق أبواب السعد في ضواحي قلبك. أنا العاشق المعذب بسوط صمتك .
أنا العبد الأمين الذي فقد كل شيء في أثر خطواتك، ومع ذلك ظل صامتا، لا يكل، ولا يمل من خلاف حبك.
أنا الغريق يا معذبتي في أمواج سحرك، أنا قيس الملوح، أنا المؤذن!!
قالت : وما تبغي مني يا قيس ؟
قال : كل شيء فيك هو يعجبني، لبسك، مشيك، جمالك.
هجرتُ زوجتي وانشغلتُ بك ،فلن يهدأ لي بال إلا برضاك عني.
أبغي منك روحك الطيبة، وهذا الجسد الناعم الذي يعزف الحسن على أوتار مشاعري.
أنا الهائم في عيونك العسلية .الغارق في بحر شفاهك الوردية .
جسدك الرشيق، كالسوط، كعود الخيزران يجلدني كل يوم خمس مرات (أوقات صعوده على المأذنة ليأذن بالناس أوقات الصلاة )
سأعجبك كثيرا، فقط جربيني ! سأكون لك العبد المطاع، سأكون المارد بين يديك ما حييت، سأكون لك المركب والشراع، شبيك لبيك أنا العبد بين يديك.
حينها أدركت بأنها قد وقعت في فخ الدادة، ومصيدة المؤذن، أنها بين فكي كماشة ذات أسنان الحادة، لا بد من مكر، وحيلة ، تجنبها خدوش جلدها الطري .
لا بد من تسيير الأمور بالعقل، والدهاء قبل أن تفقد من وجهها البهاء والحياء.
حينها تذكرت حديث أميمة عن هذا المعتوه الذي يلاحقها، لذا خلعت وشاحها من رأسها، ابتسمت له برقة وعذوبة قل نظيره ، حتى ذاب شوقا فيها .
قالت له: حسنا يا قيس أنا لا أمنع نفسي عنك، طالما أنت تعشقني لهذا الحد... لقد أخبرتني أميمة عنك وعن محاولاتك معها لأقناعي كثيرا.... لكني كنت خجلة منها لا أود أن يعرف أسراري كائن حي، أنا أيضا أود الاستمتاع بعاشق فريد مثلك... بحب من نوع آخر لا يمتلكه زوجي .
سأتفق معك على كل شيء ... على أن تحافظ على السرية من أقرب الناس لك ... وضعي حساس جدا... لا أريد إشاعات تلفني وتلقفني بين ألسنة الناس .
قال : نعم الرأي – وهو كذلك .
قالت : لا تستعجل !! فلن تنالني إلا بشروطي – فلست كباقي البغاة من النساء.
قال : اشرطي ما بدا لك .
قالت: أولا عليك أن تخبرني كم دفعت للداده كي توقع بي ؟
نكس رأسه، أجاب خانعا --- عشرة دنانير.
أخرجت من جيبها عشرة دنانير وسلمته له .
قالت له: خذ فلوسك... أنا لا أبيع جسدي لمن يعشقني، بل أهبه ما يريد.
تلك الكلمات هدأت من جماحه، قيدت انفعالاته صار أشبه بالقطة الأليفة . أراد أن يمسك بيدها، لكنها منعته.
فقالت له: ليس قبل أن تنفذ الشرط الثاني.
عليك أن تستحم أولا.
قال : أني استحممت، جاهز منذ ساعة تقريبا... كنت أنتظر قدومك.
قالت: إذا عليَّ أن أستحم.... وعليك أن تخلع ملابسك بالكامل وتنتظرني هنا ( أشرت على السرير القطني ).... على هذا السرير حتى أتم استحمامي. يجب أن أكون جاهزة لتقبلك نفسيا وبدنيا ، وروحيا، وإلا فلا أنفعك .
خلع كل ملا بسه حتى الداخلية منها، أخذت الملابس معها إلى الحمام. حاول أن يمسك بها إلا أنها خادعته، ودفعت به برفق للخلف مع ابتسامة مذهلة على شفتيها، فترنح على السرير القطني.
قالت له : لا تكن عجولا يا قيس، أنتظر ليلى تأتيك بأبهى صورة، بمثل منظرك هذا . ( أشرت عليه بأصبعها دلالة على الخلاعة الذي هو فيه )
دخلت الحمام وأوصدت الباب عليها من الداخل بمزلاجه، ثم رفعت مزلاج قفل الشباك الواسع، المطل على الشاطئ بعدة كماشة حديدية صغيرة متروكة في الحمام .
تمكنت من الهرب عبر النافذة بعد أن تمزقت ثيابها وخدش ساقها.
انحدرت مسرعة نحو الشاطئ، وهي تركض بجلبابها تحت وحشة الليل ونباح الكلاب، تلك التي تخترق الهدوء الموحش لتزيدها وحشة وخيفة ، تركض بين الأحراش و في يديها ملابس المؤذن، تمكنت من أن تخفيها تحت الحشائش بين ثنايا الأشجار. فهيَّ لا تستطيع العودة للبيت، بعد أن تأخر فيها الوقت كثيرا.
ثم أنها لا تعرف الطريق للبيت، بعد أن تغير عليها المسلك. إضافة للخوف الذي يتبعها من محاولة الاغتصاب من قبل المؤذن.
وقبل أن تصل الشاطئ، شاهدها أحد حراس الليل! أوقفها في طريقها، أعجبه سحر الجمال المفترش على جسدها، وجد فيها فرصة لطرد وحشة الليل من ذهنه، والاستمتاع بهذا الشكل الجميل والجسد اللطيف المدهون.
مد يده على خدها، ابتسمت له، ضمها إلى صدره، حاول أن يقبلها، انسلتت من بين يديه كالسمكة، خارت قواه ، جذبها لتحت ظلال شجرة صفصاف بقوة .
أمسكت يده وحاورته، اشترطت عليه أن يخلع ملابسه حتى تسلمه نفسها.
لانَ لشرطها، قلبه غلب عقله، تمكنتْ بدهائها أنْ تسرق سلاحه وثيابه، هددته من ملاحقتها وإلا لن تمنع نفسها من قتله.
تركته حائرا في أمره ، لا يستطيع أن يتجرأ على صرخة هوانه . انطلقت بعيدا عنه، وفي زاوية من الشاطئ خلعت ملابسها وارتدت ملابس الشرطي ، أخفت كرستال شعرها تحت القبعة (البيرية).
اتجهت للقارب، فلم تجد مشقة في القارب، بعد أن ارتدت لباس الحرس، فهو المهاب من قبل الجميع، وهو المقدر من قبل الصغير والكبير، ذا سلطة و ذا أمر مطاع.
صعد الشرطي مع عدد قليل من المسافرين في القارب متجهين إلى مركز المدينة بغداد. لم تكلم أحدا داخل القارب، لكنها شعرت بأن البلام لا ينفك من النظر إليها . لم يرى شرطيا بهذه الوسامة والرقة، كما أنه من المفروض أن يعرف كل الذين يعملون في سلك الشرطة، كونه ينقلهم من ضفة لأخرى باستمرار، ولكن هذا الوجه كان غريبا عنه.
لم تدم المدة، وصلت للضفة الثانية بعد انحدار ساعة في النهر. كان الفجر قد بانت خيوطه في الأفق، البرد لايزال قارص خلال شهر نيسان.
جلست لدقائق معدودة وحيدة على الشاطئ، لتعيد أنفاسها وترتب أفكارها، تذكرت زوجها الطيب، فهي خجلة من مواجهته، ما كان عليها أن ترافق بنات السوء.
أحست بالذنب اتجاهه، كما أحست بأن الدنيا غدارة في طبعها، فهي حين تضحك، تخفي خلف ضحكتها مآرب وهموم جمة، تلك التجربة عرفتها على معادن البشر، مآرب الناس وغاياتهم التي لا تدرك، والنفوس لا تتشابه، بعضها معجونة بالسوء.
نزلت دموعا على خدها الناصع مسحتها بـ أتراف كفيها ، شهقت شهقة ملئها حصرة وندم ألمت بها .
سارت وحيدة تجر خلفها حيرة صماء، كيف ستواجه أهلها, وكيف ستصل إليهم، وهي في قرارة نفسها لن تستطيع أن تكلم بشرا في الطريق، الكل يطمع بها، كما أنها لا تود أن تكشف سرها بارتدائها لباس الشرطي .
أخذتها أقدامها في مسالك وعرة لم تسلكها من قبل. القدر كان دليلها، والحزن كان رفيقها، والصدفة تقمصت حظها، فأوصلتها لساحة كبيرة مفتوحة من كل الجهات، يتجمع بها جمهور كبير من الناس.
ودت أن تتقصى الأمر، وقفت مع الواقفين في الخطوط الأخيرة. سالت امرأة عجوز واقفة بجانبها دمعها يخامر عيناها المرتعشتان، الرفافتان، المحمرتان .
قالت : للعجوز ماذا يبكيك يا أمي ؟ لِمَ هذا الحزن ؟
قالت العجوز : يا حسرتي على الملك الطيب، كان عادلا في كل شيء ، حتى في وصيته لم يبغض أحدا... لقد مات دون أن يترك خليفة من صلبه.
قالت : وهل مات الملك ؟ .. هل عرفتم وصيته ؟
العجوز: أكيد يا أبني؛ طلب من الحاشية أن يختاروا أميرا جديدا للبلاد عن طريق طير السعد.
( طير السعد : حمامة بيضاء يتم إطلاقها فوق رؤوس الملأ لاختيار الملك الجديد، فيكون سعيد الحظ من تقف الحمامة على رأسه ، وسيكون ملك للبلاد) .
ادركت بأن الملك قد توفى، وأن هذا التجمع والاحتفال، هو لاختيار الملك الجديد، لذلك دفعها الفضول أن تشاهد تتويج الملك الجديد، رغم الإرهاق والتعب الذي حل بجسدها ، رغم الجوع والعطش الذي تشعر به .
فرصة التتويج هي فرصة نادرة لها دلالة في نفوس الشعب لن تتكرر أل بعقود من الزمن، الملوك لن تترك عروشها إلا بقدر الموت، أو بالثورات، والانقلابات العسكرية. ف للكرسي سحر لا مثيل له. سحر مبهر ومذهل مغناطيسي، لن يشعر به إلا مراديها. وعسى أن يكون خيرا يخدم الناس البسطاء والوطن .
وبعد خطاب التأبيني المخصص لروح الفقيد، الذي أستهل الاحتفال به رئيس الوزراء أستهل تجمع الناس ليأذن بأطلاق طير السعد أمام الجمهور، لاختيار الملك الجديد .
(من المعروف إذا ما وقف الطير على رأس شخص ما يتم اختياره ملك للبلاد ).
استل تلك اللحظة من الصمت المطبق على الجمهور، وأطلق خلالها رئيس الوزراء طير السعد الفضي، وبعد تمعن وانتظار، وبعد أن دار الطير في الأجواء ثلاث دورات فوق رؤوس الناس، حطَّ على رأس الشرطي (أميرة ) .
تهللت أفواه الجمع بالترحيب والهتافات، لكن ذلك لم يعجب بعض المتنفذين في الحكم، كيف يمكن لشرطي أن يكون ملكا، لازالوا لم يكتشفوا أمرها بعد.
لذا تم إعادة الكرة مع طير السعد، وكما كان في انطلاقته الأولى، عاد و بنفس الطريقة السابقة ووقف على رأس الجميلة أميرة مرة أخرى.
حين أذ حسم الأمر رئيس الوزراء ، فأقر بصحة الاختيار، وتم إعلانها رسميا ملكة على العرش، بعد أن شرحت لهم قصتها بحذافيرها وبالأسلوب الممل.
أنها فتاة جارها القدر، وجار عليها الزمن، فأجبرها على الهروب من قدر لقدر آخر، حاصرها المؤذن بقدره ،فلم تجد مناصا من الهرب لتجد نفسها في مخمصة قدر الشرطي، وبعد عناء تمكنت بدهائها من التملص من قدره ، لتجد نفسها كقشة في طوفان التتويج .
تمثل لها الحظ بلباس شرطي لتعتلي قمة الهرم وتتوج ملكة للبلاد.
احتفلت البلاد بتتويجها، فألبسوها تاج العرش. شاع خبرها في الأرجاء، امرأة حسناء أرتقت عرش الأمراء.
بعد أن توجت أقرت عدة قرارات.....
كان قرارها الأول بأن تنشر صورها في أرجاء البلاد كافة، وكل رجل أو امرأة يقف أو تقف أمام صورتها، وينتابها أو ينتابه الحسرة والألم يخالجه أو يخالجها الحزن، يقبض عليه فورا، ويحال إلى دار القضاء في قصر الملك.
ومن خلال هذه الفكرة تمكنت من القبض على المؤذن، والشرطي، وزوجها، وأميمة، والدادة، والبلام، وبعد أن شهدتهم على أفعالهم، أعترف المؤذن، بأنه قد هام بها، فلم يستطع كبح جماحه، فأستغل الشيخة للإيقاع بها .
أعترف الشرطي بأنه أراد أن يستغل فرصة متاحة أمامه تحت جنح الظلام، وأن يوقع بها بعيدا عن أنظار الناس.
اعترفت الدادة بأنها قد غرها المال المدفوع لها من قبل المؤذن فشاركته الجريمة.
شهدت أميمة بأنها فقدت صديقة رائعة علمتها الأدب، والدين والعفة.
شهد زوجها، بأنه لم يذق طعم النوم من يوم فراقها .
بذلك اتخذت القرارات التالية...
1- إحالة الشرطي على التقاعد لأنه لم يكن أمينا على أمن الشعب.
2- فض جلسات السمر التي تديرها شيخة، والتي في ظاهرها طراوة العبارة ، وفي جوهرها السمسرة والدعارة .
3- تم سجن الدادة عشر سنوات لارتكابها جرائم كثيرة بحق البريئات أمثال الملكة.
4- حكم على المؤذن بالمؤبد، لمخالفته الدين والتعدي على النساء .
5- تبرئة البلام .
فيما قربت أميمة كوصيفة لها في القصر الملكي. واحتضنت زوجها أمام الملأ ، ثم نصبته ملكا على البلاد بدل عنها . وبذلك عاشوا بسعادة وهناء واستقرار وراحة بال.
*
(هذه القصة من الموروثات، روتها لي أمي الغالية رحمها الله وأحسن مثواها ، فصغتها بأسلوب شيق).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما